خبر
أخبار ملهلبة

"أرواح بلا قبور" | أمواتٌ للبيع (1)


سوق الجمعة في مقابر الإمام الشافعي بالقاهرة في مصر

أمواتٌ للبيْع (1)

 


لم يذكر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان شيْئاً عن حقوق الموْتى ولكن المصري القديم منذ زمن الفراعنة كان أوّل من آمن بهذه الحقوق وعمل على توفيرها لموْتاه فخصّص لهم أماكن منعزلة متميّزة لدفنهم وسط طقوسٍ احتفاليّة تكريماً لانتقالهم إلى العالم الآخر دون أن يهمل وضع الطعام والشراب والملابس والحلي والمجوْهرات داخل مقابرهم ليستكملوا رحلتهم الأبديّة في راحةٍ دون عناء، بل فضّل المصري القديم الموْتى على نفسه وحرّم العبث بالقبور أو اقتحامها أو حتّى الاقتراب منها وبنى تمثال "أبي الهول" ليكون حارساً للموتي من اللصوص والعابثين.

وبدأت حقوق الموتى في التآكل عصراً بعد آخر حتّى تلاشت تماماً في عصرنا الحالي تحت وطأة الفقر والزحام فسادت ثقافة "الحي أبقى من الميّت" فأصبح المصري الآن يطارد الموْتى في مقابرهم وينافسهم في مساكنهم ويزعجهم في رقدتهم الأخيرة، ولم يقتصر الأمر على السكن في المقابر وإقامة الأسواق التي تعرض البضائع المسروقة في ساحاتها وبين طرقاتها بل تعدّى المألوف وتجاوز إلى حد استغلال هذه الأماكن ذات الحرمات في تجارة المخدّرات وممارسة الدعارة، وليّت الأمر توقّف عند هذا الحد فقط بل قامت تجارةٌ رائجة تستبيح الموْتى وتجور على حقوقهم البسيطة دون أدني شعورٍ بالذنب أو خوْفٍ من عقاب الله تعالى.

وبدايةً من الإتجار في أماكن الدفن ونهايةً بالتربّح من وراء جثث وأشلاء الموْتى تدور هذه القصّة التي تثبت عكس ما يقول المثل الروسي : "الموْت لا يكلّف شيْئاً" ؛ فقد صار الموْت مكلّفاً للغاية هذه الأيّام، مسرح هذه القصّة هو مقابر الإمام "الشافعي" التي يسمّيها المصريّون "القرافة" نسبةً إلى "بني قرافة" من قبيلة "المعافر" اليمنيّة الذين سكنوا بجوار هذه المنطقة بين جبل "المقطّم" و"الفسطاط"، وتبدأ أحداث القصّة في عصر أحد أيّام السبت عندما امتد حبل الحوار بين "السيّد" التُرَبي وزوْجته في منزلهما الكائن بحوش مدفن عائلة "دويدار" باشا :

- سلامُ عليكم يا ام "حمزة".

- وعليكم السلام يا سي "السيّد".. حمد الله ع السلامة.

- الله يسلّمك.. خدي شيلي دول ف الصندوق اللي تحت الكنبة.. واقفليه بالقفل كويّس.

- كام دول؟.. اتنين.. أربعة.. ستّة.. سبع بواكي؟

- آه.. حقّي ف السمسرة بتاعة مدفن "الهوّاري" والتربة اللي جنبه.

- بعتهم على كام؟

- المدفن بميّة وخمسين ألف.. والتربة بتلاتة وعشرين.

- واصحاب المدفن رموه برخص التراب كده ليه؟.. ده يجيب لهم بالميّت ميتين ألف؟

- همّ أحرار.. من حكم ف ماله ما ظلم.. بيقولوا مستعجلين علشان ح يهاجروا بلاد برّه.. ربّنا يسهّل لعبيده.

- طب ما دام ربّنا رزقك النهار ده ما تدّي الواد "حمزة" الألف ونص اللي طلبهم منّك علشان يشتري المكنة اللي عايزها.

- فيه حد يشتري موتوسيكل مسروق بألف ونص برضه!.. واللهِ ما ح يبوّظ الواد ده إلّا انتي يا وليّه.. هوّ انا يعني باكبش الفلوس دي م السما.. ده انا قاطعها من لحم الحي.. مش كفاية النهار ده كان عندي سبع دفنات ومش لاقيه جنبي يساعدني.. تلاقيه ماشي على حل شعره مع شويّة العيال السيس ايّاهم.. مش كان هوّ أوْلى بالألف وربعميت جنيه اللي لطشهم منّي الواد "جبر".

- ما انت عارفه مش غاوي الكار بتاعك ده.

- أمّال عايز يبقى طيّار بروح امّه.. طب كان نفع ف المدارس بدل ما هو شحط كده قرّب ع العشرين سنة وبيمّد لي إيده لحد ده الوقت.

- ربّنا يخلّيك له يا خويا.. إن كانش ح يدلّع على ابوه أومّال ح يدلّع على مين؟

- أيوه أيوه.. إبلفيني انتي وابنِك.. برضه مش ح يطول منّي ملّيم أحمر.. مش كفاية ضيّع الخمسميت جنيه اللي ادّيتهم له الأسبوع اللي فات وراح اشترى بيهم أنسيال فضّة كتب عليه "حمزة الجِن".. جن لمّا يلخبطه البعيد.

- معلهش يا سي "السيّد".. شباب بقى وشايف نفسه اليومين دول.. إعمل معروف ادّي له الفلوس أحسن ده ح يموّت نفسه لو ما خدهمش.. ده قال لي انّه لو ما جابش الفِسبه ح يطفش ومش ح نشوف وشّه تاني.

- المركب اللي تودّي يا اختي.. قومي يا وليّه حطّي لي لقمة اطفحها قبل ما اروح اشوف اللي ورايا.. داهية تسمِّك زي ما عكننتي عليّ انتي وابنِك ف الساعة اللي جاي استريّح فيها.

- أنا ما لي يا خويا.. اصطفل مع ابنك.. أنا ما لي.. وبعدين انت رايح فين تاني؟

- رايح افتح تربة مسجد "العمري" علشان عندهم ميّت.

- قطيعة !.. همّ الميّتين كتير ليه النهار ده كده؟

- قُرّي بقى يا فقريّة.. مش النهار ده السبت اللي بندفن فيه الناس اللي ماتوا امبارح والنهار ده.. إنتي ناسية إن ما فيش دفن يوم الجمعة بسبب سوق الجمعة اللي بتوقّف المراكب السايرة.

- آه صحيح نسيت.. دقيقة والأكل ح يبقى جاهز.

- إعملي حسابِك إنّي ح اخد الواد "جبر" واطلع من برّه برّه بعد العِشا اروح للدكتور "جمال" اسلّمه جثّتين من بتوع النهار ده ينفعوا معاه ف دروس التشريح الخصوصيّة اللي بيعملها ف بيته للعيال الطلبة بتوع الطب.. ولمّا ارجع ح ابقى اعس ف الترب اللي فتحناها النهار ده على أي حاجة تنفع تتباع للمستشفى دي بتاعة زرع الأعضاء يمكن ألاقي جِتّة ولّا اتنين ينفع ناخد منهم عيون ولّا كلاوي ولّا كِبَد.. ولوْ إن الميّتين النهار ده أكترهم كراكيب فوق التمانين بس فيه جثّة بتاعة شاب مات ف حادثة إن شاء الله ح تنفعنا.. حضّري لي التلاجات الكولمان وامليها حِتت تلج وحطّي معاها شوية أكياس وماتنسيش شنطة العِدّة.. مش كان الزفت ابنِك ده جا معايَّ علشان اعلّمه أصول الشغل.. ربّنا يقِل منه النَفَع.

- معلهش.. بكره يسترجل ويعرف مصلحته.. إدعي له انت بس.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent