خبر
أخبار ملهلبة

الطبول (3) | الجريمة | نجيب محفوظ

 

لوحة بالألوان المائية لأربعة جنود من الجيش يسيرون متعبين في الصحراء

الطبول (3)

 

 

لم نصدق بادئ الأمـر آذاننا، ثم بُهِتنا من شـدّة المباغتة، الحـركـة السريعة نُدْعي إليـْهـا عـادةً في مطلع الرحلة وفي ضوْء النهار، أمّا أن تُفرَض عليْنا قبيْل النهاية فشيءٌ خارقٌ وغيْر إنساني يراد به القضاء عليْنا، وإلى ذلك فهي نوْعٌ من الوثبات المتلاحقة في صـورة جـريٍ مـتـقـارب الخطوْ يقتضي استخراج البطاريّات من جيوبنا الخلفيّة لتنير لنا الطريق خشية أن نتعثّر في نقرةٍ أو نرتطم بحجر، فكيف يُتاح لنا ذلك مع حملنا الثقيل وتعبنا الأليم؟!، ولا فـرصـة للتـمـرّد فليْس أمـام الـهـارب من الطابور في ذلك المكان إلا الضياع في الصحراء والظلام، فلا مفر من الانصياع والإذعان، ومضى القائد يثب، فاندفعت دقّات الطبول في تلاحقٍ سريع، وشرعنا في الحـركـة السـريعـة، جرّبنا أن نمارسها مع الاحتفاظ بأحمالنا ومع استغناءٍ عن البطاريّات ولكن بدا ذلك ضرباً من المحال، لا مفر من التخلّص من أحمالنا العزيزة، ولا مفر، حتّى لو تعرّضنا للكآبة والقـرف والحـرمـان، لا مفر، وتخلّصنا من البطيخ والسلال، تركناها لَـقَيْ (ما يُترَك ليلتقطه الغيْر) في الصحراء للحشرات والهـوام، وأخذنا نشبُّ بسيقانِ متهافتة وعزائمٍ خائرة وقلوبٍ باكية، مضيْنا يلفّنا الظلام على ضوْء البطاريّات المتحرّكة في أيْدينا كأننا نجومٌ متداعية تبعث بإشعاعها الأخير قبل اندثارها النهائي، وتذكّرنا بحسرةٍ ساخرةٍ فرحة الاستيقاظ وبهجة الأناشيد ودعابة الطريق ونشوة الحقل ومتعة الشراء، تذكّرنا ذلك كلّه بذهول، ونحن نـتـقـدم شـبـه عـرايا منهـوكي الـقـوى إلى معسكرنا الرابض في أعماق الخلاء، وتقدّمنا كـمـا قُـِدر علينا؛ وحتّى الأسف لم يعد يُجدي، ولم نهتم كذلك بما إذا كان ينتظرنا عقابٌ جديدٌ أم سيكتفى بما حل بنا، وتاقت أنفسنا للنوْم باعتباره الشفاء الأخير لجميع الآلام، وأخذت دقّات الطبول تبطئ رويْداً رويْداً إيذاناً بتغيير الحركة وتقارب المعسكر، وعدنا تدريجيّاً إلى سيْرنا العادي، ومن شِدّة الجهد لم نجد حاجةً لتبادل همسةٍ واحدة فغاص كلٌ في وحدته، وما ندري إلّا ونحن ندخل في الممر الطويل الـضـيّـق فـتـفـعم أنوفنا روائح الكلس وعطن البول، وفي الفناء امتـدّت تكويناتنا الرباعية لتصنع طابوراً واحداً، فوقفنا متصبّرين لنتّقي التقوّض والانهيار، وصمت قائدنا مليّاً، ربّما ليُتِمَّ تعذيبه لنا، ثم قال بصوْتٍ هادئٍ مليءٍ بالنذر:

-       انتهت رحلتنا .. وغداً يجمعنا الحساب .. أمّا الآن فتناولوا عشاءكم ثم أخلدوا للنوم.

ولم يهمّنا إلّا النوْم ... أجل ... ليكن الآن نوْم ... وليكن في الغد حساب.

 

 

(تمّت ..... ولكن هناك تعقيبٌ هام من "ابن أبي صادق" بالأسفل)

تعقيبٌ واجب:

كما عوّدنا "نجيب محفوظ" في هذه المجموعة القصصيّة فإنه يعتمد على رمزيّة كل قصّة، وهو هنا في ظاهر هذه القصّة يحكي عن مجموعةٍ من الشباب في معسكر كشّافة يقومون برحلةٍ مع قائدهم من جوْف الصحراء إلى منطقة الأهرامات وبالعكس، مع ما يواكب رحلتيْ الذهاب والعوْدة من أحداثٍ وملابسات، لكنه في جوهر القصّة يرمز ويلمّح ويشير إلى قضايا أخرى يمكننا أن نستشفها ونسقطها على عدّة صورٍ وأوْجه حسبما يتراءى لنا:

·      يمكننا أن نزعم أنه يقصد أن هذه القصّة تدور حوْل بداية رحلة حياة الإنسان حتّى نهايتها .. رحلة تبدأ منذ فجر الطفولة (استيقاظ الكشّافة في الفجر) حتى نهاية الشيخوخة (أنفاس شيخوخةٍ فانية .. شبه عرايا منهوكي القوى) ثم الموْت (انتهت رحلتنا ولم يبقَ إلّا النوْم) انتظاراً لحساب الله الواحد الأحد (في السماء نجمٌ واحد) في الآخرة (ليكن في الغد حساب) .. مع ما يعتري تلك الرحلة الطويلة الشاقّة من أحداثٍ متلاحقة (دقّات الطبول) .. وعملٍ متواصلٍ دؤوب (انتشرت الحركة .. أُقيدت الأنوار .. طرقعت الشباشب .. سالت المياه .. هدرت السيفونات .. أزّت الحلّاقات ... إلخ) .. ومشاكلٍ وعثراتٍ تصادف الإنسان (ضربة عصا .. قرصة في ذراعه .. نواة نبقة في قفاه .. بول كلب ... إلخ) .. وحروبٍ ومعارك شخصيّة (اشترك كل واحد في المعركة مهاجماً أو مدافعاً) .. واستراحاتٍ وتداوي من الجروح التي قد تلحق به من الغير (استراحة .. نجفف عرقنا .. نضمّد جراحنا ... إلخ) .. والتردّد (أنتّجه جنوباً أم نمضي شَمالاً؟) بين طريق الضلال (الضياع في الصحراء والظلام) وسبيل الرشاد (عرفنا الهدف وبلغنا هضبة الأهرام) .. والمرور بأوقات السعادة والأفراح (البهجة والمسرّة والمرح عند ترديد الأناشيد) .. وأوقات الحُزن والأتراح (سيقان متهافتة وعزائم خائرة وقلوب باكية) .. وأوقات النشاط (ركّبنا الحقائب فوق الظهور وعقدنا الزمزميّات بالأكتاف وتناولنا العصى وهرعنا إلى الفناء عجلين) وأوقات التعب (فتر حماسنا ثم خمد ومن شدّة الجهد لم نجد حاجة لتبادل همسةٍ واحدة) .. والاستمتاع بنعم الله التي لا تُحصى (السجائر والصابون والفاكهة والمياه الغازية والموز والبطيخ) .. وارتكاب الذنوب والخطايا (العربدة المكتومة والأطوار المستهترة والغناء الماجن والرقص المتهتِّك) .. وتلقّي عقاب الرب أو الرجاء في مسامحته وغفرانه (علينا أن نتوقّع عقوبةً مضاعَفة .. وأمّلتنا في تخفيف العقوبة).

·      ويمكننا أيْضاً أن ندّعي أنه يشير إلى قصّة رحلة قدوم "بني إسرائيل" الذين هم عشيرة "يعقوب" وأهله من بادية "فلسطين" إلى "مصر" بناءً على دعوةٍ من "يوسف" (رحلة الكشّافة من معسكرهم بجوْف الصحراء إلى منطقة الأهرامات) ثم رحلتهم في الخروج من "مصر" مع "موسى" و"هارون" (رحلة عودة الكشّافة من الأهرام إلى معسكرهم بجوْف الصحراء مرّةً أخرى) بعد أن طاردهم "فرعون" ورجاله (الكلب الذي بال عليهم) .. حيث تميّزت رحلة العوْدة - بالذات - بالكثير من الصعاب والعذاب بعد أن شابها العديد من المخالفات والذنوب والخطايا التي ارتكبها "بنو إسرائيل" (عربدة شباب الكشّافة مع الفتيات) ممّا جعل الرب يعاقبهم بسنوات التيه (ضياع الكشّافة في الصحراء والظلام) بعد أن اغترفوا من خيْرات الدنيا وأطايب طعامها من المَن والسلوى (السجائر والصابون والفاكهة والمياه الغازيّة التي اشتراها شباب الكشّافة) .. ويشير وقت (استيقاظ شباب الكشّافة في الفجر) إلى وقت حدوث قصّة "بني إسرائيل" منذ فجر تاريخ البشريّة .. ويرمز (في السماء نجمٌ واحد) إلى الإله الواحد .. وترمز (أناشيد الكشّافة) للترانيم الدينيّة .. و(الصُفّارة) إلى البوق اليهودي .. و(الطبول) إلى المعتقدات والأساطير التي يروّجها اليهود ليملأوا الدنيا صخباً ليُشعِروا العالم بوجودهم رغم قِلّتهم .. و(نشبت معركةٌ عمياء وتواصل الضرب بلا رحمة وكأننا نقاتل المجهول في الأركان الأربعة) إلى الحروب الأربعة (أعوام 1948 و56 و67 و1973) لـ"بني إسرائيل" مع أولاد عمّهم العرب .. كما تشير (وفي نهاية اليوم أخذت دقات الطبول تبطئ ولم تعد للأناشيد متعة بعد أن صرنا منهوكي القوى وبات النوْم هو الشفاء الأخير لجميع الآلام فليكن الآن نوْمٌ وليكن في الغد حساب) إلى أننا سنصل حتماً لنهاية الزمن الذي يضعف فيه "بنو إسرائيل" ويخفت صوْت صخبهم ويصيرون إلى زوال ويصبحون خائري القوى ويصيبهم الوهن ويحيق بهم الموْت حتّى يحين يوم الحساب.

·      ويمكننا كذلك أن نُسقِط تلك القصّة على مسألة رحلة صعود المؤسّسة العسكريّة (شباب الكشّافة) إلى مقر السُلطة في "مصر" (الأهرام) ثم معاناة الجيش المصري أثناء الانسحاب بعد هزيمة 1967 (رحلة عوْدة الكشّافة والضياع في الصحراء والظلام) بعد أن أهملوا مهامهم وانغمسوا في الملذّات (العربدة والرقص والمجون التي مارسها شباب الكشّافة) وأداروا ظهورهم للواجبات المنوطة بهم واستسلموا للكسل (ارتميْنا فوق الحُصْر مستسلمين لراحةٍ عميقة) في ظل تقاعسٍ كامل من "جمال عبد الناصر" (قائد الكشّافة) الذي غض البصر عن خطايا قوّاده وغرق في الغفلة بعد أن أحاط نفسه بالترف والبذخ ورغد العيْش (كان القائد نائماً في سريره السَفَري وراء عربة التموين) تماماً كبقية العسكر الذين تنعّموا بالخيرات والرفاهية (السجائر والصابون والفاكهة والمياه الغازية والموز والبطيخ .. والفتيات أيْضاً) .. ويشير وقت (استيقاظ شباب الكشّافة في الفجر) إلى وقت حدوث ثورة يوليو 1952 الذي يعتبر فجر بزوغ الجمهوريّة بعد زوال الحكم الملكي .. ويرمز (في السماء نجمٌ واحد) إلى انفراد الزعيم الواحد الديكتاتوري بحكم البلاد .. وترمز (أناشيد الكشّافة) للأناشيد العسكريّة والأغاني الوطنيّة التي كان يطنطن بها العسكر .. و(الصُفّارة) إلى القرار الفردي الأحادي الذي يستأثر به حُكم الفرد .. و(الطبول) إلى أصوات الجعجعة الفارغة التي تصدر من العسكر دون العمل الجاد الهادئ في صمت لينطبق عليهم قوْل "ضجيجٌ بلا طحين" .. و(نشبت معركةٌ عمياء وتواصل الضرب بلا رحمة وكأننا نقاتل المجهول) إلى نكسة 1967 حيث كانت هزيمةً سريعةً نكراء انتهت قبل أن يسترد الجيش المصري وعيه ويفيق من الصدمة .. كما تشير (وفي نهاية اليوم أخذت دقات الطبول تبطئ ولم تعد للأناشيد متعة بعد أن صرنا منهوكي القوى وبات النوْم هو الشفاء الأخير لجميع الآلام فليكن الآن نوْمٌ وليكن في الغد حساب) إلى نهاية كارثة 1967 بعد أن وضعت الحرب أوزارها وخَفَت صوْت الأغاني الوطنيّة التي لم يعد لها معنى وتلاشت لغة التعالي الحنجوريّة التي كان يتكلّم بها قادة الجيش فصاروا خائري القوى لا حوْل لهم بعد أن كانوا يهدّدون بإلقاء العدو الإسرائيلي في البحر فصار لزاماً عليهم أن يتنحّوا أو يتم عزلهم ليشفى الوطن من جراحه وآلامه إلى أن يحين يوم حساب الشعب والتاريخ لهؤلاء المنهزمين.

وأنت سيدي القارئ: على أي وجهٍ من تلك الأوْجه الثلاثة توافق وتتّفق؟ .. وكيف تراءت لك هذه القصّة الرمزيّة؟ .. وهل يمكنك أن تسقط معانيها وأحداثها وشخصيّاتها ورموزها على قضيّةٍ رابعةٍ أو خامسة؟ .. ربما يقفز بك تفكيرك الرحب ويحلّق بك خيالك الواسع في أجواءٍ مختلفةٍ عمّا أعملت فيه فكري القاصر وعمّا أدركه خيالي المتواضع.

google-playkhamsatmostaqltradent