خبر
أخبار ملهلبة

أهلاً (3) | الجريمة | نجيب محفوظ


يد رجل قهوجي تمسك ماشة تقبض على قطعة فحم مشتعلة أو ولعة لوضعها على حجر دخان معسل

أهلاً (3)

 

 

فرفع ماسح الأحذية درجة صوته ليقنعه بإيمانه قائلاً:

-       ما دمت تصدِّق فأنا أصدِّق.

ضحك الموظّف الكبير ضحكةً فاترةً مقتضبة، وسأله ماسح الأحذية:

-       هل ترجع إلى المقهى كالأيّام الخالية؟

-       إن شاء الله كلّما سنحت فرصة.

-       عندما رأيْتُك فَرِحْتُ ورجعتُ فجأةً إلى الشباب.

ثم حيّاه ماسح الأحذية وانصرف، وصفّق الموظف الكبير طالباً وقوداً للنارجيلة الخابـية (التي خبا لهبها وانطفأت نارها).

 

 

(تمّت ..... ولكن هناك تعقيبٌ هام من "ابن أبي صادق" بالأسفل)

تعقيبٌ واجب:

من المفترَض أن الثوْرة – أي ثوْرة – تهدف إلى تغيير واقع البلد – أي بلد – إلى الأفضل فيقل الفساد ويشيع الصلاح وتتحسّن ظروف المواطنين فيعيش الفقير بكرامة ويجد القوت الضروري والملبس المعقول والمستقبل الآمن له ولأوْلاده.

لكن هذا لم يحدث في ثورات بلاد العالم الثالث وضمنها "مصر" بالطبع، فبعد ثوْرة يوليو 1952 (إن جاز لنا تسميتها ثوْرة بالأساس) رقص الناس سعداء مستبشرين حالمين بمستقبلٍ أفضل (قال "نجيب محفوظ" في هذه القصّة على لسان بطليّها: لقد رقصنا يوم قامت الثوْرة وضحكنا من أعماق قلوبنا وسكرنا جميعاً بالآمال)، ولكن بعد حوالي عشرين عاماً (أي وقت صدور هذه القصّة في 1973 وقبل وقوع حرب أكتوبر مباشرةً) تقابل قُطْبَيْ الشعب المصري: الحاكم المسؤول الفاسد المستفيد من قيام الثوْرة (ويُرْمَز له هنا بالموظّف الكبير اللص الذي كان فقيراً وأصبح يمتلك عمارة وفيلّا وسيّارة) مع المواطن المحكوم المسكين الذي لم يستفِد (بل تضرّر) من نَفْس الثوْرة (ويشار له في القصّة بماسح الأحذية المهمَّش الفقير المطحون الذي يعيش مع أسرته على الكفاف ولم تتحسّن حاله عمّا كان قبل الثوْرة بل زادت سوءاً فبعد أن كان فتىً يافعاً متين البنيان متدفّق الحيويّة مهذاراً صار منهكاً فجف عوده وتغضّن وجهه وأصابته شيخوخةٌ مبكّرة).

وحدثت المقابلة والمواجهة بين الاثنيْن في رحاب الوطن (المقهى القديم الذي لم يتغيّر فيه شيء) الذي شهد فقرهما وحالهما المتدهور قبل عشرين عاماً، ثم تفاوت وضعهما بعد عشرين عاماً من حدوث الثوْرة فأصبح المسؤول الفاسد (الموظّف الكبير) جالساً مستريحاً على كرسيٍ عالٍ في حين جلس المواطن المقهور (ماسح الأحذية) أسفل المسؤول (عند قدميْه) يعاني وضعاً غير مريح (جلس على قرافيصه)، وللغرابة الشديدة أن المسؤول لا يشعر بوجود المواطن أصلاً إلّا عندما يضج الأخير بالشكوى فيصدر صوتاً مسموعاً (صوت دَقّة ماسح الأحذية التقليديّة)، ويُلاحَظ أيْضاً أن "نجيب محفوظ" قد رَمَزَ للثوْرة بالنارجيلة التي اشتد لهبها واتقدت نارها أول الأمر (1952) ثم ما لبث أن خمدت جمرتها وهمدت شعلتها بعد ذلك (1973).

ولأن المسؤول يخشى من قيام ثوْرةٍ أو فوْرةٍ أخرى تبدّل الأوْضاع مرّةً ثانية فيفقد مكاسبه ويخسر مركزه الحالي فهو يداوم على تصبير المواطن المدحور ويستمر في إقناعه بأن الحاضر أفضل محاولاً تبرير فشل الثوْرة (وبالأحرى فشله هو في إدارة أمور الوطن) في تحقيق المُنْتَظَر منها بذرائع مختلفة (نسمعها من المسؤولين حتى الآن) والتي رد عليها المواطن بالحقائق الواقعة:

·      يقول المسؤول أن الوضع الآن أفضل بعد أن تخلّصت الثوْرة من الإقطاعيّين (كان يتسلّط على الوطن إقطاعيّون يبذّرون الملايين على ملذّاتهم) فانزاح الظُلم عن العامّة (تحسّنت أحوال العُمّال والفلّاحين) .. فيرد المواطن بأن الجميع متضرّرون وأنه لا يقابل أحداً غيره إلّا ويشتكي من ضيق الحال مثله (إني لا ألقى إلّا شاكياً مثلي).

·      يزعم المسؤول أن الدور في تحسّن الأحوال لم يصِب الناس بعد وأن عليهم أن يصبروا حتى يحين موعد جني ثمار الثوْرة (كل آتٍ قريب) بل يجب عليهم أن يستعدّوا للتضحية بجيلهم من أجل الأجيال الجديدة (قد يُضحَّى بجيلٍ في سبيل الأجيال القادمة) .. فيتعجّب المواطن من أنه تحمّل عشرين عاماً طويلة ولم يَجِدْ جديد بل أنه يرى بعيْنيْه الكثيرين من المسؤولين الحاليّين (المحظوظين السعداء) الذين يرفلون في النعيم كباشاوات ما قبل الثوْرة (يركبون السيّارات الفاخرة كأيّام زمان).

·      يدّعي المسؤول أن الثوْرة قد أوْفت بوعودها (حقّقت الآمال) رغم أن التوفيق يجافيها والمحيطين بها يحاربونها (لوْلا سوء الحظ ولوْلا الأعداء) وأنه ليس في الإمكان أفضل ممّا كان .. فيجيبه المواطن بأن مطالبه – التي لم تتحقّق – بسيطةٌ وأن متطلّباته قليلة (زوال الظُلم والفقر ولقمةٌ متوفّرة ومستقبلٌ للأوْلاد).

·      يتعلّل المسؤول بأن سبب المصائب وأُس البلاء هو الانفجار السكّاني وإنجاب الكثير من الأطفال (واضح أنك تشكو كثرة العيال) ورغم ذلك تبذل الدوْلة مجهوداً كبيراً في رعايتهم وتعليمهم (المدارس مفتوحة لاستقبال الجميع) .. فيرد المواطن بأن أولاده لا يجدون الرعاية (الأولاد ضاعوا جميعاً) ولا يستفيدون من ذلك التعليم السيء المتردّي الذي لا يساعد على نجاحهم في المستقبل (دخلوا المدارس وخرجوا منها كما دخلوا ولم ينجح أحد).

·      يشير المسؤول بأن الأحوال الصعبة ليْست قاصرة على بلادنا فقط بل تشمل كل البلاد التي تشكو نفس مشاكلنا (أمور الدنيا كلّها معقّدة) .. فينصح المواطن المسؤول بأن يركّز تفكيره وجهده على مشاكلنا نحن (خلّينا في أنفسنا) ولا يلتفت إلى الآخرين ليرى ويترقّب كيف يحلّون مشاكلهم (هل أنتظر حتى تُحَل مشاكل الدنيا؟).

·      يتحجّج المسؤول بأننا في حالة حرب (ضد "إسرائيل" قديماً وضد الإرهاب حديثاً) وبأن لا صوتَ يعلو فوق صوْتِ المعركة (لا تنسَ أننا في حال حرب) وبأنه يستكين الآن منتظراً حتى يتحيّن الفرصة المناسبة ليتخذ قرار الحرب ضماناً للانتصار (سنحارب عندما نضمن النصر) لأن قرار الحرب صعب وربما يجلب الخراب ويتسبّب في توقّف عجلة الحياة ويؤدي إلى أزمة في الطعام (هل تعرف معنى الحرب؟ .. هل تتـصـوّر حالنا إذا خربت المصانع والسدود والمواصلات؟ .. ستتوقّف الحياة وربما لن تجد اللقمة نفسها) .. ولكن المواطن يسخر ممّا قاله المسؤول ولا يهتم بتحذيراته (هز منكبيْه باستهانة) لأنه لن يكون أسوأ ممّا فيه مُذكِّراً إيّاه بأنه مَن قاد البلاد للهزيمة (وسبق لنا الهزيمة .. لا داعي لتذكيري بما لا يمكن أن يُنْسى) ومتسائلاً عن موْعد شن الحرب (متى نحارب يا بك؟) على "إسرائيل" (الذي تم بالفعل بعد صدور هذه المجموعة القصصيّة) لتتخلّص البلاد من حالة اللا حرب واللا سلم التي عانت منها "مصر".

·      وأخذ المسؤول يثرثر ويُكْثِر من الكلام الفارغ والكليشيهات المعروفة (لا يجب أن ننظر للوراء .. المهم النصر لا الانتقام .. الأمور واضحة .. كل شيء يتم بالصبر والعمل والإخلاص .. الروح الجديدة .. إلخ) وهي نفس العناوين المحفوظة التي يردّدها الإعلام الموجّه من الدوْلة (كلام الراديو) الذي يلح دائماً على سَمْع المواطن (طيلة عشرين عاماً؛ بل طيلة سبعين عاماً) لتغييب وعيه وغسل مخه .. ولكن المواطن الذكي الخبير بألاعيب المسؤول لا تنطلي عليه هذه الحجج الواهية سابقة التجهيز (ابتسم مدارياً شكوكه وتمتم: كلام جميل) فلا يقتنع بالكلام المنمّق الذي يخالف الواقع الذي نعيشه (يرفض التصديق والاقتناع).

وتنتهي القصّة إلى اتهام المسؤول للمواطن بأنه يحلم بالمستحيل (إنكم تنشدون معجزةً لا ثوْرة) وأنه لا يستحق هذه الثوْرة العظيمة (كان اليأس القديم أنسب لكم) وأنه يسعى لخراب البلاد (يبدو أنك تريد أن تهدمها على رؤوس مَن فيها)، وذلك بعد أن يمنح المسؤول مالاً (خمسة قروشٍ بدلاً من قِرشيْن) أكثر قليلاً ممّا يستحقه المواطن الذي يشعر بالسعادة ويدعو للمسؤول (تهلّل وجهه ودعا له بالستر) وبذلك يتراضى الطرفان ويشعران بالقناعة ويؤجّلان الحل:

-       فالمسؤول يحتاج لأن يرى ولاء المواطن وامتنانه له (اعترف بأنه في حاجةٍ ماسّةٍ لذاك الدعاء) ليضمن عدم ثوْرته وانقلابه عليه رغم ضيق حال المواطن وفقره.

-       المواطن يحتاج لهذه المنحة (القروش الخمسة) من حينٍ لآخر ليفك ضائقته وينفِّس عن أوْلاده أزمتهم غافلاً عن أن تلك النفحة ما هي إلّا فُتاتٌ صغيرةٌ ضئيلة من حقّه المهضوم في خيْر بلاده الذي يغتصبه ذلك المسؤول الفاسد وأمثاله.

google-playkhamsatmostaqltradent