خبر
أخبار ملهلبة

الفصل الثاني | شيء من الخبث (2)


لوحة فنية لمجموعة من الريفيين الفلاحين يجلسون في مقهى بلدي

 الفصل الثاني | شيء من الخبث (2)

 

 

على الجانب الآخر من القرية وبالتحديد على مقهى القرية تجمّع أهل البلد يتناقشون بحريّةٍ وطلاقة في أمور "الدهاشنة" وقد أحس كل منهم بذاته وبأن له رأياً أخيراً بعد أن كان الواحد منهم لا يستطيع أن يفتح فمه إلا عند طبيب الأسنان بالوحدة الصحية.. ولكن من ناحيةٍ آخرى فقد كانوا يتكلّمون معاً في نفس الوقت وفي جميع المواضيع حتّى ولو كانوا جاهلين بها محدثين جلبةً عالية و كأنهم كانوا مقطوعي الألسن وقد استعادوا ألسنتهم فجأة فقرروا أن يتكلموا كثيراً وبسرعة تعويضاً عمّا فاتهم من كلام أو خوفاً من أن يفقدوا ألسنتهم مرّةً أخرى.

الشيخ "إبراهيم":

- يا جماعة اهدوا شويّة.. ما ينفعش نتكلم كلّنا كده في نفس واحد زي البرابرة.. إحنا عايزين نتّفق ح نعمل إيه وح نختار العمدة الجديد إزّاي.

"حمداوي":

- أحسن حاجة نعمل إنتخابات زي البلاد الديمقراطيّة المتقدّمة.. عايزين ننضف بقى.

"علّام" وهو من رجال القرية الذين لم ينالوا حظاً من التعليم ويعمل تاجراً للمانيفاتورة :

- وتبقى إيه الدقرماطيّة دي؟.. يعني إزّاي بلا مؤاخذة؟

فرد عليه "السيّد العدوي" بائع الجرائد سابقاً وصاحب المكتبة الوحيدة في القرية حالياً:

- الديمقراطيّة دي يا حاج يعني حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب.. يعني الحُكْم يبقى للشعب والحاكم ييجي بالانتخابات.  

"شحاته":

- استغفر الله العظيم من كل ذنبٍ عظيم.. إنت ح تكفر يا عم "عدوى".. الحُكْم لله يا راجل مش للشعب.. بلاش زندقة والعياذ بالله.

"حمداوي":

- كفر إيه وزندقة إيه يا "شحاته".. مين قال إن الانتخابات حرام؟.. ح تعقّدوا الدنيا كده ليه؟

فقال "وديع" وهو شابٌ ملتحٍ آخر "كشحاته" ولكنه أقل تزمّتاً وأخف لحيةً وأكثر دهاءً ولا يمانع في عمل أي شيء حتّى ولو كان التحالف مع الشيطان نفسه في سبيل تحقيق مآربه التي يراها هو مشروعة :

- الانتخابات مش حرام.. المهم إنها تجيب ناس تخاف ربّنا وتطبّق شريعته وتحكم بالعدل والقسطاس.

"شحاته":

- إنت كمان يا "وديع" ح تفتي فيها.. أنا اللي عارفه كويّس إن الشريعة والقانون والحدود ربّنا محددهم بالسنتي والمللي.. لازمتها إيه بقى الانتخابات.. إحنا ح نعمل زي الناس الكفرة اللي عملوا انتخابات واستفتاءات علشان يسنّوا بيها قوانين وضعيّة جديدة من صنع البشر تخالف شرع ربنا.. زي قوانين الإجهاض والشذوذ وغيرها من القوانين التي ما أنزل الله بها من سلطان.. وان شاء الله كل اللي عمل البدع دي في جهنم وبئس المصير.

"حمداوي":

- يعني احنا هنا ح نعمل إستفتا على شرع الله أو حدود ربّنا؟.. يعني تتصوّر إننا ح نعمل إستفتا على العشا كام ركعة ولا الخمرة حلال ولا حرام؟.. كبّر مخك يا "شحاته".. إحنا ح نعمل إستفتا على القوانين اللي بتنظّم حياتنا واللي ما جاش فيها نص صريح.. زي قانون المرور مثلاً أو القوانين اللي بتنظّم عمل المؤسّسات .. يعني القوانين اللي بعيد عن الإسلام والدين.

"شحاته":

- ما فيش حاجة بعيد عن الدين يا خويا.. ماتضلّش وتضللنا معاك.. وبعدين ما تخرجش عن الموضوع.. إحنا بنتكلّم عن العمدة الجديد اللي عايزين تجيبوه بالانتخابات.. أنا باقول لأه وألف لأه.. العمدة الجديد لازماً يبقى واحد من شيوخنا الأفاضل اللي ربّنا فاض عليه من فضله بالعلم في الشريعة والدين.. وده بقى اللي يزكّيه شيوخ البلد المسلمين اللي عارفين ربّنا كويس.

وسرت همهمات عالية من جمهور الحاضرين قطعها الصوت العالي للمقدّس" عيسى" حين إنبرى قائلاً:

- يعني احنا ما لناش فيها ولا إيه يا "شحاته"؟.. هو احنا مش عايشين معاكم ف البلد واللي يسري عليكم يسري علينا؟.. أنا بصفتي كبير عيلة "الصلايبة" مش موافق على الكلام ده.. ما هو احنا لنا رأينا وديننا وشريعتنا برضه.

"شحاته":

- واللهِ البلد دي أكترها مسلمين واللي مش لادد عليه الكلام ده يفارقنا.. أرض الله واسعة.. واحنا حرّين ف بلدنا.

الشيخ "إبراهيم":

- إخرس يا وله.. بقى الإسلام قال لك تتكلّم كده مع أهل الذمّة.. إخص الله يخيّبك.. إحنا طول عمرنا عايشين مع بعض وبنتقاسم سوا في الفرْح والترْح.. ح تيجي إنت تعمل فورتينة بيناتنا يا ابن امبارح.

المقدّس "عيسى":

- تسلم يا شيخ "إبراهيم".. ما هو ده العشم برضه.

"حمداوي":

- يا جماعة احنا كلّاتنا " هلايلة" و" صلايبة" نختار واحد كويّس يتّقي ربّنا فينا.. مش مهم بقى مسلم ولّا قبطي.

"وديع":

- مش للدرجة دي يا "حمداوي".. يعني هي وصلت لحد تولية واحد مسيحي علينا واحنا أغلبيّتنا مسلمين.. هوَّ يعني المسلمين كان انقطع دابرهم خلاص؟

"حمداوي":

- يا سيدي مش ح تفرق.. أهم حاجة ما يتولاش علينا واحد ما يعرفش ربّنا زي "عتريس".. ده لوكان بوذي ما كانش عمل اللي عمله فينا.. وبعدين العمدة ده ح يبقى موظّف زي بقية الموظّفين حدانا.. ما هو"سيدهم" أفندي اللي ماسك بنك التسليف الزراعي راجل سكّرة يتحّط ع الجرح يطيب وبيخدم الصغيّر قبل الكبير.. بقى بذمّتكم واحد زي ده لو مسك العموديّة مش ح يبقى ضفره برقبة واحد زي "عتريس".

"شحاته":

- وان شاء الله بقى لو مش عايز شيوخنا العُلَما ف الدين همّ اللي يختاروا العمدة الصالح أومّال مين اللي ح يختاره؟

واردف يقول وهو يتفحّص في وجوه أهل البلد المجتمعين في المقهى:

- تكونش عايز اللي ينتخب العمدة الجديد واحد زي الواد "عليوه" القرداتي.. ولّا الواد "زناتى" الفلاتي أبو قُصّة.. ولّا عم "ابو جبره" بتاع البوابير.. ولّا "وفيق بغاشة" الفرارجي بتاع البط.. ولّا الحاج "علّام" اللي مش عارف كوعه من بوعه.. ولّا "ام الخير" بتاعة البيض.. ولّا "بهانة" الجربانة.. ولّا يمكن "بهيّة بنت أبوشلوع" الدلالة؟.. إنت ناسي إن أهل البلد أغلبهم أمّي ما يعرفوش الألف من كوز الدرة؟.. دول زمّارة تجمّعهم وعصاية تفرّقهم.. وعايزين ياكلوا ويشربوا ويشوفوا مزاجهم وخلاص.. دول مش بعيد ينتخبوا لنا الواد "سعد الكبير" المغنّواتي ولا البت "بوسى" الغازية.. أو ممكن يجيبوا لنا الزنديق ده اللي اسمه "البُرعي" بعد ما يضحك عليهم بكلمتين معسولين من كلامه.

"حمداوي":

- وهوَّ كل اللي في البلد غلابة وعلامهم على قدّهم.. ما انت عندك ناس مخّها يوزن بلد.

"شحاته":

- زي مين يا حسرة؟

"السيد العدوي":

- زي الناس اللي اتعلّموا في جامعة البندر.. "علاء الأسمراني" و"إبراهيم موسى" و"يسري جوده" و"جلال فضل" و"مندوه حمزه" و"باسل يوسف" و"ريم بنت الحاج ساجد" و"دنيا بنت عم عبد الرحمن".. وغيرهم كتير.

"وديع":

- أعوذ بالله من غضب الله.. إلّا ما فيه واحد منهم عليه الطلا.. كلهم مُغرِضين وعايزين يخربوها ويقعدوا على تلّها.

"شحاته":

- دول ناس ما اكتفوش يبقوا فاسدين وبس.. دول عايزين يفسدوا الناس كمان.. ده كفاية الأوّلاني بس.. ده كوم لوحده.. ده ما فيش إسبوع يعدّي إلّا لمّا يعمل له قعدتين تلاتة ف القهوة.. قال إيه بيوعّي الناس ويفهّمهم حقوقهم وواجباتهم.. وهو زي التانيين.. كلّهم غاويين شهرة وفلوس وسلطة وأعراض الدنيا الزائلة والعياذ بالله.

الشيخ "إبراهيم":

- يا راجل.. دول كلّهم ناس محترمين وخايفين على البلد.. وعايزين يصلّحوا الناس مش يفسدوهم.. وبعدين الأولاني اللي مش عاجبك ده راجل مأصّل.. كان أبوه محامي وأديب مشهور وخاله كان وزير قد الدنيا ثم هو نفسه دكتور متعلّم في بلاد برّه وعارفينه هناك وواخد وضعه.. وأي بلد تتمنّاه يعيش فيها ملك.. غيرش هو اللي فقري وغاوي يبقى وسط أهله وناسه ومستحرم يسيبنا لوحدنا في الهّم اللي احنا فيه ده.. وكلّهم زيّه.. ما شاء الله مش ناقصين شهرة ولا فلوس وعمرنا ما سمعنا إن حد فيهم بيجري ورا منصب أو مرشّح نفسه ف أيّتها حتّة.. يا ريت كل الناس زيّهم.

"شحاته ":

- قول ياريت كل الناس تبقى زي شيوخنا الأجلّاء مش زي الناس المتفرنجين دول واللي ما فيهمش غير لسان طول الفرقلّة.

"حمداوي":

- يا سيدي إحنا كلّاتنا ولاد تسعة.. ولّا اللي مربيين دقنهم دول ولاد عشرة؟

"وديع":

- ما لهم اللي مربيين دقنهم يا "حمداوي" مش أحسن من اللي مربيين شعرهم زي الحريم.. إخفى بقى من قدّامنا الساعة دي أحسن ورب الكعبة نتلم انا وإخواني عليك نكوّمك ف مطرحك انت واللي يتشدّدوا لك.

"حمداوي":

- اللي يتشدّدوا لي دول همّ اللي لمّوا أهل البلد وخلعوا "عتريس" وطلّعوكم من حجز النقطة.. ولولانا كنت انت وإخوانك دول بتقرقشوا زلط لحد ده الوقت.. يا ولاد المحظورة.

"وديع":

- لأ بقى.. ده إنت زوّدتها خالص وخلّيتها خل.. وانا ح اورّيك مقامك يا واطي.

وهمّ "وديع" أن يفتك "بحمداوي" إلا أن أهل البلد حالوا بينهما إلى أن صاح فيهما الشيخ "إبراهيم":

- بس يا جدع انت وهو.. إخص عليكم وعلى أخلاقكم.. إنتم عايزين تضحّكوا علينا الخلق؟.. عايزينهم يقولوا علينا إن كرباج "عتريس" هو اللي كان مانع الخناق بيناتنا وأوّل "عتريس" ما انخلع مسكنا ف بعضنا؟

واستمر يقول في انفعالٍ شديد :

- إسفوخس عليكم ناس ما تختشيش صحيح.. بدل ما تتخانقوا يا بُرَم منك له اقعدوا مع بعض بالرّاحة واتفقوا ع اللي فيه مصلحة البلد علشان تنهضوا بيها.. ده انتم كده ح تفطّسوها وتفرّحوا فيها الأعادي.

وفي هذه الأثناء فوجئ أهل البلد بالحاج " محيي الحمل" (وهو من أعيان "الدهاشنة" الذين يمتلكون صلاتٍ قويّة بكلٍ من ضبّاط الهجّانة وأهل البلد حيث كان يعمل وكيلاً لأحد المحامين في البندر وكان داهية في استغلال ثغرات القانون لصالح موكّليه)؛ وكان يغذ السير مهرولاً حتّى إذا ما وصل المقهي تداعي على أحد الكراسي وهو يأخذ أنفاسه المتلاحقة بصعوبة، فلمّا لمحه الشيخ "إبراهيم" سأله مندهشاً :

- خبر إيه يا "محيى"؟.. ما لَك؟

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent