خبر
أخبار ملهلبة

"أرواح بلا قبور" | أمواتٌ للبيع (3)


جمجمة وهيكل عظمي لإحدى الجثث داخل قبر

"أرواح بلا قبور" | أمواتٌ للبيْع (3)

 

 

ومضت سنةٌ لم يعد فيها "حمزة" إلى كنف أمّه وأبيه مرّة أخرى فاعتلّت صحّة الأم وصارت تهذي وتهلوس وتتراءى لها صورة ابنها أمامها في اليقظة والمنام فتناجيه وتكلّمه وتطلب منه العوْدة إلى حضنها، أمّا الأب فقد صارع المرض واستطاع الشفاء منه بعد أن ترك الشلل عليه بعض بصماته فأصبح "السيّد" يعرج في مشيته ويتكلّم بلسانٍ ثقيل وأُسدِل جفنه العلوي على بؤبؤ عيْنه اليسرى واعوجّت زاوية فمه اليسرى وارتخت عضلات النصف الأيسر من وجهه ولكنّه استمرّ في نشاطه المنافي لأبسط قواعد الإنسانيّة فظلّ يمارس تجارته المحرّمة دون أدني إحساس بالجرم والإثم.

وفي مساء أحد الأيّام حضر لمنزل "السيّد" ضيْفٌ قديم اسمه "إبراهيم" كان قد تعامل معه أيّام أن كان الأخير عاملاً بقسم التشريح بكليّة طب "عين شمس" وكان يشتري من "السيّد" هياكل عظميّة يتم نهبها من القبور المنبوشة ثمّ يعيد تنظيفها وطلاءها بالورنيش الشفّاف ليقوم ببيْعها للطلبة الدارسين، واستقبله "السيّد" بترحاب وجلسا يحتسيان زجاجتيْن من المياه الغازيّة ويتبادلان القوْل :

- يا ألف مرحب يا "هيمة".

- مرحبا بك يا "ابو السيد".. والله زمان يا "عرب".

- إيه يا عم.. يعني غبت وقلت عدّوا لي.. ما عدتش بتاخد هياكل زي زمان.. أنا افتكرتك بتتعامل مع حد تاني.

- وانا اقدر استغنى عنّك يا "سيّد".. الأمر وما فيه إنّي اتنقلت من زمان لقسم العظام ف مستشفي "عين شمس" وسبت الكليّة.

- ورجعت الكليّة تاني وعايز هياكل.. صح؟

- لأ.. أنا زي ما انا.. بس قاصدك ف خدمة تانية.

- أأمرني.

- تسلم يا ابو الواجب.. بقى يا سيدي فيه واحد قريبي غلبان محتاج يعمل عمليّة عظام ف القسم عندنا بس محتاج يشتري شرايح ومسامير وهوّ ما معاهوش فلوس.. ففكّرت إنّي آخد الشرايح والمسامير دي من واحد ميّت كان مركّبهم قبل ما يموت.. وبالصدفة كده كان جا لنا من سِت اشهر عيّل ف حادثة وركّبنا له شرايح ومسامير بالهبل ييجوا بخمسين ألف جنيه اتصرفوا له من التبرعات اللي جايّة المستشفى.. بس الواد ده مات بعد العمليّة بكام يوم وقعد ف تلّاجة المشرحة ييجي شهر وما حدّش جا استلمه فصعب عليّ وخلّيت حانوتي المشرحة يدفنه ف مدافن العيلة بتاعتي جنبك ف "السيّدة نفيسة".. بس خفت افتح المدفن هناك من نفسي أو اقول للتربي يقوم التربي يبلّغ عني ولّا حاجة أصلي ما اعرفهوش.. قلت يمكن ليك سكّة هناك وتقدر تتفق معاه علشان نجيب الشرايح والمسامير للواد الغلبان قريبي يستفيد بيهم بدل رميتهم كده.

- يا "هيمة" انت ح تشتغلني ولّا إيه؟.. ح تقول لي قريبي غلبان والواد بتاع الحادثة صعب عليّ وتقعد تزاولني.. خلّيك دوغري.. أنا ح اجيب لك الشرايح والمسامير دي وح اخد خمس آلاف جنيه وانا اللي ح اراضي التربي هناك ما لكش دعوة انت.. ماشي.

- ماشي يا عم.

وفي الليْل كان "السيّد" داخل المقبرة و"إبراهيم" ينتظره خارجها واقترب "السيّد" من كفن الجثّة المهترئ فأزاحه جانباً فسمع صوْتاً يأتي من بعيد لطفلٍ يضحك فارتعب وتوقّف ليصيخ السمع فلم يسمع شيْئاً فتجاهل ما سمع في البداية وراح يبحث عن الشرائح والمسامير المعدنيّة المثبّتة في العظام بدايةً من القدمين وكان كلّما وجد قطعةً معدنيّة انهال على ما حوْلها من عظام بالأزميل والمطرقة ليفتّت العظم ويستخلص القطعة التي يريدها سليمةً وسط صوْت قعقعة وقضقضة العظام، وكان يتوقّف أحياناً ويتسمّع ما حوْله بعد أن كان يُهَيَّأ له أنّه يسمع أصوات طفلٍ يبكي أحياناً وينادي على أمّه وأبيه أحياناً أخرى أو يسمع أصوات دراجةٍ ناريّة ومكابح سيّارةٍ مخيفة وأناسٍ يصرخون ويصيحون، ورغم فزعه لأوّل مرّةٍ منذ أن امتهن هذه المهنة إلّا أنه واصل عمله بهمّةٍ ليتخلّص سريعاً من ذلك الخوْف الرهيب الذي انتابه، وعندما وصل إلى عظام الرسغ الأيسر لاحظ وجود قطعةً معدنيّة غريبة ليست كباقي القطع وعندما أمعن فيها النظر وقع بجانب الجثّة صريعاً حيث كانت سواراً مكتوبٌ عليه : "حمزة الجِن". 



(تمّت)

google-playkhamsatmostaqltradent