خبر
أخبار ملهلبة

أهلاً (2) | الجريمة | نجيب محفوظ


يد رجل غني يتصدق بعملة زكاة يتلقفها فقير بيديه الاثنين متلهفاً

أهلاً (2)

 

 

-       لا ذنب لها .. ولكننا نسكـن جـمـيـعـاً في حـجـرةٍ واحـدة .. وفي المدرسة لا يفهمون شيْئاً.

-       إنكم تنشدون معجزةً لا ثوْرة.

-       إنه حال أبناء الفقراء جميعاً.

-       كلّا.

-       الاستثناء لا يُعَوَّل عليْه.

-       كان اليأس القديم أنسب لكم.

-       ما زال المال يملك الحظ كلّه.

-       المسألة أن الأمور معقّدة .. أمور الدنيا كلها معقّدة.

-       خِلّينا في أنفسنا.

-       ولكننا جزءٌ من الدنيا.

-       هل أنتظر حتى تُحَل مشاكل الدنيا؟

-       ليْس كذلك بالضبط .. ولكنه تساؤلٌ لا يخلو من حقيقة.

وضحك الموظّف الكبير ليخفّف من وَقْع قوْله ثم استطرد:

-       ولا تنسَ أننا في حال حرب.

أرجع ماسح الأحذية فَرْدة الحذاء وتناول الأخرى ثم قال:

-       وسبق ذلك الهزيمة.

-       لا داعي لتذكيري بما لا يمكن أن يُنْسى.

-       بعد أن نفختنا الآمال حتى طِرنا في الجوْ.

-       قيل كل ما يمكن أن يقال.

-       متى نحارب يا بيك؟

-       هل تنتظر من وراء الحرب حلّاً لمشاكلك؟

-       الحركة بركة.

-       ربّما اللقمة نفسها لن تجدها.

فهز الماسح منكبيْه استهانةً بينما واصل الموظّف:

-       سنحارب عندما نضمن النصر.

لم ينبس الماسح ببنت شفة ولكن وضح أنه لم يقتنع فاستطرد الموظّف حديثه قائلاً:

-       هل تعرف معنى الحرب؟ .. هل تتـصـوّر حالنا إذا خربت المصانع والسدود والمواصلات؟

-       نفعل بهم مثلما يفعلون بنا.

-       ستتوقّف الحياة هنا.

-       لیكن .. المهم أن نحرّر أرضنا.

-       هل تهمّك الأرض حقّاً أم أنك تريد الخراب؟

-       أريد أن أحيا في ظِل العدل.

-       يبدو أنك تريد أن تهدمها على رءوس مَن فيها.

-       لا والله يا بك.

خُيِّل إلى الموظّف أن الماسح يقصده بشيءٍ ما لكنه استكمل:

-       المهم النصر لا الانتقام.

-       أنا لا أفهم.

-       الأمور واضحة.

-       يا بك أنا أريد النصـر والحياة المعقولة .. خبّرني كيْف ومتى يتم ذلك؟

-       لا أدرى متى .. ولكنه يتم بالصبر والعمل والإخلاص.

تصرّف الماسح كأنه أصم، يرفض التـصـديق والاقتناع، وقد أنجـز عـمله، أعطاه الموظّف خمسة قروشٍ بدلاً من قرشيْن، تهلّل وجهه ودعا له بالستر، واعترف الموظّف فيما بيْنه وبين نفسه بأنه في حاجةٍ ماسّةٍ لذاك الدعاء، وبأنه يشاركه حيرته فـضـلاً عن المخاوف التي ينفرد بها وحـده، ورآه يهمُّ بالذهاب فسأل الموظّف:

-       ما رأيك فيما قلت؟

ابتسم ماسح الأحذية مدارياً شكوكه وتمتم:

-       كلامٌ جميل.

-       وحقيقي أليس كذلك؟

-       مثل كلام الراديو.

شعر الموظّف الكبير بأن الماسح يذكّره بكلام الراديو طيلة عشرين عاماً، وشعر بأنه يوبّخه فأوشك على الانفعال فصاح:

-       ولكن بروحٍ جديدةٍ تماماً.

-       نرجو ذلك.

-       ألا تريد أن تصدِّق؟

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent