خبر
أخبار ملهلبة

يا خي صحّة.. وعافية (1) | فضائح مصر المهروسة لابن النكدي


كاريكاتير عن الملاك ذي الجناحين عزرائيل وهو يتابع منحنى رسم بياني يتصاعد في ارتفاع لعدد وفيات المصريين

يا خي صحّة.. وعافية (1)

 

 

جلس "عزرائيل" واجماً يفكّر فيما يجب عليه فعله حيال هذه البلد العجيب : "مصر" التي يكثر فيها عمله بطريقةٍ كارثيّة تجعله لا يجد الوقت الكافي للعبادة أو التأمّل أو الراحة أو حتّى التقاط الأنفاس، ورغم أنّ له أربعة آلاف جناح فإن الوقت لا يسعفه لقطع آلاف الرحلات من السماء الثالثة - حيث يقيم - إلى أرض الكنانة (مصر) من أجل قبض أرواح آلاف المكنونين (المصريين) الذين يموت أغلبهم كل ثانية جرّاء العديد من حالات التسيّب والإهمال والفساد، ورغم إيمانه العميق بأن لكل أجّلٍ منهم كتاب وأن من جاء أجله لا يستأخر ساعةً ولا يستقدم ؛ فإنه - "عزرائيل" - لا يسعه إلا أن يتحيّر بشدّة من كل هذا الكم من حالات الوفاة التي يتسبّب فيها الإنسان المصري لأخيه الإنسان في الوطن، بالطبع كل الوفيات هي من عند الله الذي قدّر موّعد ميلاد العبد وكيفيّة وفاته ولكن ما بال المصريين وكل هذه الحوادث الجماعيّة المميتة التي أفقدت الموْت جلاله وهيّبته فصار شأناً من شؤونهم المعتادة التي لو غابت لحظة لاندهشوا عن سر تأخّرها طويلاً.

وبينما استغرق "عزرائيل" في تفكيره أقبل عليه مساعده "سمائيل" فقطع عليه خلوته النادرة عندما بادره بالقوْل :

- السلامُ عليك يا "عزرائيل".

- وعليك السلام يا "سمائيل".. ما بال وجهك مكفهرّاً وقد تصبّب منك العرق بغزارة؟.. أيْن كنت؟

- وهل لك أن تسألني سيّدي وقد أوكلت إليّ هذه المهمّة الشاقّة بنفسك؟

- المصريّون.. ها؟

- أجل سيّدي.. لقد أتعبوني كثيراً.. إنهم ما فتئوا يسلمون الروح فرادى وجماعات بشكلٍ غريب.

- وهل هناك غريبٌ في الموْت؟.. إنه عيْن الحقيقة وعنوان الحق.

- عندما يموت المرء منهم محشوراً كالصرصار في بالوعة مجاري فهذا غريب.. وعندما يقضي طفلٌ أجَله وهو محترقٌ كالشواء في حضّانته التي صُمّمَت للمحافظة على حياته فهذا عجيب.. وعندما تُزهق أرواح العشرات منهم أثناء حضورهم للترفيه في مباراة كرة أو مسرحيّة فهذا مريب.. وعندما يُسلِم الروح أشخاصٌ متجمّدون دون غوْث لمجرّد تنزّههم في الجبال فهذا نادر.. وعندما يهلك آخرون بعد سقوطهم من بالون أثناء ضحكهم ومرحهم فهذا........

- كفى كفى.. أتراني غافلاً عن كل هذه المصائب والفواجع؟.. فلماذا أرسلتك إلى هناك إذن؟ أليس من أجل مساعدتي؟

- بلى.. ولكن ماذا أجرمت يا سيّدي حتّى تبليني بهذه البلوة؟.. هؤلاء المصريّون يحتاجون إلى العشرات من المساعدين المتفرّغين.

- وماذا جدّ لتطلب مني هذا الطلب.. إنهم على هذه الشاكلة منذ عقودٍ وقرون.

- لا.. لا يا سيّدي.. أستميحك عذراً.. يبدو أنك غفلت عنهم في الآونة الأخيرة.

- تقول غفلت!.. تأدّب أيها المساعد.

- عفواً سيّدي.. أقصد أنّك بعيدٌ عن متابعتهم واستقصاء أخبارهم.

- كيْف؟

- لقد تفشّى بينهم الموْت في آخر بضع سنين.. فتارةً يحترق منهم المئات في قطار.. وتارةً أخري يغرق منهم فوق الألف وأربعمائة مع عبّارة.. وتارةً ثالثة يموتون بالآلاف في ثورتيْن واعتصامات ومظاهرات.. وتاراتٍ عديدة يهلكون تحت أنقاض المباني والعمارات المنهارة.. ناهيك عن ضحايا الإرهاب والتفجيرات وقطع الرؤوس وحوادث المرور.. حتى الحيوانات والكلاب لم تسلم من عنفهم وميْلهم للتقتيل والتنكيل.

- أعلم يا "سمائيل" أن المهمّة شاقة ولكنك مساعدٌ همامٌ نشيط وتستطيع أن تستوعب كل هذا العمل.

- ولكن إلى متى يا سيّدي.. ليس هناك بادرة ضوءٍ ولو شاحب في نهاية هذا النفق الطويل المظلم.

- دعنا ندعو الله أن يهديهم ويمنّ عليهم بالسلام والطمأنينة بعد هذه الفترة العصيبة.. ولكني الآن أرى أن ترحل إلى هناك فوراً فيبدو أن هناك جديد كما تلاحظ الضوء الآتي من موْقع "مصر" على الخريطة.. فلتذهب تصحبك السلامة.

- سلامة!.. ها ها.. قل تصحبني اللعنة.. فإنني أعلم ما سأراه من العجب العجاب.. ليتب عليّ الله منهم فقد تعبت أيّما تعب.. أيْن هؤلاء المصريّون من أولئك الأوروبيّين أو الأمريكيّين الذين يموتون في دعةٍ وهدوء بين الورد والريّاحين.. لقد كانت ايّاماً سعيدة تلك التي قضيتها بعيداً عن "مصر".. ها.. أستأذنك في الرحيل.. وليساعدني الرب.

وتوجّه "سمائيل" من فوْره إلى كوْكب الأرض وبالتحديد إلى "مصر" المغروسة في وحل الإهمال واللامبالاة حيث شاهد مجموعةً من ملائكة الرحمة أو الممرّضات العاملات في إحدى المستشفيات العامّة "بالأسكندريّة" وهنّ واقفاتٌ بلباسهن الأبيض الناصع الجميل يحملن لافتاتٍ تعلن عن إضرابهن بسبب تأخّر صرف بدل نوبتجيّات السهر تاركات المرضى والمصابين في الحوادث دون مساعدة، أمّا الأطبّاء فلم يكونوا أقل رحمةً من الممرّضات فانصرفوا عن واجبهم أيضاً ورفضوا أن يقوموا بواجبهم في إسعاف المحتاجين بحجّة عدم مساعدة الممرّضات لهم في تنفيذ العلاج واستنكفوا القيام بتمريض هؤلاء المساكين لأنهم أكبر من إعطاء حقنة أو تعليق محلول أو تنظيف جرح فظلّ أصحاب العلّة يتألمون ويأنّون حتّى استدرّوا عطف "سمائيل" الذي يأس من أن يلين قلب ملائكة الرحمة عليهم فقام بحصد روْحيْن من هذه الأرواح المكلومة إشفاقاً عليهما من شدّة آلامهما وتوجّعهما، وحلّق "سمائيل" بأجنحته المرتعشة فطار إلى "الغردقة" لينجز مهمّته في حشّ روح امرأةٍ أخرى تعرّضت لنفس الموقف من ملائكة الرحمة هناك الذين أضربوا أيْضاً نكايةً في إحدى السيّدات التي تعدّت عليْهن بالقوْل بعد أن رأت تقاعسهن في إنقاذ زوْجها فقرّرن أن يعلّموها الأدب ويحسنوا تربيتها فتركن مهمّتهن الجليلة حتّى جاء "سمائيل" وفضّ الاشتباك، ثمّ توجّه سريعاً إلى الصعيد ليأخذ روح أحدهم ويضعها في جواله المليء بالأرواح المعذّبة بعد أن تركه الأطباء ينزف حتّى ينتهوا من مشاهدة مباراة كرة القدم الهامّة بين "الأهلي" و"الزمالك" فصعدت روح الرجل الصعيدي وهي تلعن حكم المباراة الذي تسبّب في موْته لأنه احتسب وقتاً إضافيّاً فأطال وقت المباراة وأطال في نزيفه حتّى تصفّى دمه من عروقه.

وانتهز "سمائيل" فرصة تواجده في الصعيد فلم يفته أن يجمع بعض العشرات من الأرواح التي زهقت في عمليّات الثأر المتبادل بين العائلات المتخلّفة والتي أصرّت على تجاهل صوْت العقل بحثاً عن عدالةٍ سريعةٍ ناجزة، كما مرّ "سمائيل" على عدّة قري تفشّت فيها أمراضٌ انتهت من على خريطة العالم المتحضّر مثل التيفود والكوليرا والتهاب الكبد نتيجة تلوّث مياه الشرب واختلاطها بمياه الصرف وبسبب سوء مستوى النظافة وتراكم القمامة، وظلّ "سمائيل" على دأبه حتّى اكتظّ جواله بالأرواح ولم يعد فيه مكانٌ للمزيد فآثر أن يرجع لرئيسه "عزرائيل" ليسلّمه حصيلة غلّته وليستأذنه في بعض الراحة.

وأَذِن "عزرائيل" لمساعده بأن يستريح لبعض الوقت فتهلّل وجه "سمائيل" وانفرجت أساريره وقام من فوْره لصوْمعته ليستغلّ الوقت في عبادة ربّه والدعاء له، أمّا "عزرائيل" فقد اضطر أن ينزل من عليائه ليريح آلاف المصريين الذين فضّلوا الممات على الحياة والفناء على العيْش والآخرة على الدنيا بعد أن ضاقت بهم بلدهم رغم رحابتها فأسلمتهم إلى المسؤولين الذين ساموهم الكثير من صنوف العذاب فتسبّبوا في هلاكهم بالمبيدات المسرطنة وغياب الرقابة الصحيّة عن مصانع الأغذية ومطاعم الوجبات السريعة وفساد الأدوية وغير ذلك الكثير لدرجة أنه صار من النادر في "مصر" أن يموت شخصٌ ما على فراشه بسبب الشيخوخة.

وفجأة - أثناء رحلة نزوله "لمصر" - طرأت على بال "عزرائيل" فكرةً عبقريّة لطالما أعياه التفكير فيها لتقليل أعداد الضحايا المصريين ولتخفيف عمله في اجتزاز أرواحهم ؛ وبدأت هذه الفكرة تتبلور عندما سأل نفسه : "ماذا لو حصدت أوّلاً أرواح المسؤولين عن موت هذه الآلاف المؤلّفة من المصريين كل يوْم؟" واكتمل صقل هذه الفكرة عندما أجاب على نفسه : "سيختفي المتسبّبون عن هذه الكوارث فيقل عدد المتوفين فلا تُثقَل نفسه ومساعده بهذه الأحمال التي أضنت كاهلهما طوال هذه الفترة الأخيرة"، فلو قبض مثلاً روح المسؤول عن السكك الحديديّة لما اضطر لإنهاك نفسه وإجهاد مساعده في قبض أرواح آلاف الناس الذين يموتون بسبب إهمال هذا المسؤول وعدم آدائه لعمله بذمةٍ وضمير ؛ فلو كان لدى هذا المسؤول أدنى إحساس بالمسؤوليّة لقام من فوْره يفتّش دوْريّاً على مرؤوسيه في العمل وكافأ المُجيد وعاقب المتسيّب فانتظم العمل وندرت الأخطاء التي تودي بحياة المواطنين داخل القطارات وعلى القضبان والمزلقانات، ولو كان قد حَصَد روح وزير الصحّة - الذي يتهاون مع العاملين بوزارته - لما لجأ إلى مضاعفة عمله وعمل مساعده ليستطيع حصد أرواح ضحايا إهماله ولا مبالاته بصحّة المواطن المسكين، ولو قَصَل روح مدير مصلحة الصرف الصحّي الذي يتقاعس عن المرور على شبكة المجاري لما أُكرِه على قَصْل أرواح المئات الذين يغرقون في آبار البالوعات التي تُنزَع عنها أغطيتها فتُترَك مفتوحة على آخرها لتبلع ضحاياها في لمح البصر.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent