خبر
أخبار ملهلبة

"فات الكتير يا بلدنا ما بقاش إلّا القليل" | العلاقة بين الأغاني الوطنية ومصلحة الجمارك


البابا شنودة الثالث ينصح شعبه بالصبر


أغسطس 2015 :        
 



أغنية "فات الكتير يا بلدنا ما بقاش إلا القليل" صدرت بنسختها الأولى في عهد الزعيم "جمال عبد الناصر" بصوت "فايدة كامل" .. ثم ظهرت في نسختها الثانية في عهد المؤمن "أنور السادات" بصوت "الكابتن غزالي" .. ثم جاءت نسختها الثالثة في عهد البطل "حسني مبارك" بصوت "طلعت زين" .. وأخيراً (وليس آخراً بالطبع) أذيعت نسختها الرابعة في عهد المنقذ "عبد الفتاح السيسي" بصوت "محمد منير" .. أي أن هذه الأغنية ظلّت تتردّد طيلة حوالي سبعين عاماً.

يعني من سبعين سنة ما كانش فاضل إلا "القليل" إنما ده الوقت ما بقاش فاضل إلا "القليل" برضه .. طبعاً "القليل" ده لسه ما خلصش ومش باين له إنه ح يخلص بعد ستميت سنة كمان أصل الشاعر ما قالش "القليل" ده كام سنة أو كام قرن أو كام ألفية .. ما هو "القليل" ده كم أو عدد غير محدد وغير دقيق زي أي حاجة في "مصر" .. مثلاً صاحبك يقول لك: "استناني ف البيت ح اعدي عليك بعد الضهر" اللي هوَّ من بعد الساعة 12 الضهر لغاية 12 بالليل وانت ونصيبك بقى .. أو لمّا تسأل (كطبيب) العيّان عمّا تناوله على الإفطار وسبّب له هذا التلبّك المعوي الذي رسخ على مراوح قلبه فيجيب: "أكلت لقمتين كده ع الواقف" وفي الآخر "اللقمتين" دول يطلعوا طبق فول وخمس طعميّات وأربع أرغفة وما تيسّر من باذنجان مخلل وفحل بصل .. أو مراتك تطلب منك فلوس علشان ما عندهاش هدوم شتوي خالص ثم تكتشف إن الـ"خالص" ده عبارة عن تلات بلاطي وأربع جواكت وخمس تييرات وست فساتين وعشر عبايات ودستتين جلاليب بيتي.

المهم إن العبد لله سمع الأغنية بتاعة "القليل" دي من الراديو (أبو لمض وسلك) وهو قاعد بيرضع زمان قبل أن يدرك معنى الكلام المدهون بزبدة .. وبعدين سمعها أثناء بزوغ صباه من الست والدته شخصيّاً الله يرحمها وهيَّ بتنيّمه ف السرير بعد أغنية جوزين الحمام إيّاهم (بالظبط زي ما الحكومة بتحاول تنوّم شعبها وتصبّرهم بالأغاني دي علشان يستحملوا واقعهم الأليم) .. ثم شنّف أذنيْه بلحنها الخلاب وهو في ريعان شبابه أملاً في غدٍ مشرقٍ بسّام .. واستمر في ترديد كلماتها عندما كان يعمل بكد وهو في صلب الرجولة معتقداً أن الخير والرخاء يلوحان في الأفق قريباً .. وما زال يصغي إليها في مرحلة الكهولة وهو يتحسّر بعدما تبيّن أن كل ما كان يراه ما هو إلا سرابٌ وأضغاث أحلام .. وأعتقد أنه سيظل يسمعها بصعوبة (إن مد الله في عمره قليلاً) بواسطة السمّاعة التي يرتديها وراء أذنه في نهايات الشيخوخة .. وربما تشعر بها روحه وهي ترفرف فوق بقايا رفاته الراقدة في مقبرته التي تسكنها أسرة مصرية فقيرة وتمتلك راديو أو تلفاز تنبعث من أيّهما نفس الأغنية التي سوف تتجدّد بتوزيعٍ حديث ومطربٍ جديد لتظل تلح على أسماع المصريين وتزن على آذانهم في صورةٍ أَمَر من السحر لتقنعهم بأن "القليل" بالفعل قد أصبح قليلاً وأضحى يسيراً وأمسى نزيراً وبات هيّناً وأن الشمس ستشرق عليهم في الغد القريب لتبشّرهم بأن موعد الحصاد قد حان.

لاحظ سيادتك أن تصوير هذه الأغنية من النسخة الأولى للرابعة (كباقي الأغاني الوطنيّة) يصوّر نفس المشاهد تقريباً: الجماهير الغفيرة وتحالف قوى الشعب العاملة وهي تهتف للزعيم المفدّى الذي يلوّح لهم بيديْه فاشخاً ضبه من الأذن للأذن في تواضعٍ ومحبّة (ليترسّخ في ذهنك مدى التأييد الواسع والجماهيريّة العريضة التي يتمتّع بها الزعيم)، والعمل بهمّة وسعادة في المصانع والمزارع (فالمطلوب أن تعمل وتعمل فقط دون كللٍ أو ملل)، ووجوه المصريين الباسمة الراضية الطيّبة السعيدة (وفيهم أطفال يلعبون وشباب يضحكون ونساء تصفقن أو تغنين أو ترقصن ورجال يرفعون السبّابة مع الوسطى وليست الوسطى فقط تعبيراً عن النصر القادم لا محالة أو تحذيراً من أن هذيْن الإصبعين سوف يندبّان في عيْنيْ أي خائنٍ أو عميل .. فاهم)، ومعالم البلد وآثارها (لتشعر بقيمة الوطن وتفخر وتتفشخر به)، والمشاريع القومية الحديثة (لترى مجهود الحكومة في صنع المعجزات وتحقيق المنجزات)، وبعض الطائرات والمعدات العسكرية والجنود الراكعين الساجدين (لتتذكّر دائماً إن الجيش والشرطة هما من يظلّان ساهريْن لحمايتنا خلال نوم أم سيادتك وهيَّ هانئة بتشخّر في فراشها .. أو متنعمة بتتحاسب في قبرها القابع في تراب أرض الوطن)، وصور الزعماء الخالدين أبد الدهر مع حفنة من صور مشاهير السياسة والأدب والفن والرياضة (لتعرف قيمة من ينذر حياته في سبيل مجد الوطن وشموخه)، وبعض الكنائس والمساجد (حتى لا تنسى هويّتك الدينية ولا تفكّر في الفتنة الطائفية)، ولا مانع طبعاً من بعض المناظر الثانوية الأخرى : كالشمس وهي تشرق (لتشير إلى الغد المضمون قدومه كالشمس التي ستشرق غداً بالتأكيد .. مع أنها تشبه نفس الشمس وهي تغرب أيضاً)، وطيور تحلّق في السماء (تعبيراً عن الحريّة التي ترفرف على ربوع الوطن الحبيب)، وسيارات وقطارات وحيوانات وأبونا السقا الذي مات (لتتيقّن أن عجلة الحياة دائرةٌ على قدمٍ وساق مهما كانت الظروف والمحن).

وإذا قارنت بين حالنا أيّام كل نسخة من هذه النسخ الأربع للأغنية ستجد أن أشياءً كثيرة قد تغيّرت (بعضها للأفضل وأغلبها للأسوأ) حتى اسم جهة الإنتاج (من التوجيه المعنوي بوزارة الحربية للشؤون المعنوية بوزارة الدفاع) .. ولكن الذي ظل ويظل وسيظل باقياً دون تغيير هو إن "الكلام ما عليهوش جمرك".

وكل "قليل" وانت طيّب يا راجل يا طيّب.

google-playkhamsatmostaqltradent