خبر
أخبار ملهلبة

الكونت دي مونت كريستو | ألكسندر دوماس (الأب) | الجزء الثاني


الراهب فاريا يخرج من ثقب الممر الذي ينتهي داخل زنزانة إدمون دانتيس في قصة الكونت دي مونت كريستو للكاتب ألكسندر دوماس الأب

الجزء الثاني

 

 

في الوقت الذي جرت فيه تلك الأحـداث المتلاحقة في مأدبة زفاف "مرسيديس" إلى "دانتيس"، كانت هناك في أحد القصور الأرستقراطيّة الواقعة في شارع "جران کور" تجاه نافورة "ميدوزا" حفلةٌ أخرى، يشهدها جَمْعٌ من صفوة المجتمع الرفيع في "مارسيليا"، وقد كانت هذه الحفلة  هي حفلة زفاف مسيو "دي فيلفور" وكيل النائب العام إلى عروسته الشابّة الرقيقة "رينيه".

وأثناء الحفلة نهض رجلٌ مسنٌ يحلّي صدره بصليب "سان لويس" مقترحاً شُرب نخب صحّة الملك "لويس الثامن عشر"، ولم يكن ذلك الشيخ سوى المركيز "دي سانت ميران"، وكانت المركيزة زوجته امرأةً ذات وجهٍ عَبوس ومظهرٍ مُترفٍ جليل، برغم الخمسين سنةً التي انصرمت من عمرها فقالت معلِّقةً:

-       آهٍ لو كان أولئك الثوريّون هنا الآن لما استطاعوا إلّا أن يعترفوا بأن الملك هو حقاً راعينا "لويس المحبوب" .. بينما غاصبهم التعس كان دائماً وسوف يكون في كل حين عبقريهم الشرير "نابوليون" اللعين .. ألست على حقٍ يا مسيو "فيلفور"؟

والتفت هذا إلى المركيزة حين سمعها تذكر اسمه وقال في هدوء:

-       أسألك المعذرة يا سيّدتي .. إنني في الواقع - وأعتذر مرّةً أخرى عن ذلك - لم أكُن أتتبّع النقاش.

وهنا قالت ابنتها "رینیه دی سانت ميران" وهي شابّةٌ حسناء يكلِّل هامتها تاجٌ من الشعر الكستنائي الجميل وتزيِّن وجهها عيْنان كأنهما تسبحان في بللورٍ سائل:

-       لا بأس يا أمّي العزيزة لقد كنت أنا المسئولة عن شَغْل انتباه المسيو "دي فيلفور" بحيث لم أدعه يُصغي إلى حديثِك .. والآن يا مسيو "دى فيلفور" دعني أذكّرك بأن أمّي تخاطبك.

وعلى أثر ذلك عادت الأم تكرِّر رأيها فقالت:

-       كنت أقول يا "فيلفور" أن أنصار "نابوليون بونابرت" ليس لهم حماستنا وتفانينا في الإخلاص.

فقال الشاب "فيلفور":

-       إن لهم مع ذلك ما يُعتَبَر عِوَضاً عن هذه الصفات الرائعة .. وأعنى بذلك تعصّبهم لسيّدهم إلى أقصى حد .. إن "نابوليون" يكاد يكون معبود أتباعه .. وليس هذا لأنه زعيمٌ ومُشَرِّعٌ للقوانين فقط بل لأنه نموذجٌ مجسَّمٌ للمساواة.

-       هل تعلم يا "فيلفور" أنك تتكلّم بلهجةٍ ثوريّةٍ مخيفة؟ .. لكنني أعذرك .. فمن المستحيل أن ننتظر من ابن الجيروندي أن يكون معصوماً من آثار الخميرة القديمة التي تركها فيك والدك.

{{{ملحوظة من "ابن أبي صادق": الحزب الجيروندي هو حزبٌ سياسيٌ جمهوري نشأ أثناء الثورة الفرنسيّة ليمثّل الطبقة المتوسّطة وجاءت تسمية الحزب بهذا الاسم لأن معظم القادة المُنَظِّمين له ينتمون لمقاطعة "جيروند" جنوب غرب "فرنسا"}}} 

وعندئذٍ اصطبغ وجه "فيلفور" بحُمرة القُرمُز، ثم أجاب محدِّثته قائلاً:

-       صحیحٌ يا سيّدتي أن أبي كان من أنصار الجيرونديين لكنه لم يكن بين أولئك الذين صوّتوا مطالبين بإعدام الملك .. أمّا عن نفسي فقد وضعت جانباً كل اعتبار - حتى اسم أبي - وتنصّلت من مبادثة السياسيّة .. لقد كان - بل يُحتَمَل - أنه ما زال حتى الآن من أتباع "بونابرت" .. وهو يسمّي نفسه "نوارتییه" .. أمّا أنا فعلى العكس منه .. ملکيٌ متحمِّس .. وقد خلعت على نفسي لقب "دي فيلفور" .. وعلى كل حال فلندَع مخلّفات الوباء الثوْري حتى تذهب وتزول من تلقاء نفسها.

فأجابته المركيزة:

-       من صميم قلبي أرجو أن يُنسى الماضي إلى الأبد .. وكل ما أطلبـه أن تكون - بحكم وظيفتك كمحقِّقٍ مع المجرمين أعداء الوطن -  حازماً لا تلين في مبادئك السياسيّة .. ولتعلم بأنه لو وقع في يدك أي شخصٍ متآمرٍ على الحكومة فإن واجبك يقضي بأن تعاقبه عقاباً صارماً .. ولا سيّما أنك معروفٌ بالانتماء إلى أسرةٍ كانت من أنصار الجيرونديّين.

فقال "فيلفور":

-       إننی یا سیّدتي - بحُكم مهنتي والزمن الذي نعيش فيه - مضطرٌ إلى أن أكون صارماً .. لقد توليْت توجيه محاكماتٍ علنيّةٍ عِدّة بنجاحٍ تام .. وأوْقعت بالمعتدين العقاب الذي يستحقّونه .. منهم من تم إعدامه ومنهم من زُج به في السجن .. لكننا لم نقضِ على الخطر بعد.

وهنا هتفت حسناءٌ شابّة - هي ابنة الكونت "سالفيو" والصديقة الحميمة للآنسة "دى سانت ميران":

-       أوّاه! .. بربّك يا مسیو "دي فیلفور" حاول عقد بعض المحاكمات الكبيرة أثناء وجودنا هنا في "مارسيليا" .. فإني لم أدخل محكمةً في حياتي .. ويُقال أنها ممتعةٌ ومسلية.

فأجاب الشاب:

-       نعم .. إنها تكون مسليةً بلا شك .. إذا اعتبرنا مشاهدة مآسي الحياة تسلية! .. وعلى كل حال كوني على ثقةٍ من أنه لو سنحت أيّة فرصةٍ قريبةٍ فلن أتردَّد في دعوتِك لكي تحضري إحدى المحاكمات.

وفي هذه اللحظة انضمّت إليهم الآنسة "رينيه" خطيبة "دي فيلفور" وعروسته واشتركت معهم في حوارهم الطويل إلى أن دخل خادمٌ وهمس في أذن "فيلفور"، فنهض هذا معتذراً من مغادرة القاعة قليلاً لعملٍ طارىء، ثم عاد بعد لحظاتٍ متهلِّل الوجه، وقال رداً على استفسارٍ من الآنسة "دى سانت ميران" عن سبب مغادرته:

-       لقد دُعيتُ لتولّي التحقيق في مسألةٍ خطيرةٍ قد تنتهي على يد الجلّاد .. وإذا صحّت المعلومات التي تلقيتها فإن هناك مؤامرةً بونابرتيّة .. وسأقرأ لكم الخطاب الذي حوى الاتهام.

ثم تلا عليهم الرسالة التي أعدّها "دانجلر" و"كادروس" و"فيرناند" في حانة القرية متَّهِمين فيها "إدمون دانتيس" بالمرور على جزيرة "إلبا" حيث يقيم "نابوليون" منفيّاً، وتوصيل رسالةٍ إليه.

ولم يكَد "فيلفور" يفرغ من القراءة حتى هتفت الفتاة "رينيه" مصفِّقةً وهي ترنو لخطيبها في لهفةٍ وإشفاق:

-       أوه يا "فيلفور" .. كُن رحيماً في يوم خطبتنا هذا.

فأجابها مبتسماً:

-       إرضاءً لكِ يا عزيزتي "رينيه" أعدكِ بأن أُظهِر كل التسامح الذي في طاقتي .. ولكن إذا كانت التهمة ثابتةً على هذا المتآمر البونابرتي فينبغي أن تأذني لي في أن أقدِّم رأسه للمقصلة.

وغادر "فيلفور" المكان على الفوْر قاصداً إلى بيته الملحَق بقصر العدالة، وهناك جلس إلى مكتبه مكتئباً، وبعد لحظةٍ أُدخِل عليه "دانتيس" الذي قال في هدوءٍ ردّاً على سؤال المحقِّق "دي فيلفور":

-       اسمی "إدمون دانتیس"

-       هل خدمت في عهد الغاصب "نابوليون بونابرت"؟

-       كنت على وشك الانخراط في سلك البحريّة الملكيّة حين سقط "بونابرت".  

وعندئذٍ خاطبه "فيلفور" وهو يُخرِج الخطاب من جيْبه ويعرضه عليه:

-       سیّدی .. هل تعرف لك أعداء؟  

فأجابه هذا بعد أن قرأ الخطاب وقد غامت على وجهه سحابةٌ قاتمة:

-       کلّا یا سیّدی! .. لست أعرف هذا الخط.

ثم أضاف وهو ينظر إلى المحقِّق نظرة امتنان:

-       إنه لمن حُسن حظّي أن يحقِّق معي رجلٌ مثلك .. فهذا الخطاب لا يصدر إلّا من عدوٍ حاسد.  

فقال له "فيلفور":

-       الآن حدِّثني بصراحة .. حديث الرجل إلى رجلٍ يهتم بأمره .. أي نصيبٍ من الحقيقة في الاتهام الوارد في هذا الخطاب المجهول المصدر؟

فأجاب "دانتيس":

-       لا شيء البتّة .. سأروي لك الوقائع على حقيقتها .. عندما غادرنا "نابولي" أصيب القبطان "ليكلير" بحمّى مخيّة .. وفي نهاية اليوْم الثالث إذ أحس بدنوْ أجله استدعاني وقال لي: (يا عزیزی "دانتیس" أَقسِم أمامي لتؤديَنَّ المهمّة التي سأكلِّفك بها .. إن قيادة السفينة سوف تؤول إليك بعد موْتي بوصفك نائبي .. وأنا أريد منك أن تعرج بالسفينة على جزيرة "إلبا" .. وأن تهبط إلى البر في ميناء "بورتو فيراجو" .. ثم تسأل عن مكان الماريشال الأكبر "برتران كلوزيه" وتسلّمه هذا الخطاب .. وإذا أعطاك ردّاً عليه خطاباً آخر فلتحمله إلى حيث يطلب منك .. ولتذكر دائماً أن رغبات الإنسـان المحتضِر مقدّسة .. علاوةٌ على أن الرغبات الاخيرة الصادرة إلى بحّارٍ من رئيسه تُعتَبَر بمثابة الأمر) .. وهكذا أبحرت إلى جزيرة "إلبا" .. وهناك أمرت جميع البحّارة بالبقاء على ظهر السفينة ونزلت وحدي إلى البر وسلّمت الرسالة للماريشال الأكبر .. فزوّدني برسالةٍ لأحملها إلى شخصٍ في "باريس".  

فقال "فيلفور" على الفوْر:

-       إذا كنت قد ارتكبت ذنباً فهو ذنب عـدم الحيْطة الذي جعلك تطيع أوامر رئيسك .. فلتهمل أمر الخطاب الذي أحضرته من "إلبا" .. وعِدني بشرفك أن تحضر متى استدعيناك .. والآن اذهب إلى أصدقائك.

فتساءل "دانتیس" فرحاً:

-       إذن فأنا مطلَق السراح یا سیّدي؟

فقال "فيلفور":

-       نعم .. ولكن أعطني ذلك الخطاب أوّلاً.

فأجاب:

-       لقد أخذوه مني حين فتّشوني .. وها أنا ذا أراه ضِمن الأوْراق التي أمامك.

ثم تناول "دانتیس" قُبَّعته وقُفّازيْه وهَمَّ بالخروج، لكن المحقق استوْقفه قائلاً:

-       انتظر دقيقة .. إلى مَن كُتِب هذا الخطاب؟

فقال "دانتيس":

-       إلى مسيو "نوارتييه" بشارع "كوك هيرون" بـ"باريس".

ولو أن صاعقةً سقطت في الحجرة لَما كان ذهول "فيلفور" أشد منه لدى سماعه هذا الاسم فقد شحب وجهه شحوباً مخيفاً، ثم سأل محدّثه:

-       هل أَطْلَعت أحداً على هذا الخطاب؟

فأجاب:

-       کلا یا سیّدي .. وأُقسِم بشرفي.

-       أليس لك علمٌ بشيءٍ ممّا فيه؟

-       کلا .. وأُقسِم بشرفي یا سیّدي.

وغمغم فيللفور محدثا نفسه بصوْتٍ غير مسموع:

-        آهٍ لوْ عُرِف بأمر هذا الخطاب .. وأن "نوارتييه" هو والدي .. لتم إذن اتهامي - مع والدي - بالتواصل مع "نابوليون" ورجاله وبالتآمر ضد السُلطات .. ساعتها سأكون بالتأكيد قد هلكت.

ثم أضاف محدّثاً "دانتيس" بنبرةٍ عالية:

-       لم يعُد في وسعي يا سيّدي - كما كنت أؤمِّل - أن أُطلِق سراحك الآن .. لكنني سأجاهد كي أجعل مُدّة اعتقالك أقصر ما يمكن .. ذلك لأن التهمة الرئيسيّة ضدك هي هذا الخطاب .. وسترى بعيْنيْك الآن ما أنا صانع به.

ثم اقترب من المدفأة، وألقى الخطاب في النار، وانتظر حتى احترق عن آخره، ثم قال مستطرِداً :

-       ها أنت ذا ترى أني أحرقت الخطاب .. وسوف أحجزك حتى المساء في قصر العدالة .. فاذا استجوبك أحدٌ غيْري فقُل له ما ذكرته لي ولكن حذارِ أن تُشير بحرفٍ واحد إلى هــذا الخطاب .. وثِق بأنك إن أطعت هذه التعليمات فلا ضيْرٌ عليك قط.

فتنهّد "دانتيس" وقال:

-       اطمئِن يا سيّدي .. لن أشير إليه بحرف.

وإذ ذاك دق "فيلفور" الجرس، فلمّا ظهر أحد الجنود على الباب همس في أذنه ببضع كلمات، ثم قال يخاطب "دانتيس":

-       اتبعه.

ولم يكَد الباب يُغلَق بعد انصرافهما حتى ألقي "فيلفور" بنفسه متهالكاً على مقعده وراح في شبه إغماء، فلما أفاق راح يحدِّث نفسه قائلاً:

-       لو كان النائب العام موجوداً في "مارسيليا" اليوم لهلكت .. ولدمَّر هذا الخطاب اللعين كل آمالي .. أوّاهُ يا أبي .. إلى متى يظل ماضيك يعرقِل مستقبل ويهدّد نجاحي؟

وفجأة أضاء وجهه خاطرٌ مباغت ورفّت على فمه ابتسامة، وتحجّرت عيناه من الانهماك في التفكير، وقال يحدِّث نفسه:

-       هذا يكفي .. من هذا الخطاب الذي كان سيقضي عليَّ سوف أجمع ثروةً من الملك .. والآن إلى العمل الذي في يدي.

أمّا "دانتيس" فقد خرج يتوسّط حرّاسه إلى حيث كانت عربةٌ تنتظر في الخارج فصعد سُلّمها وجلس بين اثنيْن من جنود البوليس، بينما جلس في مواجهتهم جنـديّان آخران، ثم بدأت المركبة سيْرها فوْق الطريق المرصوف بالأحجار، وحين وقفت آخر الأمر طلب الحرّاس منه أن يهبط، وتقدّمه بعضهم إلى رصيفٍ يُفضي إلى البحر فأركبوه قارباً انطلق بهم فوق الماء تدفعه مجاديف أربعةٍ من البحّارة، وتساءل "دانتيس":

-       إلى أين تأخذونني؟

ولم يتلقَّ أيّ جواب، لكنه حين تطلّع حواليْه وقعت عيْنـه على الصخرة السوداء الكئيبة التي يقوم عليها سجن قصر "إیف" وبدت له تلك القلعة الموحِشة التي كانت مادّةً لأبشع الأساطير المخيفة خلال أكثر من ثلاثمائة عام، وأحس "دانتيس" كأنه في حُلْمٍ وهو يصعد سُلّم القلعة ثم حين أُغلِق الباب الضخم بينه وبين عالم الأحرار بل أنه لم يتنبّه وهو داخل حتى إلى محيط السجن، ذلك الحاجز الرهيب الذي ينظر اليه المسجونون نظرة يأسٍ بالغة، وقاده حارسٌ إلى زنزانةٍ تكاد تقع تحت مستوى الأرض، وكانت جدرانها العارية المبلَّلة ببخار البحر كأنها مُشرَّبة بالدموع، يضيئها مصباحٌ خافت الضوْء موضوعٌ فوق كرسيٍ صغيرٍ بغيْر ظهر، وخاطبه الحارس قائلاً:

-       وهذه غرفتك التي ستقضي فيها الليلة فالوقت متأخِّر .. وحاكم السجن نائم .. وقد ينقلك غداً إلى غرفةٍ أخرى .. وإليك طعامك من الخبز والماء .. وهو كل ما يستطيع السجين أن يطمع فيه .. طابت ليلتك.

وبقي "دانتيس وحيداً في الظُلمة والسكون، يحس كأن أشباحاً وظلالاً تتنفَّس على جبهته الملتهبة، وعند ظهور أول طلائع الفجر عاد إليه السجّان يحمل أمراً بترك السجين حيث هو، فوجد "دانتيس" واقفاً في الوضع الذي تركه فيه أول الليْل، وكأنما تحوّل إلى تمثالٍ جامد، وقد تقرَّحت أجفانه من البكاء، لقد قضى الليْلة واقفاً بلا نوم.

واقترب السجّان منه فلم يبدُ على "دانتيس" أنه تنبّه إلى اقترابه ثم سأله السجّان:

-       ألم تنَم؟

فقال:

-       لست أدرى!  

فسأله:

-       أأنت جائع؟

فكرّر الإجابة نفسها، وحينئذٍ سأله الحارس:

-       ألا تريد شيئاً؟

فلمّا أجاب بأنه يريد أن يرى الحاكم هز السجّان كتفيْه وغادر المكان صامتاً بعد أن أغلق باب الزنزانة كما كان، وعندئذٍ انفجر "دانتيس" باكياً، ثم ألقى نفسه على الأرض وراح يسائل نفسه:

-       أيّة جريمة ارتكبتها حتى أُعاقَب على هذه الصورة؟

وانقضى اليوْم على هذا المنوال .. لم يكد يذوق طعاماً، وإنما راح يدور في الزنزانة كالوحش الحبيس، ويلوم نفسه على أنه جلس ساكناً مستسلماً في الزوْرق أثناء نقله إلى السجن، في حين كان يستطيع أن يقفز إلى البحر فيبلُغ الشاطئ بفضل براعته المشهود بها في السباحة وهناك يُخفي نفسه حتى تصل أيّة سفينةٍ فيستقلّها هارباً إلى "إسبانيا" أو "إيطاليا"، حيث يلحق به أبوه و"مرسيديس" ولن يحيّره التفكير في الوسيلة التي يكسب بها عيشه هناك، فالبحّارة الأفذاذ أمثاله يجدون ترحيباً حيثما حلّوا، وهو يُتقِن الإيطالية والإسبانية كأبنائهما.

وكاد يُجَن ندماً على أنه وثق بوعد "فيلفور"، فألقى بنفسه في حنقٍ فوق القش المفروش على أرض الزنزانة وأغمض عيْنيْه لعلّه ينام.

وفي الصباح التالي دخل عليه السجّان بصحبة جاويشٍ وأربعةٍ من الجنود، وقال السجّان لهم على الفوْر:

-       هيّا لقد أمر حاكم السجن بنقل هـذا السجين إلى الطابق الأسفل ليودَع مع أمثاله من المجانين هناك.

وأمسك الحرّاس بـ"دانتيس"، فتبعهم مستسلماً، وبعد أن هبط خمس عشرة درجةً من السُلّم فُتِح أمامه باب قبوٍ معتم، ثم أُلقي فيه وحده وأُغلِق الباب كما كان.

وتقدَّم "دانتيس" مادّاً ذراعيْه في الظلام الحالك حتى لمس الجدار، فارتمی إلى جواره يائساً وحدّث نفسه قائلاً:

-       حقّاً .. لقد صدق السجّان .. إن الخيْط الذي يفصلني عن الجنون المطبق صار الآن أَوْهى من خيْط العنكبوت.

بارقة أمل

كان قد انقضى عامٌ على استرداد الملك "لويس الثامن عشر" عرشه بعد هزيمة "نابوليون" في معركة "ووترلو"، وذهب المفتش العام للسجون ليزور قصر "إیف"، وسمع "دانتيس" - وهو في زنزانته بقبو ذلك السجن - جَلَبة الاستعداد لزيارة المفتش العـام فأدرك أن ثمّة شيئاً غير عاديٍ يجري في عالم الأحياء، وإن لم يدرك كنهه بالضبط.

وهبط الزائر السُلّم إلى الطابق الأسفل المظلم الموحش، فلم يملك أن هتف:

-       أوه .. مَن يستطيع أن يعيش هنا؟

فأجابه حاكم السجن الذي يرافقه:

-       يعيش هنا متامرٌ خطير .. لدينـا تعليماتٌ مشدَّدة بأن نراقبه بمنتهى الدِقّة والصرامة .. لجرأته وشِدّة بأسه وأنه الآن لأشبه بمجنون .. ولن يمضى عامٌ آخر حتى يكون جنـونه قد اكتمل .. وفي الزنزانة السُفلى التي سنهبط إليها بسُلّمٍ آخر لا يزيد طولة على عشرين قدماً يوجد راهبٌ سجين كان يرأس أحد الأحـزاب الإيطالية وهو هنا منذ سنة ۱۸۱۱ .. وقد جُنَّ بعد سنتيْن من دخـوله السجن .. وهو يضحك أحياناً ويبكي أحياناً .. وقد نحل جسمه في البداية ثم بدأ الآن يمتلىء ويصير بديناً .. ولعلّه يروقك أن تراه .. فإن جنونه مسلٍ إلى حدٍ كبير.

وفيما كان "دانتيس" مستلقياً في ركنٍ من القبو سمع وقع خُطىً بالباب ثم صوْت المفتاح يدار في القُفل، فهَبَّ واقفاً متربصاً، وما كاد المفتش يدخل حتى هتف يخاطبه في ضراعةٍ تثير الإشفاق:

-       أريد أن أعرف أيّة جريمةٍ ارتكبتها؟ .. أريد أن أُحاكم .. فاذا ثبتت إدانتي أُعدَم رمياً بالرصاص .. وإلّا أُطلِق سراحي.

فأجابه المفتِّش:

-       سوف نرى.

ثم التفت إلى الحاكم وهمس قائلاً:

-       إن حالة هذا المسكين تُفتِّت قلبي ويجب أن تُعرَض عليَّ الأدِلّة التي تُثبِت جريمته؟

وخرج المفتش وأُغلق الباب من جديد، ولكن بقي مع "دانتيس" في زنزانته هذه المرّة رفيقٌ جديدٌ هو الأمل الذي بعثته في نفسه كلمات المفتِّش العام.

وسأل حاكم السجن ضيْفه المفتش:

-       هل تريد الاطلاع على السجل أوّلاً؟ .. أم تتابع الجولة لزيارة القبو الآخر؟ .. إن الراهب السجين الذي فيه يتخيَّل أنه يملك كنزاً هائلاً .. وقد عَرَضَ في العام الأول لسجنه أن يدفع مليـون فرنك مقابل الإفراج عنه .. وفي العام التالي عرض مليونيْن وهكذا دواليك وهو الآن في عامه الخامس .. وسوف يعرض عليك خمسة ملايين.

وهناك - في وسط ذلك القبو - رأي المفتِّش شيْخاً لا تكاد أسماله البالية تغطّي جسده، ولم يتحرّك حين سمع جلبة الداخلين بل استمر مشغولاً بأعماله الحسابيّة الخاصّة بكنزه، حتى إذا أضاءت المشاعل القبو رفع رأسه وحدق قليلاً في الزائرين تم أسرع في لف غطاء الفراش حول جسمه، وسأله المفتش:

-       ماذا تريد يا سيّدي؟

فأجاب:

-       سيّدي .. أنا الراهب "فاريا" .. وُلِدت في "روما" وعملت عشرين عاماً سكرتيراً للكاردينال "سبادا" وقد اعتُقِلت سنة ۱۸۱۱ لسببٍ لا أعلمه .. ومنذ ذلك التاريخ وأنا أطلب الإفراج عني .. تارةً من الحكومة الفرنسيّة وتارةً من الحكومة الإيطاليّة .. وإني مستعد لأن أدفع في مقابل الإفراج عني خمسة ملايين من الفرنكات.

فأجابه المفتِّش:

-       يا سيّدي العزيز .. إن الحكومة غنيّة وليست في حاجةٍ إلى ملايينك .. فاحتفظ بها حتى يُفرَج عنك.

فقال الراهب السجين:

-       إذا لم يُفرَج عني وبقيت هنا حتى أموت فسوف يضيع الكنز .. إني أعرض عليك ستّة ملايين .. وسأَقْنَع بالباقي في مقابل أن تُرَد إليَّ حريّتي .. إنني لست مجنوناً .. والكنز الذي اتحدَّث عنه موجود حقّاً .. وأنا على استعدادٍ لأن أوقِّع على تعهُّدٍ بالإرشاد إلى مكانه فاذا لم تجدوه فأعيدوني إلى هنا ولست أطلب أكثر من ذلك.

فقال المفتش:

-       إنها خطةٌ بارعة .. فلوْ طلب جميع السجناء ذلك لأُتيحت لهم فرصةٌ رائعةٌ للفِرار.

ثم خرج الزائر ومرافقوه ، وأغلَق السجّان الباب دون السجين، ووفّي المفتش بوعده لـ"دانتيس"، ففحص سجلّه، ووجد فيه هذه العبارة: "بونابرتي عنيف شديد الخطر، قام بدوْرٍ إيجابيٍ في فِرار الغاصب من "إلبا".

ولم يستطِع المفتِّش إزاء هذه التُهمة إلّا أن يكتب على هامش السجل معلِّقاً:

-       لا شيء يمكن عمله في أمره.

وفي نهاية العام التالي وصل إلى السجن حاكمٌ جديد، وكان عسيراً عليه أن يعرف المسجونين بأسمائهم لأن عددهم يزيد على الخمسين، فصار يرمز إلى كلٍ برقم زنزانته، وكان رقم القبو الذي يعيش فيه "إدمون دانتيس" هو (٤۳)، وفي الوقت الذي بلغ فيه اليأس بالسجين الشاب غايته حتى دفعه إلى التفكير في الانتحار فوجىء ذات ليْلةٍ بسماع صوْتٍ أجوَفٍ صادرٍ من وراء الجدار الذي ينام إلى جواره، وكأنه صوْت آلةٍ حديديّةٍ تدق الأحجار، فحدَّث نفسه قائلاً:

-       لا شك في أن هناك سجيناً آخر يحاول الفرار .. آهٍ لو استطعتُ مساعدته.

ومضى "إدمون" إلى ركن قبوه فتناول حجراً ودق به الجدار ثم انتظر قليلاً، علّه يسمع شيئاً يفعم قلبه بالأمل في نجاح مساعدته لذلك السجين زميله المجهول، ثم نهض فنقل فراشه من مكانه وأخذ يبحث عن شيءٍ يُثقِب به الجدار حتى ينتزع حجراً منـه، ولكنه لم يجِد ما يَصلُح لذلك غير آنية شرابه، على أن يحطّمها ويستخدم قطعةً مدبّبةً منها في الغرض المطلوب.

وكان أمامه الليْل كله يعمل أثناءه، برغم أن الظلام كان يعوقه إلى حدٍ ما .. وحين وجد الجدار شـديد الصلابة أعاد الفراش إلى مكانه ليُخفي آثار المحاولة وآثر الانتظار إلى الصباح، أمّا زميله فقد دأب على عمله طيلة الليْل.

ولمّا أشرق النهار وجاء السجّان إلى "دانتيس" بالطعام أخبره بأن الآنية وقعت فانكسرت فما كان من هذا إلّا أن ذهب لإحضار أخرى دون أن يهتم بجمع شظايا الآنية المكسورة. 

وبعد ثلاثة أيامٍ نجح "دانتيس" - بفضل مراعاته منتهى الحذر - في إزالة طبقة الأسمنت التي تكسو الجدار والكشف عن حجرٍ كبيرٍ وراءها، وصار عليه أن يحفر حوْل الحجر حتى يستطيع اقتلاعه من مكانه، ولكن بماذا يحفر؟، إن الآنية الخزفيّة تعجز عن ذلك، وهنا خطر له أن يضع الآنية الحديديّة التي يُحضِر له فيها السجّان الحساء أمام الباب بحيث يدوسها هذا بقدمه حين يدخل لأخذ الصِحاف الفارغة فتنكسر، فلمّا تم له ذلك بالفعل وفق الخطّة التي رسمها طلب من الحارس أن يدع بقايا الآنية المكسورة إلى الصباح، وصادف هذا الطلب هوىً في نفس السجّان الكسول فقَبِل.

وكاد "دانتيس" أن يُجَن فرحاً فلمّا خرج زحزح الفراش من مكانه وانهال بمقبض الآنية المدبَّب على جوانب الحجر فلم تمضِ ساعةٌ حتى أمكن اقتلاعه من مكانه، وانفتحت في الجدار ثغرةٌ سِعتها قدمٌ مكعَّب و نصف قدم، وإذ ذاك أخذ "دانتيس" المخلّفات التي نتجت عن ثَقْب الجـدار ودفنها في شقوق الجدران، ثم أعاد فراشه إلى مكانه ليُخفي آثار فعلته ونام قرير العين.

وبعد مجهودٍ مماثل دام بضع ليالٍ فوجیء "دانتيس" في ذات ليْلة بسماع صوْتٍ كأنه صادرٌ من تحت الأرض، فوقف شعر رأسه دهشةً وإجفالاً، ثم قال له صاحب الصوت:

-       لا تحفر أكثر من ذلك .. ولكن قُل لي فقط ما ارتفاع ثغرتك؟

فهمس قائلاً:

-       إنها في مستوى أرض الحجرة.

-       وعلام يفتح باب حجرتك؟

-       على ممرٍ يؤدّي إلى فناء السجن.

-       أعتقِد أن الجدار الذي تثقبه هو جدار السجن الخارجي .. فلتتوقّف عن العمل حتى أتصل بك .. أنا السجين رقم (٢٧) .. وسأتصل بك غداً.

وفي الصباح التالي سمع "دانتيس" ثلاث طرقات، فركع على ركبتيْه وراح يُنصِت، ثم قال له ذلك السجين:

-       هل خرج سجّانك؟

-       نعم .. وهو لن يعود قبل المساء .. ومن ثَمَّ فأمامنا اثنتا عشرة ساعةً للعمل.

وبعد لحظةٍ انهار الجزء من الأرض الذي كان "دانتيس" مُتَّكِئاً عليه بيديْه بينما كان رأسه في الثغرة، فارتد إلى الخلف في الوقت الذي هوت فيـه كتلةٌ من الأحجار والأرض فاختفت في حفرةٍ انفتحت تحت الثغرة التي فتحها هو، ثم من أعماق هذا الممر رأى رأس رجلٍ يبرز أوّلاً ثم يتبعه جسمه، وإذا السجين رقم (٢٧) قد صار معه في زنزانته.

وأخذ "دانتيس" زميله السجين بين ذراعيْه معـانقاً بل كاد يحمله نحو النافذة كي يرى ملامح وجهه، كان رجلاً ضئيل الجسم، أبيَض شعره من الآلام، ذا عيْنٍ نافذةٍ تكاد تكون مدفونةً خلف حاجبه الأغبر الغزير، وكانت له لحيةٌ طويلةٌ تصل إلى صدره، أمّا وجهه النحيل وخطوط ملامحه الجسورة فتنم عن رجلٍ أَلِف أن يستخدم قواه الذهنيّة أكثر من قواه الجسميّة، وعلم "دانتيس" من زميله أنه انتزع بعض شناكل سریره کي يستعين بها على حَفْر الطريق الذي سلكه من زنزانته إلى زنزانة جاره، وطوله نحو خمسين قدماً، فهتف "دانتیس" شبه مذعور:

-       خمسون قدماً؟

-       نعم .. هي المسافة بين حجرتك وحجرتي .. ولكنني لسوء الحظ أخطأت تبيُّن اتجاه الطريق الذي حفرته بسبب نقص الأدوات الهندسيّة اللازمة .. فبدلاً من أن ينتهي بي إلى الجدار الخارجي المطل على البحر .. قادني إلى الممر الذي تنفتح عليه حجرتك .. وهكذا ذهب جهدی کله هباء .. فان الممر يطل على فناءٍ مزدحمٍ بالجنود.

فقال "دانتيس":

-       هذا صحيح .. لكن الممر الذي تتحدَّث عنه لا يحد غير جانبٍ واحدٍ من زنزانتي .. وهناك ثلاثة جوانبٍ أخرى .. فهل تعرف شيئاً عن موقعها؟

-       هذا الجانب ينتهي إلى الصخر الصلب .. وهناك جانبٌ آخر ينتهى عند الجزء الأسفل من مسكن حاكم السجن .. ولو نقبناه لوصلنا إلى زنزاناتٍ مغلقة .. أمّا الجانب الرابع والأخير من زنزانتك فهو يطل على مكانٍ مفتوحٍ يمر فيه الحرّاس بلا انقطاع ويسهرون على حراسته ليْل نهار .. ومن هذا تتبيَّن الاستحالة المطلقة في الفرار عن طريق زنزانتك.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent