خبر
أخبار ملهلبة

1984 | "جورج أورويل" | (5)

 

من أقوال جورج أورويل مؤلف رواية 1984 عن رغبة أي شخص مفكر في تغيير المجتمع

1984 (5)



كانت رائحة بُن مُحمّص تفوح في أنحاء الشارع منبعثة من مكان ما في أسفل الممر- بُن حقيقي وليس بُن النصر-، توقف ونستون رغماً عنه للحظات ربما عادت به ذاكرته خلالها إلى دنيا طفولته شبه المنسية، وبعدئذ سُمعت طقة باب يغلق لتختفي الرائحة على أثر ذلك فجأة، وكأنما كانت صوتاً وحُجِب.

كان قد جال عدة كيلومترات فوق الأرصفة حينما عادت دواليه تنقز عليه، وكانت هذه هي المرة الثانية خلال ثلاثة أسابيع التي يتخلّف فيها عن حضور الأمسيات في المركز الاجتماعي، وفي هذا تهوّر لأن عدد مرات الحضور كان موضع مراجعة دقيقة. ووفقاً لأحد مبادئ الحزب، ما كان لعضو بالحزب أن يكون لديه وقت فراغ أو أن ينفرد بنفسه إطلاقاً إلا عند نومه، بل كان من المفترض أن يشارك في أي لون من ألوان الترفيه الجماعي طالما أنه لا يعمل أو يتناول طعاما أو ينام. وكان إقدام العضو على عمل يوحي بميل للعزلة، حتى لو كان ذلك نزهة على الأقدام يقوم بها منفرداً، هو عمل فيه مخاطرة واضحة. وكان يُعبّر عن ذلك في اللغة الجديدة بكلمة (حياة خاصة) وهي تعني الفردية والتمركز حول الذات. ولكنه عندما انصرف من الوزارة في ذلك المساء أغواه نسيم نيسان العليل بمتابعة السير تحت السماء التي كانت أشد زرقة وأكثر دفئاً من أي وقت مضى في هذه السنة. وفجاة بدت له تلك الأمسيات الطويلة الصاخبة التي تقام في المركز العام وما يصحب ذلك من ألعاب مجهدة ومحاضرات مملة، وصخب الرفاق وهم يتبادلون أنخاب الشراب، بدا له كل ذلك أمراً لا يحتمل. وبدافع لا إرأدي وجد نفسه يغادر موقف الحافلات ويهيم في متاهات لندن لا يلوي على شىء وسط شوارع لا يعرفها، فتارة يسير جنوباً وأخرى شرقاً وثالثة شمالاً غير آبه أين يسير وبأي أتجاه.

وكانت الكلمات التي كتبها في مذكراته «إن كان هنالك من أمل فإنه يكمن في العامّة» لا تني تتردد في ذهنه أثناء سيره وقد رأى فيها حقيقة خافية وعبثاً. وكان آنذاك قد وصل إلى مكان ما وسط الأحياء القذرة الداكنة اللون والواقعة شمال شرق ما كان يُعرف ذات يوم بمحطة (القديس بانيراس)، كان يسير في شارع مرصوفٍ بالأحجار، على جانبيه تصطف بيوت صغيرة من طابقين محطمة الأبواب تطل مباشرة على رصيف الشارع كأنها جحور جرذان. وكنت ترى بركاً من الماء القذر هنا وهناك بين الأحجار. وفي مداخل الأبواب المعتمة، وفي الأزقة الضيقة المتفرعة، كانت أعداد هائلة من الناس تتكوم، فتيات في ميعة الصبا وقد طلين شفاههن بطريقة فجة، وشباب يلاحقون الفتيات، ونساء مترهلات يسرن متهاديات يمشين على مهل كنماذج لما ستكون عليه الفتيات الشابات بعد عشرة أعوام، ونساء عجزة يسرن على أقدام مفلطحة، وأطفال في ثياب مهلهلة وأقدام حافية يلعبون في برك الماء رغم سماعهم صيحات غضبى من أمهاتهم، وربما كان ربع عدد نوافذ الشارع محطمة ومرقعة... ولم يعر معظم الناس اهتماماً بونستون عدا قلة منهم رمقته بشيء من الاستغراب الحذر. وكانت تقف على مدخل أحد الأبواب امرأتان ضخمتان بسواعد حمراوات آجرية طُويت فوق المئزر، تتجاذبان أطراف حديث التقط ونستون مقاطع منه عندما اقترب منهما:

- نعم لقد قلت لها إن كل هذا حسن. ولكنك لو كنت في مكاني لفعلت الشيء نفسه الذي فعلته، وقلت أيضاً إن من السهل أن تنتقدي الآخرين طالما ليس عندك من المشاكل ما عندي.

وقالت الأخرى: آه! ذلك هو الأمر تماماً، إنه صحيح تماماً.

وما إن مرّ بهما ونستون حتى لاذتا بالصمت فجأة وهما تتفحصانه بنظرات عدائية صامتة. في الحقيقة لم يكن ذلك عداء بالمعنى المعروف للكلمة بل مجرد حذر وتخوف وقتي كالذي يحدث عند مرور حيوان غير مألوف أمام المرء، إذ لم تكن رؤية اللباس الأزرق أمراً مألوفاً في مثل هذا الشارع. ومن المؤكد أنه لم يكن من الحكمة في شيء أن تتواجد في مثل تلك الأماكن ما لم تكن مكلّفاً بمهمة محددة هناك. وإذا حدث وصادفتك دورية فقد يستوقفونك ويسألونك: «هل تسمح لنا برؤية هويتك أيها الرفيق؟ ماذا تفعل هنا؟ متى تركت عملك؟ أهذا هو طريقك المعتاد في العودة لمنزلك؟ وهلم جرا... » وليس ذلك بسبب قواعد تحظر العودة للمنزل من غير الطريق المعتاد، وإنما لأن مثل هذا العمل يلفت انتباه شرطة الفكر.

فجأة امتلأ الشارع عويلاً وصراخاً، وانبعثت صيحات الإنذار من كل حدب وصوب وأخذ الناس يتقاطرون إلى مداخل الأبواب كالأرانب. وهرعت امرأة صغيرة السن من مدخل باب قريب جداً من ونستون وأمسكت بطفل نحيل كان يلعب في بركة من الماء ثم لفته بمئزرها وقفزت به إلى الداخل. حصل كل ذلك في لمح البصر. وفي اللحظة نفسها اندفع رجل يرتدي حُلة سوداء من زقاق جانبي وقفز نحو ونستون وهو يشير بفزع إلى السماء ويصيح في وجهه:

«بارجة...! احذر أيها المسؤول! إنها تدوي فوق رأسك! انبطح أرضا بسرعة!»

وكان العامة لسبب ما يستعملون كلمة «بارجة» للاشارة إلى القذائف الصاروخية. وغالبا ما كانوا على صواب عندما يطلقون تحذيراً من هذا القبيل. وبالرغم من أنه يفترض أن القذيفة الصاروخية تفوق في سرعتها سرعة الصوت، فقد بدا أنهم كانوا يتمتعون بغريزة ما تنبئهم بها قبل سقوطها بثوان معدودة. انبطح ونستون أرضاً وشبك ساعديه حول رأسه، ثم سمع أزيزاً مدوياً بدا له كما لو أن الأرض قد ارتجّت بقوّة وتساقط وابل من أجسام خفيفة على ظهره، ثم تبين له عندما وقف على قدميه أنها كانت شظايا من زجاج تطاير من النوافذ القريبة تحيط به من كل جانب.

وبعدئذ تابع سيره، وكانت القنبلة قد دمرت مجموعة من البيوت بامتداد مئتي متر في الشارع وتصاعد عمود أسود من الدخان في السماء مع غيمة من الغبار الكثيف غطت الأنقاض الناجمة عن الدمار. تجمع جمهور من الناس أمامه على الرصيف حيث كانت تكوين من الجبس وفي وسطه يستطيع المرء أن يتبين خيطاً أحمر لامعاً. وعندما اقترب ونستون رأى يداً بشرية مبتورة من المعصم وقد ابيضت تماماً، عدا العقد الدامية التي فيها مما جعلها تشبه الجبس.

لكز هذا الشيء بقدمه إلى البالوعة وأخذ شارعاً جانبياً ليتحاشى الزحام، وفي غصون ثلاث أو أربع دقائق كان قد أضحى خارج المنطقة المنكوبة حيث كانت الشوارع على حياتها الحقيرة الصاخبة كأن شيئا لم يحدث، وكانت الساعة قد بلغت الثامنة مساء تقريباً وقد غصّت الحانات بروّادها من عامة الشعب. ومن أبوابها المتجهمة، دائمة الاهتزاز بين فتح وغلق، انبعثت رائحة البول ونشارة الخشب والجعة الحامضة. في زاوية ناشئة عن نتوء واجهة أحد المنازل وقف ثلاثة رجال متقاربين جداً وقد أمسك أوسطهم بجريدة مفتوحة فيما كان الآخرآن يتطاولان لقراءتها من فوق كتفيه، وحتى قبل أن يصبح على مقربة تسمح له باستقراء تعابير وجوههم رأى استغراقهم الشديد الذي شمل كل ذرة من أجسامهم، وكان واضحاً أنهم يقرأون نبأً على جانب من الخطورة. وعندما أصبح على بعد خطوات منهم تفرقوا فجأة ودخل اثنان منهم في تلاسن عنيف حتى بدا أنهم على وشك البدء في توجيه اللكمات.

- ألا يمكنك أن تصغي لما اقول أيها اللعين؟ لقد أخبرتك أنه منذ أربعة عشر شهراً لم يربح أي عدد ينتهي بالرقم 7.

- بلى... لقد حدث ذلك مرة.

- كلا لم يحدث. فمنذ سنين وأنا أحتفظ في منزلي بكل المجموعات وأدونها بانتظام على قصاصة ورق وليس فيها أي عدد ينتهي بالرقم 7.

- بلى لقد ربح رقم 7.. دعني أتذكر الرقم الملعون.. إنه أربعة صفر سبعة، وكان ذلك في شهر فبراير لا بل الأسبوع الثاني من فبراير.

- فبراير... يا لك من أحمق... الأرقام جميعها مدوّنة لديّ وأنا أقول لك إنه لا يوجد ذلك الرقم.

صاح بهما الرجل الثالث قائلاً: «كفى مهاترة...»

كانوا يتحدثون عن اليانصيب، وبعدما ابتعد عنهم مسافة ثلاثين متراً نظر خلفه فوجدهم ما زالوا يتشاحنون ووجوهم منفعلة ومتقدة. وكان سحب اليانصيب الأسبوعي على الجوائز النقدية الهائلة، هو الحدث العام الوحيد الذي يعيره العامة اهتماماً كبيرًا جداً، ومن المرجح أن هناك بضعة ملايين من العامة الذين يعتبرون اليانصيب هو السبب الرئيسي إن لم يكن الوحيد وراء تمسكهم بالحياة، إذ كان لهم بمثابة المخدر ومبعث بهجتهم وحماقتهم ومحرك تفكيرهم. وحيثما كان اليانصيب هو الموضوع، كنت تجد الناس الذين بالكاد يقرأون ولكتبون، يُظهرون قدرة على إجراء الحسابات المعقدة والاحتمالات المدهشة التي تعتمد على الذاكرة. كان هناك عدد كبير من الرجال يعتمدون في كسب قوتهم على بيع الأوراق والتنبؤات وتمائم الحظ. ولم يكن لونستون علاقة بإدارة اليانصيب، فقد أنيط بوزارة الوفرة دور الإشراف على إدارة هذه العملية، ولكنه كان يدرك (وفي الواقع كان كل شخص في الحزب يدرك ذلك) أن الجوائز كانت وهمية للغاية بحيث يجري دفع الجوائز ذات المبالغ الصغيرة فحسب، أما تلك ذات المبالغ الكبيرة فكان رابحوها أشخاصاً لا وجود لهم. وفي غياب أي اتصال حقيقي بين طرفي أوقيانيا لم يكن من الصعب تمرير مثل ذلك التلاعب.

«لكن إن كان هنالك من أمل فإنه يكمن في العامة، ويجب عليك الإيمان بذلك». عندما تصوغ ذلك في كلمات فإنه يبدو معقولاً، وعندما ترى الرجال يمرون على الرصيف فإنه يصبح قضية تؤمن بها. ما إن استدار إلى شارع متفرّع حتى انتابه شعور بأنه جاء إلى هذا المكان من قبل وأن هناك طريقاً رئيسياً غير بعيد. من مكان ما تعالت أصوات بالصياح، ثم انعطف الطريق انعطافة شديدة وانتهى بدرج يفضي إلى زقاق حيث كان الباعة يعرضون خضروات ذابلة. في تلك اللحظة تذكر ونستون المكان. لقد كان الزقاق يؤدي إلى الشارع الرئيسي، وعند المنعطف الثاني، وبما لا يبعد خمس دقائق، كان يوجد حانوت بيع الأشياء القديمة الذي سبق ان اشترى منه مفكرته. ومن قرطاسية صغيرة وقريبة كان قد اشترى ماسكة الريشة والحبر.

توقف لحظة عند أعلى الدرج، فقد كان في الجانب المواجه للزقاق حانة قذرة اكتست نوافذها بالغبار كأنما غطاها الصقيع. اندفع من الباب دائم الاهتزاز رجل حناه الكبر دون أن يفقد نشاطه. وكان ذا شارب أبيض أشعث مدبباً إلى الأمام كشارب برغوث البحر. عندما وقف ونستون يراقبه، خطر له أن ذلك الرجل الذي بلغ من العمر عتياً كان في أوسط عمره عندما اندلعت الثورة، !ما كان وأمثاله من الرجال هم آخر الحلقات التي تربطنا بعالم الرأسمالية الذي تهاوى. وفي داخل الحزب نفسه لم يكن قد بقي على قيد الحياة الكثير من الذين كانت أفكارهم قد تشكلت قبل اندلاع الثورة، كما كان الجيل الاكبر من ذلك قد أبيد معظمه إبان موجات التطهير الكبرى التي جرت في الخمسينات والستينات، أما من نجا من هؤلاء فقد أدّى بهم ما لاقوه من إرهاب إلى حالة من الاستسلام الفكري الكامل. ولو كان هناك أحياء يمكنهم نقل صورة صادقة عن الأوضاع في الربع الأول من هذا القرن فلا بد أن يكونوا من العامة. وعلى نحو مفاجئ عادت إلى ذهنه تلك القطعة التي نسخها في مذكراته من كتاب التاريخ وتملكته رغبه جنونية في أن يدلف إلى الحانة ويلقي إلى الشيخ بما يحيّره من تساؤلات: «أخبرني عن حياتك عندما كنت صغيراً. ماذا كانت عليه الحال في تلك الأيام؟ هل كانت الأمور أحسن مما هي عليه الآن أم أسوأ؟».

هبط السلم على عجل خشية أن يتطرق الخوف إلى قلبه مع مرور الوقت فيقعده عن ذلك، واجتاز الشارع الضيق، كان ذلك ضرباً من الجنون ولا ريب. في العادة لا قوانين محددة تحظر الحديث مع العامة أو ارتياد حاناتهم، لكن ذلك أمر غير عادي على الإطلاق ولا يمكن بحال أن يمر دون أن يلحظه أحد، فخطر له أن يتظاهر بأن نوبة إغماء قد ألمت به إذا ما ظهرت له إحدى الدوريات وإن كان ذلك لن ينطلي عليها على الأرجح. دفع الباب أمامه حيث فاجأته رائحة الجعة الحامضة البشعة، وما إن دخل حتى خفتت حدة الضجيج بشكل ملحوظ وأحس بأن الجميع يرمقون لباسه الأزرق، كما توقفت مباراة رمي السهم التي كانت تدور في الطرف الآخر من الحجرة للحظات. كان العجوز الذي تعقبه يقف عند البار منهمكاً في جدال مع الساقي صاحب الأنف المعقوف، الذي كان ممتلى الجسم طويل القامة ذا ساعدين قويين وفي سن الشباب، بينما تحلق حولهما فريق آخر يراقب المشهد وكؤوسهم بأيديهم.

قال الرجل العجوز وقد شد كتفيه كمن يتأهب للدخول في شجار:

«ألا أبدو في نظرك مواطناً كاملاً؟ ألا يوجد كأس من سعة (الباينت) بين كؤوسك الحقيرة؟»

أجاب النادل وقد اتكأ بأطراف أصابعه على البار: «بحق الجحيم ما هو ذاك الباينت؟»

- تبا له! يدّعي أنه ساقٍ ولا يعرف ما هو الباينت؟ هو نصف الربع، وهناك أربعة أرباع فى الغالون، فهل علي أن أعلّمك الألف باء مرة ثانية!

أجاب الساقي باختصار: «لم أسمع بذلك، لأننا لا نقدم إلا باللتر ونصف اللتر، وها هي الاكواب على الرف أمامك».

قال الرجل العجوز مصمماً: «ولكني أريد باينت، ألا يمكن أن تملأ لي باينت؟ لم تكن لدينا هذه الاكواب القذرة عندما كنت شاباً».

فأجابه الساقي وهو ينظر بطرفه إلى باقي الزبائن: «عندما كنت في شبابك كنا نحن نعيش فوق قمم الأشجار».

وانخرط الجميع في ضحك صاخب، في حين بدا أن القلق الذي تسبب به دخول ونستون إلى الحانة قد تلاشى. احمرّ خجلاً وجه العجوز الأبيض المليء بالبثور، واستدار مبتعداً وهو يتمتم. لكن ونستون أمسك ذراعه بلطف قائلا: (هل تسمح لي أن أقدم لك شرابا؟ » فرد العجوز قائلاً وقد شد كتفيه ثانية: »إنك سيد مهذب» وبدا أنه لم يلحظ لباس ونستون الأزرق وأضاف بعدائية موجهة نحو الساقي: »باينت... باينت من الجعة».

وصبّ لهما الساقي نصفي لتر من جعة داكنة اللون في كأسين كان قد غسلهما في دلو تحت البار. كانت الجعة هي الشراب الوحيد الذي يقدم في حانات العامة، إذ كان من المفروض ألا يشرب العامة الخمر، لكن الحصول عليه كان متيسراً بسهولة. وحمي وطيس لعبة رمي السهم مرة أخرى وبدأ مجموعة من الرجال يتحدثون عن أوراق اليانصيب ونسوا أمر ونستون إلى حين. كانت ثمة مائدة خشبية تحت النافذة حيث يمكن تبادل الحديث دون خوف أن يسترق السمع أحد، إذ كان ذلك فيما لو حصل من الأمور البالغة الخطورة، لكن على أية حال كان المكان خلواً من شاشات الرصد وهو ما حرص ونستون على التحقق منه فور دخوله المكان.

قال الرجل متذمراً بعد أن استقر جالساً وراء كأسه: «كان في استطاعته أن يعطيني باينت، فنصف اللتر غير كاف وغير شاف، ولتر كامل كثير جدا ويضر بغدة المثانة، ناهيك عن السعر».

فقال ونستون متردداً: »لا بد أنك شهدت تغييرات كبيرة منذ كنت شاباً».

قلّب الرجل العجولى عينيه الضعيفتين في أرجاء القاعة من لوحة لعبة السهام إلى البار ومنه إلى باب مرحاض الرجال وكأنه يبحث عن تلك التغييرات داخل القاعة.

وأخيراً أجاب: «كانت الجعة أحسن وأرخص! فعندما كنت شابا كانت الجعة غير حادة وكنا لا نسميها جعة ويباع الباينت منها بأربعة بنسات. وبالطبع كان ذلك قبل الحرب.» فسأله ونستون: «أي حرب تقصد؟» فأجاب الرجل بغموض: «كلها» ورفع كأسه وقد شد كتفيه ثانية وقال: «نخبك، في صحتك».

وفي رقبته النحيلة ظلت تفاحة آدم تتحرك نزولاً وصعوداً في حركة سريعة حتى انتهى من شرب كامل الجعة. توجه ونستون إلى البار وأحضر كاسين آخرين من سعة نصف اللتر. وبدا أن الرجل العجوز قد تناسى استهجانه لشرب لتر كامل.

قال ونستون: «نك تكبرني سناً بكثير ولا بد أنك كنت رجلاً ناضجاً قبل أن أولد أنا ويمكنك أن تتذكر كيف كانت الحياة قبل الثورة. فالذين هم في مثل سني لا يعلمون شعيئاً عن تلك الأيام وليس أمامنا من سبيل لذلك سوى الكتب، ومن يدري ربما يكون ما سُجل في الكتب غير صحيح ولذا أودّ معرفة رأيك في ذلك. إن كتب التاريخ تقول إن الحياة قبل الثورة كانت تختلف اختلافاً جذرياً عما هي عليه الآن، فقد كان وصل العسف والجور والفقر إلى حد من السوء لا يمكن تخيله، وكان غالبية العمال في لندن لا يجدون ما يسد رمقهم منذ مولدهم وحتى مماتهم بينما نصفهم الآخر لا يملك حتى حذاء ينتعله. كما كانوا يعملون اثنتي عشرة ساعة في اليوم ويتركون المدارس في سن التاسعة وينام العشرة منهم في غرفة. وفي الوقت نفسه كانت توجد فئة قليلة من الناس، لا يتجاوز عددها بضعة آلاف، تتمتع بالثراء والسلطة ويسمون بالرأسماليين. كانوا يمتلكون كل شيء ويسكنون قصوراً ذات أبهة يقوم على كل منها ثلاثون خادماً ويستقلون سيارات أو عربات تجرّها الخيول ويشربون الشمبانيا ويرتدون القبعات العالية...»

تهلّل وجه الرجل العجوز فجأة وقال: «قبعات عالية! جميل منك أن ذكرتني بذلك، لقد خطرت تلك القبعات ببالي بالأمس فقط ولست أدري لماذا. لم أر أية قبعة منذ سنين، فآخر مرة ارتديت واحدة كان في جنازة زوجة أخي وكان ذلك في... لا يمكنني أن أتذكر التاريخ لكن لا بد أن ذلك كان منذ خمسين عاماً، وبالطبع كانت القبعة مستأجرة لتلك المناسبة، لعلك تفهم ما أقصد.»

قال ونستون مخفياً امتعاضه: «إنني لا أهتم كثيراً بموضوع القبعات العالية، فما يهمني هو أن هؤلاء الرأسماليين وقلة من المحامين ورجال الدين ومن اعتاشوا عليهم كانوا سادة الأرض، وأن كل ما عليها وجد لأجلهم، وكنتم أيها العمال عبيداً لهم ومن حقهم أن يفعلوا بكم ما يشاؤون، فباستطاعتهم أن يشحنوكم على السفن إلى كندا كما تشحن المواشي، وأن يناموا مع بناتكم إذا عنّ لهم ذلك، وأن يأمروا بجلدكم بما كانوا يطلقون عليه «القطة ذات التسعة أذيال». وكان عليكم أن ترفعوا لهم القبعات إذا ما مررتم بهم كما كان كل رأسمالي يجول محاطاً بعصابة من الأذناب الذين...»

وتهلّل وجه العجوز مرة أخرى وقال: «الأذناب! لم أسمع بهذه الكلمة منذ زمن طويل. الأذناب! إنك تعيدني إلى الوراء سنين طويلة. إنني أتذكر- أيام الحمير- عندما كان من عادتي أن اذهب إلى «حدائق هايد بارك» عصر أيام الآحاد لأستمع للخطباء، فإلى هناك كان الناس على اختلاف مشاربهم يفدون من جيش الخلاص والروم الكاثوليك إلى اليهود والهنود، وكان ثمة خطيب لا تسعفني الذاكرة باسمه الآن، ولكنه كان خطيباً مفوهاً حقاً، يتحدث عن أذناب البرجوازيين وخدم الطبقة الحاكمة وتحدث عن الطفيليين، الطفيليين ذاك مسمى آخر لهم. وكان يسميهم أيضاً الفعلة مشيراً إلى حزب العمال، لعلك تفهم ما أقول.

وشعر ونستون أن العجوز كان يغني على ليلاه. فقال: «ما أريد معرفته منك هو: هل تشعر أنك تتمتع الآن بحرية أوسع مما كنت تتمتع بها في تلك الأيام؟ هل تُعامل الآن كإنسان؟ في الأيام الخوالي هل كان الأغنياء...»

أضاف الرجل العجوز متذكراً: «مجلس اللوردات»، فقال ونستون: «مجلس اللوردات إن شئت ذلك، ولكن ما أسألك عنه هو هل كان هؤلاء الناس يعاملونك بازدراء لمجرد أنهم أغنياء وأنك فقير؟ وهل صحيح أنه كان يتعين عليك مخاطبتهم بلفظة «سيدي» وخلع قبعتك كلما مررت بهم؟»

وبدا على الرجل العجوز انه قد راح في تفكير عميق، وبعدما شرب ما يقرب من ربع جعته أجاب قائلاً: «أجل، لقد كانوا يحبون منك أن تلمس قبعتك لهم ففي ذلك إبداء للاحترام، ولم أكن شخصياً أوافق على شيء من ذلك، ولكني كنت أفعله في كثير من الأحيان مضطراً».

وردّ ونستون قائلاً «وهل كان أمراً معتاداً - إنني أنقل لك ما ورد في كتب التاريخ فحسب - هل كان أمراً معتاداً لدى هؤلاء الناس وخدمهم أن يرموا بك من الرصيف إلى البالوعات؟»

قال الرجل العجوز: «حدث ذات مرة أن رمى بي أحدهم، إنني أذكر ذلك وكأنه بالأمس. لقد كان هناك سباق ليلي للقوارب، وقد اعتادوا أن يكون سباقهم فظيعاً وأشبه بالشجار، واصطدمت مصادفة بشاب في شارع شفتسبري - لقد كان سيداً ويرتدي قميصاً ومعطفاً أسود ويعتمر قبعة عالية. كان يسير على الرصيف في خط متعرج فاصطدمت به دون تعمد. فقال: ألا تنظر أمامك؟ فأجبت: أتظن أن هذا الرصيف الملعون ملكك وحدك. فقال: سأفصل رأسك الأحمق عن جسدك إذا تماديت في وقاحتك. فقلت وقد أمسك بتلابيبي ودفعني دفعة قوية كادت ترميني أمام حافلة: لقد كنت شاباً في ذلك الوقت وكنت سأسدد له ضربة مماثلة، ولكن...»

واستولى على ونستون شعور باليأس، لقد كانت ذاكرة الرجل العجوز خالية إلا من تواف التفاصيل، ولن يحصل منه على معلومات ذات قيمة. إذن فتاريخ الحزب قد يكون صحيحاً، ومع قليل من التعديل، قد يكون كل ما فيه صحيح. وأخيراً قرر القيام بمحاولة أخيرة.

فقال للشيخ: «ربما لم أوضح لك قصدي تماماً. ما أود قوله هو الآتي: إنك تعيش على هذه الأرض منذ زمن طويل، وقد عشت شطراً من حياتك قبل الثورة: ففي عام 1925 مثلاً كنت قد بلغت رشدك، فهل برأيك، من خلال ما تتذكره، كانت الحياة سنة 1925 أحسن مما هي عليه الآن أم أسوأ؟ وإذا كان لك أن تختار فهل تفضل العيش في هذه الحياة أم في تلك؟

نظر الرجل العجوز إلى لوحة لعبة السهام نظرة تأمل، وأكمل متكلمآ بهيئة فيلسوف ونبرة تسامح كما لو ان الجعة قد لينت عريكته. فقال: «إنني أعلم ما تأمل مني أن أقوله، إنك تأمل أن أقول أنني أتمنى العودة إلى سن الشباب. كل الناس يتمنون أن يعودوا إلى ريعان الشباب حيث يتمتعون بالصحة والعافية. وعندما تبلغ ما بلغت من سني فلن تكون على مايرام، فأنا الآن أعاني من ألم خبيث في قدمي، ومثانتي في اضطراب شديد حتى أنها تضطرني إلى ترك الفراش ست أو سبع مرات في الليلة الواحدة. لكن من ناحية أخرى فإن للتقدم في السن ميزات عظيمة، منها مثلاً أنه لا يكون لديك هموم تنغص عليك، كما لن تشغل النساء بالك، وفي هذا فائدة جمة، فأنا لم أعرف امرأة منذ ثلاثين سنة، إذا كنت تعتبر هذا ميزة حسنة، بل وأكثر من هذا لم أرغب في ذلك».

اتكأ ونستون على النافذة، إذ لم تكن هنالك جدوى من متابعة ذلك الحديث. وكان على وشك شراء المزيد من الجعة عندما نهض الرجل العجوز فجأة متجهاً صوب المرحاض كريه الرائحة حيث كان نصف لتر الجعة الإضافي قد فعل فعله فيه. أما ونستون فقد ظل جالساً في مكانه يحملق في كأسه الفارغة لدقيقة أو دقيقتين، ولم يشعر إلا وقدماه تحملانه خارج الحانة مرة ثانية. كان ونستون على امتداد ما يقارب من عشرين سنة يفكر في هذا السؤال السهل الممتنع محاولاً الإجابة عنه: «هل كانت الحياة قبل الثورة أفضل مما هي عليه الآن؟» لكن سؤاله ظلربلا جواب حتى الآن، طالما أن قلة من الناس الباقين على قيد الحياة من العالم القديم لم يكونوا قادرين على مقارنة عقد بآخر. كانوا يتذكرون آلاف التفاهات، كمشاجرة مع زميل عمل أو البحث عن منفاخ دراجة مفقود أو تعبير اعترى وجه شقيقة قضت منذ زمن بعيد أو دوامات الغبار في صباح يوم عاصف منذ سبعين عاماً، كل هذا بينما كانت الحقائق الرئيسية واقعة خارج مدى رؤيتهم، إذ كانوا كالنملة التي يمكنها رؤية الأشياء الصغيرة بينما تتعامى عن الكبيرة. وحينما يعتري العجز الذاكرة وتكون السجلات المكتوبة زائفة، يصبح ادّعاء الحزب بأنه قام بتحسين أوضاع الحياة الإنسانية واجب القبول لأنه لم توجد، ولا يمكن أن توجد، أي معايير لقياس صحة ذلك من خطئه.

وفي هذه اللحظة انقطع حبل تفكيره فجأة وتوقف عن السير ونظر حوله، فإذا هو في شارع ضيق فيه عدد قليل من الحوانيت الصغيرة المعتمة المنتشرة بين المنازل، وفوق رأسه مباشرة كانت تتدلى ثلاث كرات معدنية بلا لون بدت كما لو كانت مذهبة فيما مضى. وأحس أنه يعرف المكان. فقد كان يقف خارج حانوت الخردوات الذي اشترى منه دفتر مذكراته.

وسرت في أوصاله ارتعاشة خوف، ففي الأصل كان شراؤه ذلك الدفتر عملاً طائشاً، وكان قد أقسم آنذاك ألا يقرب ذلك المكان مرة أخرى. ومع ذلك ففي اللحظة التي أطلق لأفكاره العنان قادته قدماه مرة أخرى إلى ذلك المكان من تلقاء نفسها، وكان ما يرجوه من شراء المفكرة، وهو أن تكون له ردءا من تلك النوازع الانتحارية. وقد استرعى انتباهه في الوقت نفسه ان الحانوت لا يزال مفتوحاً بالرغم من أن الساعة بلغت التاسعة. دلف إلى الحانوت وهو يشعر بأنه سيكون أقل مدعاة للريبة داخل الحانوت من التسكع على الرصيف، وإذا ما سئل عن ذلك، فيمكنه أن يقول بكل وضوح إنه كان يحاول شراء شفرة حلاقة!

كان صاحب الحانوت قد قام لتوه بإشعال قنديل كانت تنبعث منه رائحة قذرة لكنها محتملة. وكان رجلاً في حوالي الستين من عمره يبدو عليه الضعف ومحدودب الظهر وذا أنف طويل جميل وعينين هادئتين شوهتهما نظارة غليظة. كان يغلب على شعره الشيب لكن حاجبيه كانا كثيفين وما يزالان أسودين. وكانت النظارة وحركاته المهذبة النشطة، فضلاً عن السترة المخملية السوداء التي يرتديها، تضفي عليه هيئة رجل فكر، كما لو كان أديباً أو موسيقياً. وكان صوته ناعماً ولهجته أقل خشونة من لهجة غالبية العامة.

ابتدره الرجل فوراً: «لقد عرفتك وأنت تقف على الرصيف. ألست السيد الذي اشترى دفتر السيدة الحسناء ذي الورق الجميل؟ أعتقد أنه لم يعد يُصنع مثله منذ خمسين عاماً». ثم حدج ونستون من فوق نظارته وقال له: «هل من خدمة خاصة أسديها لك؟ أم تراك تريد فقط أن تلقي نظرة؟»

أجاب ونستون بغموض: «كنت ماراً وأردت أن ألقي نظرة وليس في ذهني شيء معيّن أطلبه.»

قال الرجل: «لا بأس. على كل حال لا أعتقد أن عندي ما يرضيك.» قالها وهو يشير بيده الناعمة معتذراً: »لعلك ترى أن الحانوت يكاد يخلو من البضائع ولا أخفيك سراً إن قلت إن تجارة القطع الأثرية القديمة على وشك الانقراض فلم يعد هناك طلب، كما أن المخزون نفد. والأثاث والأواني الخزفية والزجاجية تتكسر تدريجياً، كما أن الأدوات المعدنية قد فقدت إذ لم تقع عيني منذ سنوات على شمعدان نحاسي»

في حقيقة الأمر كان الحانوت غاصاً بالبضائع ولكن لم يكن بينها شيء ذا قيمة تذكر، ومساحة المحل محدودة إذ عُلّق على الجدران عدد لا يحصى من إطارات الصور المغبرة، كما كانت واجهة العرض تحتوي على أطباق مملوءة بالجوز والمزاليج والأزاميل البالية والسكاكين مهترئة النصول والساعات الكالحة التي لا يبدو عليها حتى أنها تعمل، ناهيك عن أشياء أخرى متنوعة مما لا قيمة له. إلا أنه على طاولة صغيرة في إحدى الزوايا وضعت أشياء من العتائق والغرائب مثل علب سعوط ومشابك من العقيق وما شابه ذلك، وهي توحي بأنه قد يكون بينها ما هو مفيد. وبينما كان ونستون يتجه نحو هذه الطاولة لاح أمام عينيه شيء أملس مستدير يلمع لمعاناً هادئاً تحت ضوء القنديل، فالتقطه.

كان قطعة ثقيلة من الزجاج محدبة من جانب ومسطحة من الجانب الآخر تكاد تشكل نصف كرة، وكان لون الزجاج ومادته نقيا نقاء ماء المطر. وفي جوفه كان ثمة جسم غريب ذو لون أحمر قاني يشبه وردة أو عشبة بحر وقد بدا أكبر من حجمه الحقيقي بسبب السطح الزجاجي المحدب.

سعأل ونستون بافتتان: «ما هذا؟»

وأجاب الرجل: «إنها مرجان من المحيط الهندي، كانت العادة أن يحفظوها في زجاج. لعلها صنعت قبل مئة عام وربما أكثر.»

وأجاب ونستون: «يا لها من شيء بديع»

قال الرجل مباهياً:«إنها بديعة الجمال لكن في هذه الأيام» ثم سعل وأضاف: «إذا فكرت فى شرائها الآن فستكلفك أربعة دولارات وأستطيع أن أتذكر عندما كان شيء كهذا يساوي ثمانية دولارات بل ربما أكثر، فهذا أمر لا يمكن حسابه ولكنه على أية حال كان مبلغاً كبيراً من المال.»

ودفع ونستون الدولارات الأربعة في الحال ودسّ هذه التحفة في جيبه. ولم يكن جمالها هو مدعاة انجذابه إليها بقدر ما كان ذلك العبق الذي أحاط بها كونها تنتمي لعصر غير هذا العصر، وإلى ذلك لم يكن زجاجها ذو الملمس الناعم واللون الصافي كماء المطر كأي زجاج آخر رآه، وكانت ذات جاذبية مضاعفة بسبب عدم فائدتها الواضحة وإن كان بوسع المرء أن يعتقد أنها قد استعملت في يوم من الأيام كثقل يوضع على الورق. رغم ثقلها الشديد في جيبه فإنها ولحسن حظه لم تسبب بروزًا واضحاً. فقد كان أمراً غريباً بل مدعاة للريبة أن يحوز عضو الحزب أي شيء عتيق أو جميل، فهذا يجعله دائماً موضع شكوك. وتهللت أسارير الرجل العجوز بعدما تسلم الدولارات الأربعة، وهنا أدرك ونستون أنه كان سيقبل بثلاثة أو حتى بدولارين.

وقال: «توجد غرفة أخرى في الطابق العلوي ربما يهمك إلقاء نظرة عليها. ليس فيها الكثير من الأشياء، بل القليل من القطع الصغيرة فقط. وسنكون بحاجة إلى قنديل إذا صعدنا لأعلى.»

وهنا أوقد قنديلاً آخر، وبظهر منحنن وببطء أخذ يصعد السلم المائل البالي عبر ممر ضيق يؤدي إلى غرفة لا تطل على الشارع بل على فناء مرصوف بالأحجار وغابة من المداخن. ولاحظ ونستون أن أثاث الغرفة كان ما يزال مرتباً كما لو كانت مهيأة للسكن وعلى الأرض قطعة من سجادة فيما عُلّق على الجدران صورة أو صورتان. وبالقرب من المدفأة كان ثمة مقعد ذو ذراعين، ومن فوق رف المكتبة انبعث صوت ساعة زجاجية عتيقة الطراز مرقّمة باثني عشر رقما. وتحت النافذة كان ثمة سرير كبير يشغل ربع مساحة الغرفة تقريبا بينما الحاشية ما زالت موضوعة فوقه.

قال الرجل العجوز بما يشبه الاعتذار: «كنا نعيش هنا حتى ماتت زوجتي. إني أبيع الأثاث قطعة بعد قطعة، والآن انظر، هذا سرير جميل من خشب الزان أو على الأقل سيكون كذلك إذا استطعت أن تتخلص مما يعيث فيه من حشرات البق، وإن كنت أستطيع القول إنك ستجد في ذلك شيئاً من المشقة».

كان يمسك بالقنديل عالياً لكي يضيء الغرفة كلها. وفي مثل هذا الضوء الضعيف بدت الغرفة مغرية على نحو غريب، ولمعت في ذهن ونستون فكرة استئجار الغرفة نظير بضعة دولارات أسبوعياً، لكن مَن سيتجرّأ على مثل هذه المخاطرة. كانت فكرة طائشة ومستحيلة ويجب التخلي عنها بمجرد التفكير فيها، إلا أن الغرفة أيقظت فيه نوعاً من الحنين إلى الماضي، وفكر في روعة الجلوس في غرفة كهذه، على كرسي ذي ذراعين وإلى جوار مدفأة يمدّ قدميه على حاجزها والقهوة على الموقد، شاعراً بعزلة تامة وأمان تام، دون أن تراقبه عين أو يطارده صوت، ولا يشق حجاب هذا السكون إلا صوت غليان الماء ودقات الساعة الشجية.

لم يستطع ونستون منع نفسه من أن يتمتم قائلاً: «لا يوجد هنا شاشة رصد!»

قال الرجل العجوز: «آه... لم يسبق أن كان لدي واحدة إنها غالية جداً ولم أشعر أبداً أنني بحاجة إلى واحدة. وهناك طاولة جميلة ذات جوانح في تلك الزاوية لكنك ستحتاج إلى تركيب مفصلات جديدة لها إذا أردت استخدامها.»

وفي الزاوية الأخرى من الحجرة خزانة كتب وجد ونستون نفسه منجذباً نحوها، ولكن لم يكن فيها سوى مهملات إذ كانت عملية ملاحقة الكتب وإتلافها قد طالت، وبنفس الشدة، الأحياء الشعبية مثلما طالت غيرها من أماكن. كان من المستبعد تماماً أن يعثر في كل أرجاء أوقيانيا على نسخة من كتاب طبع قبل سنة 1960.

وكان الرجل العجوز لا يزال ممسكاً بالقنديل ويقف أمام صورة موضوعة في إطار من خشب الورد ومعلقة على الجانب الآخر من المدفأة مقابل السرير.

وقال العجوز برقّة: «والآن، إذا كنت من معحبي اللوحات القديمة...»

مشى ونستون عبر الغرفة ليتفحص الصورة التي كانت عبارة عن رسم محفور في الفولاذ لبناء بيضاوي ذي نوافذ مستطيلة وبرج صغير في المقدمة، وحول البناء سياج من القضبان الحديدية وفي الطرف شيء كالتمثال، حدق ونستون فيه بضع لحظات فبدا وكأنه يعرفه على الرغم من أنه لم يستطع تذكره.

قال الرجل العجوز: «إن الإطار مثبت فى الحائط ولكن يمكنني نزع المسامير من الحائط إذا كنت تريده.»

بعد صمت، قال ونستون: «إنني أعرف ذلك البناء، إنه الآن عبارة عن أنقاض وسط شارع بالقرب من قصر العدل.»

أضاف الرجل: «هذا صحيح، إنه بالقرب من دار القضاء. وقد تعرض للقصف منذ سنوات كثيرة، لقد كان عبارة عن كنيسة في يوم من الأيام وكانت تسمى كنيسة القديس كليمنت دان.» ثم ابتسم ابتسامة اعتذار وكأنه أدرك أنه قال شيئاً سخيفاً وأضاف: «برتقال وليمون، تقول أجراس كنيسة القديس كليمنت!»

فقال ونستون: "ماذا؟ "

«أوه... «برتقال وليمون تقول كنيسة القديس كليمنت» إنها أغنية كنا نرددها ونحن صغار ولا أتذكر بقيتها، ولكني أعرف أنها كانت تنتهي بمقطع (ها هنا تجد شمعة تستنير بها حتى الفراش، وها هنا منجل لحز رقبتك.) لقد كان ذلك نوعاً من الرقص، يرفعون أذرعهم لتمر من تحتها وعندما يصلون إلى مقطع (وهنا منجل لحز رقبتك) يخفضون أذرعهم ليمسكوا بك. لقد كانت مجرد أسماء للكنائس وتتضمن أسماء كنائس لندن الرئيسية».

تساءل ونستون إلى أي قرن يعود بناء الكنائس يا ترى؟ إذ كان يصعب أن تقدر عمر أي بناية قي لندن، فكل بناية كبيرة ولافتة للنظر كانوا يدّعون تلقائياً أنها شيدت في عهد الثورة، وأي بناية أخرى يبدو بوضوح انتماؤها إلى عهد قبل ذلك كاشط تُنسب إلى فترة غامضة تسمى القرون الوسطى، وأما قرون الرأسمالية فكان ينظر إليها على أنها لم تنتج شيئاً ذا قيمة، لذلك ما كان باستطاعة المرء أن يعرف شيئاً عن تاريخ من الطرز المعمارية أكثر مما يعرفه من خلال الكتب. فكل ما يلقي ضوءاً على الماضي مثل التماثيل والنقوش والنصب التذكارية وأسماء الشوارع كان يتم تغييره وتحويره بصورة منهجية.

قال ونستون: «لم أكن أعرف أبداً أنها كانت كنيسة».

ورد الرجل العجوز قائلاً: «في الواقع لا يزال يوجد الكثير منها ولكنها تستعمل لأغراض أخرى...» ثم استدرك: «ها لقد تذكرت بقية الأغنية:

(برتقال وليمون تقول أجراس كنيسة القديس كليمنت، وتقول أجراس كنيسة القديس مارتن أنت مدين لي بثلاثة فارذن)

هذا هو كل ما يمكنني تذكره الآن. والفارذن كان عملة نحاسية صغيرة تشبه السنت.»

وسأل ونستون: «لكن أين كانت كنيسة القديس مارتن؟»

«كنيسة القديس مارتن؟ إنها لا تزال قائمة وتقع في ساحة النصر أمام معرض الصور. إنها عبارة عن بناء بواجهته قبة مثلثة وأعمدة وسلّم.»

كان ونستون يعرف ذلك المكان جيداً. فقد كان متحفاً لعرض معروضات دعائية من كل الأنواع كنماذج للقذائف الصاروخية والقلاع العائمة واللوحات الشمعية، تُصوِّر الفظائع التي ارتكبها الأعداء وما شابه ذلك.

وأضاف الرجل العجوز: «كانوا يسمونها القديس مارتن في قلب الحقول ولو أني لا أرى أية حقول في هذه الأنحاء».

لم يشتر ونستون الصورة، فقد كانت حيازتها أكثر مدعاة للشبهة من حيازة قطعة الزجاج كما أنه يستحيل حملها إلى المنزل إلا إذا انتزعت من إطارها. لكنه تلكأ بضع دقائق أخرى متحدثاً إلى الرجل العجوز الذي تبين له أن اسمه ليس «ويكس»، كما قد يتبادر إلى الذهن من الكتابة التي على واجهة الحانوت، وإنما شارنتون، وكان أرمل، يبلغ من العمر 63 سنة ويسكن هذا الحانوت منذ ثلاثين عاماً، وطوال هذه المدة كان يعتزم تغيير الاسم الموجود على الواجهة لكنه لم يفعل. وقد ظل صدى ذلك المقطع من الأغنية يتردد في رأسه طوال حديثهما معاً. (برتقال وليمون تقول أجراس كنيسة القديس كليمنت، وتقول أجراس كنيسة القديس مارتن أنك مدين لي بثلاثة فارذن) لقد كان مقطعا غريباً لكن ما إن تردده في نفسك حتى يخيل إليك أنك تسمع دقات أجراس حقيقية، أجراس لندن المفقودة والتي ما زالت موجودة في مكان ما أو اتخذت شكلاً آخر ثم أصبحت في طي النسيان. وبدا له أن أصواتها المنبعثة من برج تلو آخر تجلجل في أذنيه. وبقدر ما يستطيع العودة بذاكرته للوراء فإنه لا يذكر أنه سمع دقات أجراس كنيسة حقيقية.

ترك ونستون السيد شارنتون وهبط الدرج بمفرده لئلا يراه العجوز وهو يستطلع الشارع قبل أن يخرج من الباب. وكان قد عقد العزم على القيام بزيارة أخرى للحانوت بعد فترة مناسبة، شهر مثلاً، فربما كان ذلك أقل خطراً من تهرّبه من إحدى أمسيات المركز الاجتماعي. ولكن الحماقة الحقيقية التي ارتكبها كانت عودته مرة أخرى الى مكان اشترى منه دفتر مذكراته دون أن يتحقق مما إذا كان صاحب الحانوت جديراً بالثقة أم لا ومع ذلك...!

أجل رغم ذلك، فكر ثانية أنه سيعود لشراء قطع أخرى جميلة من هذه المهملات، وليشتري لوحة كنيسة القديس كليمنت المحفورة، بعد أن ينتزعها من إطارها، ويحملها إلى المنزل تحت سترة معطفه الأزرق وليستخلص بقية القصيدة من تلافيف ذاكرة الرجل العجوز. ولمع فى ذهنه للحظات مرة ثانية ذلك المشروع الطائش، مشروع استئجار الغرفة الكائنة بالطابق العلوي. وتحت تأثير غمرة الفرح التي اعترته لمدة خمس ثوان نسعي حذره وخرج إلى الشارع دون أن يلقي ولو بنظرة عبر النافذة. وكان قد بدا يتمتم بنغمة مرتجلة: تقول أجراس كنيسة القديس كليمنت برتقال وليمون، وأنت مدين لي بثلاثة فارذن.

فجاة شعر أن دمه تجمّد في عروقه واضطربت أمعاؤه عندما رأى القادم نحوه وما عاد يفصله عنه سوى عشرة أمتار. لقد كانت الفتاة ذات الشعر الأسود التي تعمل في دائرة الإثارة. لم يكن من الصعب عليه أن يتعرف عليها رغم ضعف الإضاءة في الشارع. نظرت إلى وجهه محدقة به ثم أكملت مسرعة كأنها لم تره.

لبضع ثوان شعر ونستون أنه قد فقد القدرة على الحركة، فاستدار يميناً وابتعد متثاقلاً دون أن ينتبه إلى أنه يسير في الاتجاه الخطأ. على أي حال فقد اهتدى إلى حقيقة أمرها، فقد تبدد كل شك لديه في انها كانت تتجسس عليه، إذ ليس من المعقول أن يكون تجوالها في المساء ذاته وفي الشارع الخلفي المعتم ذاته الذي يبعد كيلومترات عن أي حي يقطن فيه اعضاء الحزب، محض مصادفة، لقد كان ذلك أكثر من مجرّد مصادفة. ولم يعد يهم إذا كانت جاسوسة لشرطة الرصد أو مجرد جاسوسة هاوية مدفوعة بفضولها الخاص. المهّم أنها كانت تراقبه وربما رأته وهو يدلف إلى الحانة أيضاً.

كان يسير مجهداً، ومع كل خطوة يخطوها كانت قطعة الزجاج في جيبه ترتطم بشدة في فخذه حتى أنه كاد يخرجها ولطوّح بها بعيداً. وكان الأسوأ هو الألم الذي أصاب معدته ولدقيقتين تمثل الموت أمام عينيه إن لم يصل إلى مرحاض في الحال، كيف سيجده في مثل هذا الحي؟ غير أن الأزمة مرّت مخلفة ألماً شديداً وراءها.

توقف ونستون عن السير، فقد كان الشارع عبارة عن زقاق مسدود. تساءل لبضع ثوان عما يجب عليه أن يفعل، فاستدار إلى الخلف وهم بالعودة وقد خطر بباله أن الفتاة اجتازته منذ ثلاث دقائق فقط وأنه ربما يمكنه، إذا ما أسرع الخطى، اللحاق بها ثم اقتفاء أثرها حتى يصلا إلى مكان منعزل هادى فيحطم رأسها بحجر أو ربما تفي قطعة الزجاج التي في جيبه بهذا الغرض. لكنه تخلى عن الفكرة بعيد لحظات، فقد كان خائر القوى وليس بمقدوره أن يوجه ضربة لأحد، وفوق ذلك كانت الفتاة قوية وفي سن الشباب، وقد تدافع عن نفسها. ثم خطر له أيضا أن يهرع إلى المركز الاجتماعي ويبقى فيه حتى يغلق أبوابه كدليل يثبت مكان تواجده في هذا المساء. لكن ذلك كان أيضاً مستحيلاً. لقد انتابته حالة من الإعياء الشديد وكان كل ما يريده هو أن يعود إلى المنزل بسرعة ويستلقي بهدوء.

كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء حينما عاد إلى شقته وكانت الأنوار تطفأ في الحادية عشرة والنصف في المدخل الرئيسي. دلف إلى المطبخ حيث ازدَرَدَ ملء فنجان شاي من خمرة النصر ثم توجه إلى الطاولة في الزاوية وأخرج دفتر مذكراته من الدرج، لكنه لم يفتحه في الحال إذ كان ينبعث من شاشة الرصد صوت أنثوي نحاسي يزعق بأغنية وطنية، فراح يحدق في غلاف الدفتر ذي اللون المرمري محاولاً دون جدوى أن يخرج ذلك الصوت من رأسه.

«لقد كانوا دائماً يأتونك ليلاً، والأفضل لك أن تقتل نفسك قبل أن يقبضوا عليك ومن المؤكد أن كثيراً سبقوك لذلك، فأكثر حالات الاختفاء كانت عمليات انتحار حقيقية. لكن الأمر يستلزم شجاعة اليأس حتى تقتل نفسك في عالم يتعذر فيه الحصول على سلاح ناري أو على سم سريع المفعول وأكيد الأثر.»

وفكر بشيء من الدهشة في عدم جدوى الألم والخوف وفي ما يلاقيه الإنسان من خذلان من جسمه الذي تخور قواه في اللحظات الحاسمة، فقد كان بامكانه أن يُخرس الفتاة ذات الشعر الأسود لو أنه قد تصرف بالسرعة الكافية، ولكن الخطر الداهم الذي كان محدقاً به سلبه القدرة على التصرف. وأدرك أن مواجهة الإنسان ضد جسده أصعب من مواجهة العدو الخارجي. وحتى في هذه اللحظات ورغم ما شربه من خمر، فإن الألم الذي في جوفه أفقده القدرة على التفكير المنطقي. وأدرك أيضاً أن هذا هو ما يعتري الإنسان في كل المواقف البطولية والمأساوية. ففي ميدان القتال أو في غرفة التعذيب أو على متن سفينة تغرق، تغدو القضايا التي تحارب من أجلها طي النسيان دائماً، ذلك لأن جسدك يظل يتضخم حتى يملأ عليك العالم فلا ترى سواه. وحتى إذا لم يشل الرعب حركتك أو لم يجعلك الألم تصرخ، فإن الحياة تظل صراعًا موصولاً ضد الجوع والبرد والقلق أو ضد حموضة وحرقة المعدة أو ألم الأسنان.

شعر ونستون بضرورة أن يكتب شيئاً ففتح المفكرة، لكن ذاك الصوت الأنثوي كان قد بدأ أغنية جديدة وكان كأنه يرتطم بمخه كشظايا من الزجاج. ثم حاول أن يفكر في أوبراين الذي من أجله، أو إليه، كانت المذكرات، لكنه وبدلاً من التفكير في أوبراين راح يفكر في ما سيحدث له بعدما تقبض عليه شرطة الفكر. لن يهم إذا ما قتلوك في الحال فذلك ما كنت تنتظره. ولكن المهم هو ما يسبق الموت (لا أحد يتحدث في مثل هذه الأمور رغم أن الجميع يعرفها)، هناك خطوات الاعتراف التي عليك أن تمر بها، من الزحف على الأرض والصراخ طلباً للرحمة وطقطقة العظام المتكسرة والأسنان المهشمة وخصلات الشعر التي تُنتزع من رأسك حتى تدميه. لماذا يتعين عليك أن تتجشم كل هذا ما دامت النهاية واحدة؟ ولماذا ليس بالإمكان أن تقتطع من حياتك بضعة أيام أو أسابيع؟ فلم يحدث أن أفلت أحد من الملاحقة أو صَمَدَ على الاعتراف. وحالما تقر بجريمة فكر فإنه من المؤكد أن موتك يصبح مسألة وقت معلوم. لماذا إذن ذلك الرعب من المستقبل الذي لم يكن ليغيرشيئاً؟

ونجح قليلاً في استحضار صورة أوبراين. فقد قال له أوبراين في الحلم «سنلتقي في مكان لا ظلمة فيه ». كان يعرف ما عناه أوبراين أو خيل إليه ذلك. فالمكان الذي لا ظلمة فيه هو المستقبل المتخيَل الذي لن يراه وإن كان يمكن استشرافه والمشاركة فيه. إلا أنه لم يستطع متابعة تسلسل أفكاره أبعد من ذلك بسبب الصوت الصادر عن شاشة الرصد والذي كان يصفر في أذنيه. وما إن وضع ونستون سيجارة بين شفتيه حتى تناثر نصف ما فيها من تبغ كالغبار اللادع على لسانه، وكان من الصعب أن يخرجه من فمه مرة أخرى. وسرعان ما غمر مخيلته وجه الأخ الكبير طارداً صورة أوبراين. وكما فعل منذ أيام خلت، أخرج قطعة عملة معدنية من جيبه ونظر إليها فحدجه الوجه بنظرة فيها هدوء ورزانة من يذود عن الحمى: ولكن أي ابتسامة تلك التي كان يخفيها تحت شاربه الأسود؟ وكدقات أجراس نعي الموتى ترددت أصداء الكلمات في ذهنه:

الحرب هي السلام

الحرية هي العبودية

الجهل هو القوة

كان الوقت ضحى عندما غادر ونستون مكتبه ومضى إلى المرحاض. وإذا بشخص مقبل نحوه من الطرف الأخر للممر الطويل ذي الضوء الساطع. كانت الفتاة ذات الشعر الأسود. وكانت قد انقضت أربعة أيام مذ صادفها خارج حانوت الخردوات. عندما اقتربت منه لفت انتباهه أن ذراعها اليمنى معلّقة في رقبتها إلى رباط لم يستطع أن يميزه عن بعد لأن لونه شبيه بلون لباسها الرسمي الذي كانت ترتديه. ربما كانت قد سحقت يدها وهي تدور حول آلات (كاليدوسكوب) الكبيرة التي تتم فيها الحبكة القصصية. وكان مثل هذا الحادث أمراً شائعاً في دائرة الإثارة.

كانت تفصل بينهما مسافة أربعة أمتار تقريبا عندما تعثرت الفتاة وسقطت على وجهها فصرخت صرخة ألم مدوية، لابد أنها سقطت على ذراعها المصابة. توقف ونستون عن سيره في حين كانت الفتاة قد نهضت على ركبتيها وقد شحل وجهها وبدت شفتاها أكثر احمراراً، وكانت عيناها تحدقان بوجهه وقد ارتسمت فيهما نظرة تطلب منه أن يساعدها، نظرة هي أقرب إلى الخوف منها إلى الألم.

خفق قلب ونستون بعاطفة غريبة، فالتي أمامه هي عدو كان يسعى للفتك به، لكنها أيضاً مخلوقة بشرية تتألم، ولربما يكون ساعِدُها قد كسر مرة أخرى. وبغريزته الإنسانية تقدم نحوها ليأخذ بيدها. فحينما رأها تسقط فوق ذراعها المضمدة شعر كما لو أن الألم قد سرى إلى جسده هو. وسألها: هل أصابك أذى؟

- لا، لا شيء.. إنها ذراعي... سوف تصبح على ما يرام في الحال.

كانت تتكلم وقلبها يخفق بشدة، أما وجهها فقد شحب شحوباً شديدا. ومدت له يدها الثانية، فأعانها على النهوض، وإذ ذاك بدا أنها استعادت بعض لونها وبدت في حال أفضل.

وعادت تكرر بعد قليل: «لم يحدث شيء يستحق الذكر، فكل ما في الأمر أن معصمي ارتطم بالأرض. شكراً لك أيها الرفيق».

وعاودت السير في الاتجاه نفسه الذي كانت تسير فيه من قبل، سارت بخطى نشطة ورشيقة وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق.

لم تستغرق هذه الحادثة سوى نصف دقيقة فقط. لقد كان الحرص على ألا تطفو مشاعر المرء على وجهه بمثابة عادة باتت أشبه بالغريزة، فقد كانا يقفان أمام شاشة الرصد مباشرة عندما وقع الحادث ومع ذلك كان من العسير جداً على ونستون أن يكبت شعور الدهشة الذي ارتسم على وجهه، إذ أثناء الثانيتين أو الثلاث التي أعان خلالها الفتاة على النهوض حدث أنها أودعته شيئاً في يده ولم يكن هناك شك في أنها فعلت ذلك عن قصد. كان هذا الشيء صغيراً ومنبسطاً، وعندما ولج من باب المرحاض نقله من يده إلى جيبه حيث تحسسه بأطراف أصابعه. كانت قصاصة من الورق مطويّة.

عندما وقف أمام المبولة فتح الورقة وقال في نفسه «لا ريب في أنها تحمل رسالة ما بداخلها»، وراودته نفسه للحظة أن يقرأ الرسالة في التو والحال، ولكنه سرعان ما تنبه لما تنطوي عليه هذه الخطوة من حماقة مطبقة، إذ من المؤكد أن شاشات الرصد تعمل ليل نهار في هذا المكان، فقفل راجعاً إلى مكتبه. جلس وألقى بقصاصة الورق بغير اهتمام بين الأوراق الأخرى المرصوصة فوق مكتبه، وأحس بقلبه يخفق خفقات مدوية، وكان من حسن حظه أن المهمة المسندة إليه في تلك اللحظة كانت عملاً روتينياً محضاً، إذ كان يصحح قائمة مطولة من الأرقام وهو الأمر الذي لا يتطلّب انتباهاً شديدًا.

وقال في نفسه أياً كان ما هو مكتوب في الرسالة، فلا بد أنه سيكون ذا مغزى سياسي. فكر في تلك اللحظة باحتمالين. أولهما، وهو الأكثر رجحانا، أن الفتاة تعمل جاسوسة لحساب شرطة الفكر، وهو ما كان يخشاه، لكنه لم يفهم لماذا تلجأ شرطة الفكر لهذه الطريقة لتوصيل رسائلها، لعل لديهم من الأسباب ما يفسر ذلك. فلربما في الرسالة تهديد أو استدعاء أو أمر بالانتحار أو فخ ما ينصب له. أما عن الاحتمال الآخر فقد كان أكثر جنونا، كان يساور ونستون رغم أن ونستون قد حاول دون جدوى أن يكبته، ومفاده أن هذه الرسالة ليس ثمة ما يربطها بشرطة الفكر على الإطلاق إذ إنها مرسلة من إحدى المنظمات السرية. فلعل لجماعة «الأخوة» وجود!، ولعل الفتاة منضوية في عضويتها. لا ريب في أن هذه الفكرة كانت عبثية، ولكنها انبجست في خاطره منذ لحظة شعوره بالورقة في يده. ولم تكد تمر دقيقتان حتى كان التفسير الأول والأرجح قد خطر بباله ثانية. وحتى الآن ورغم أن عقله أوحى إليه أن هذه الرسالة قد تعني موته، فإنه لم يصدق ذلك وظل متشبثاً بأهداب أمل واه، في حين أخذ قلبه يدق بعنف محاولاً كبت أثر ارتعاشة على صوته وهو يهمهم بالأرقام إلى آلة التسجيل.

لفّ رزمة كاملة من أوراق العمل ثم زج بها في الأنبوب الهوائي. ثماني دقائق كانت قد مضت حين أعاد تثبيت نظارته فوق أنفه وتنهد، ثم جذب مجموعة أخرى من أوراق العمل وقد وُضعت قصاصة الورق فوقها، وما إن فضّها حتى رأى الكلمة التالية مكتوبة فوقها بخط كبير:

«أحبك»

تمفكه ذهول شديد لعدة لحظات حتى أنه نسي أن يلقي بأداة الجريمة في قبور الذاكرة. وحينما فعل ذلك، ورغم إداركه للخطر الذي ينطوي عليه إبداء أي اهتمام زائد، فإنه لم يقدر على منع نفسه من قراءتها مرة ثانية، وفي الحال، حتى يطمئن قلبه إلى أن الكلمة موجودة حقاً.

وكان من العسير عليه أن يواصل العمل لما تبفى من وقت في ذلك الصباح. ولم يكن أشق عليه من التركيز على ما بين يديه من مهام مزعجة، إلا ضرورة إخفائه لما يختلج وجهه من انفعال أو اضطراب عن شاشة الرصد، وشعر كأن ناراً أشعلت في ضلوعه. كان تناوله لطعام الغداء في المطعم الحار والغاص بالموظفين والمليء بالضوضاء بمثابة عملية تعذيب. فقد كان يأمل أن يختلي بنفسه أثناء ساعة الغداء، لكنه ولسوء حظه، فإن الأحمق بارصون قد حشرَ نفسه بكل سماجة بجانبه، وقد فاقت رائحة عرقه الكريهة رائحة الطعام المسلوق، ومضى بارصون يثرثر حول الاستعدادات لأسبوع الكراهية، مبدياً حماسته بشكل خاص لنموذج لوجه الأخ الكبير عَرْضَهُ متران ويجري إعداده بواسطة فرقة الجاسوسات، التي تنتمي إليها ابنته، خصيصاً لهذه المناسبة. ولم يكن ونستون يستطيع سماع ما يقوله بارصون وسط الضوضاء مما يضطره إلى تحمّل إزعاج تكرار بارصون لبعض ملاحظاته السخيفة. وقد لمح الفتاة ذات مرة وهي جالسة مع فتاتين أخريين حول إحدى الموائد في الطرف الآخر من قاعة الطعام. ويبدو أنها لم تره، أما هو فلم ينظر في اتجاهها مرة ثانية.

كان ونستون أفضل حالاً في فترة ما بعد الظهيرة. فقد أسندت إليه مهمة صعبة تتطلب عدة ساعات وتستلزم منه تركيزاً بحيث ينحي كل ما عداها جانباً. كان عليه تزوير بعض تقارير الإنتاج الصادرة منذ سنتين بطريقة تثير علامات استفهام حول نزاهة عضو بارز في قيادة الحزب وقد غدا فى وضع مزعزع. كان ونستون يجيد أداء مثل هذا اللون من العمل، بالتالي فقد تمكن من إقصاء الفتاة عن تفكيره لأكثر من ساعتين. ولكن عادت ذكراها ترتسم أمام عينيه مصحوبة برغبة جامحة في الاختلاء بنفسه حتى يمكنه التفكير في هذا التطور الجديد، وهو ما سيكون مستحيلاً دون أن يختلي بنفسه. كانت تلك الليلة هي إحدى الليالي التي يتعين عليه فيها الذهاب إلى المركز الاجتماعي. ازدرد وجبة طعام أخرى لا طعم لها ثم سارع إلى المركز وشارك في سخافة من سخافات «مجموعة النقاش»، ثم لعب شوطين من كرة الطاولة وشرب عدة كؤوس من الخمر وجلس نصف ساعة يستمع لمحاضرة بعنوان «علاقة الانجسوك (الاشتراكية الانجليزية) بالشطرنج». ورغم أن الملل قد أمسك بتلابيب روحه، فإنه وللمرّة الأولى يشعر بعدم الرغبة فى التملص من أمسية من تلك الأمسيات. إذ بعد رؤيته لكلمة «أحبك» شعر برغبة تنبجس بين حناياه في أن يظل على قيد الحياة، وبدا له فجأة أن من الحماقة أن يجازف بنفسه في مثل هذه المجازفات البسيطة. لم تكن الساعة قد بلغت الحادية عشرة مساء حينما عاد إلى شقته واستلقى على فراشه في الظلام حيث يكون بمأمن من شاشة الرصد إن هو التزم الصمت، لكن كان في مقدوره أن يسترسل في التفكير دون توقف.

وكانت الصعوبة العملية التي تتطلب حلاً هي: كيف يتصل بالفتاة ويرتب لقاء معها. وكان قد أبعد احتمال أنها تنصب له شركاً، وقد تأكد له ذلك بسبب ما اعتراها من اضطراب حينما أودعته القصاصة. فقد كان جلياً أن نوبة من الهلع قد انتابتها إلى درجة أخرجتها عن صورتها المعروفة، ولم يخطر على باله البتة أن يتمنّع عن قبول هذه البادرة منها، رغم أنه كان يفكر قبل خمس ليال في تهشيم رأسها بحجر. لكن ذلك لم يعد ذا أهمية الآن. وراح يفكر في جسدها العاري البض مثلما رآه في الحلم. كان يحسبها حمقاء كبقية فتيات جيلها، برأس محشو بالحقد والأكاذيب وجوفٍ مملوء بالجليد. ولذا فقد انتابته نوبة من حمى الخوف حينما خطر بباله احتمال فقدانه لها وإفلات جسدها الأبيض البض من بين يديه! وكان أخشى ما يخشاه هو أن يتغير رأيها إذا هو لم يبادر إلى الاتصال بها. ولكن الصعوبات العملية التي كانت تحول دون تحقق ذلك اللقاء كانت جمة. كان أمره أشبه بأمر من يحاول تحريك قطعة شطرنج فيما الموت يحاصر الملك. فأينما تول وجهك تر شاشة الرصد. وفي واقع الحال فإن كافة وسائل الاتصال بها قد خطرت بباله خلال خمس دقائق من قراءته للرسالة، ولكنه الآن وبعدما أصبح لديه متسع من الوقت للتفكير، أخذ يستعرضها واحدة تلو أخرى كما لو كان يصفّ مجموعة من الأدوات على مائدة.

وكان من الجلي أنه من غير الممكن أن يجمع بينهما لقاء كذلك الذي جمع بينهما في ذاك الصباح. فلو أن عملها كان في دائرة السجلات لكان الأمر هيناً نسبياً، لكنه لا يعرف على وجه التحديد أين توجد دائرة الإثارة في المبنى، وليس لديه ما يتذرع به للذهاب إلى هناك. ولو أنه كان يعرف أين تقطن وفي أي وقت تنصرف من العمل لتعمد مقابلتها في طريق عودتها إلى منزلها. بيد أن تتبعها إلى منزلها لم يكن أمراً مأمونة عواقبه لأن ذلك يعني التسكع خارج الوزارة وهو أمر يحتمل أن يلفت إليه الأنظار. وأما فكرة أن يبعث لها برسالة عبر البريد فأمر غير ممكن بتاتاً، إذ كانت الرسائل تفتح عند نقلها طبقاً لنظام متبع ومعلن ومن ثم ما كان يقدم على كتابة خطابات إلا قلة من الناس. وحينما تستدعي الضرورة إرسال بعض الرسائل كان الناس يلجأون إلى بطاقات مطبوعة تتضمن قائمة من العبارات الجاهزة، ويكفي المرء آنذاك أن يشطب على العبارت التي لا تتناسب مع موضوع رسالته. وفي نهاية المطاف استقر رأيه أن آمن مكان يلتقيان فيه هو المطعم. فإذا استطاع أن يشير إليها لكي تجلس بمفردها إلى منضدة في منتصف قاعة الطعام بعيدًا عن شاشة الرصد ووسط طنين كاف من الأصوات ليغطي على الحديث بينهما، إذا أمكن تحقيق هذه الشروط في مدى زمني مقداره 30 ثانية فبإمكانهما أن يتبادلا بعض الكلمات.

انقضى أسبوع كانت حياته خلاله بمثابة حلم قلق. ففي اليوم التالي لم تظهر الفتاة في المطعم إلا حينما كان يهم بمغادرته، وكانت صافرة بدء العمل قد سمعت فظن أنها غيرت نوبة عملها إلى نوبة أخرى. واجتاز كلاهما الآخر دون أن يرفع إليه ناظريه. وفي اليوم الذي تلى ذلك، كانت الفتاة في المطعم في الوقت نفسه، لكنها كانت بصحبة ثلاث فتيات أخريات وكن يجلسن أسفل شاشة الرصد مباشرة. ثم مرّت عليه ثلاثة أيام ثقيلة لم تظهر خلالها على الإطلاق، وبدا له أن عقله وجسده قد أصيبا بحساسية مفرطة أو بنوع من الشفافية جعل كل لفتة وكل صوت وكل تماس وكل كلمة، كان لزاماً عليه أن ينطق بها أو يصغي إليها، لوناً من ألوان من العذاب. وحتى في نومه لم يبارحه طيفها.

وفي خلال هذه الأيام لم يمسّ مفكرته. وإذا كان من راحة فقد كان يلتمسها في أوقات عمله حين يكون بمقدوره أن ينسى نفسه في غمرة العمل لمدة أقصاها عشر دقائق. كان واضحاً أنه ليس لديه أي دليل أو تفسير لما عساه قد لحق بالفتاة، ولا يمكن أن يسأل عنها. ربما تكون قد راحت ضحية عملية تصفية أو ربما تكون قد أقدمت على الانتحار أو نُقلت إلى الطرف الآخر من أوقيانيا. لكن أسوأ هذه الاحتمالات وأرجحها على الإطلاق أنها ربما غيّرت رأيها وقررت أن تتحاشى لقاءه.

وفي اليوم التالي عاودت الفتاة الظهور وقد حررت ذراعها من رباطه مكتفية بوضع ضمادة حول معصمها. وكانت رؤيته لها مبعثاً لارتياح غامر لديه حتى أنه لم يستطع مقاومة الرغبة في النظر إليها مباشرة لعدة ثوان. وفي اليوم التالي كان قاب قوسين أو أدنى من إمكانية التحدث إليها، إذ عندما دلف إلى المطعم كانت تجلس إلى مائدة بعيدة عن الحائط وكانت بمفردها. ولما كان الوقت مبكرا، فإن المطعم لم يكن قد امتلأ بعد بروّاده. وتحرك الطابور إلى الأمام حتى أصبح ونستون أمام طاولة تسليم الطعام، ثم توقف لدقيقتين لأن شخصاً من الذين يتقدمونه في الصف راح يشكو من عدم تسلمه قرص السكر. ولكن الفتاة كانت لا تزال بمفردها عندما أكمل ونستون صينيته وبدأ يسير متظاهراً بعدم الاكتراث بينما كانت عيناه تبحثان في المكان عن مائدة تقع خلفها. وسار نحوها حتى بات لا يفصله عنها سوى ثلاثة أمتار. ولم يبق غير ثانيتين ويتحقق مراده. وعندئذ تناهى إلى سمعه صوت قادم من خلفه ينادي «سميث» فتظاهر بأنه لم يسمع. فعاد الصوت يكرر النداء «سميث». فأدرك أن لا فائدة من التظاهر بعدم السماع واستدار يتطلّع وراءه فإذا به يرى ذلك الشاب الأشقر الشعر الغبي، الذي يدعى ويلشر والذي بالكاد كان يعرفه، يدعوه مبتسماً لمكان شاغر بجانبه. ولم يكن رفضه لتلك الدعوة بمأمون العاقبة. فبعد أن عرفه بعض من في المطعم لم يعد بمقدوره أن يذهب ويجلس قبالة مائدة تجلس إليها فتاة بمفردها، فقد كان ذلك لافتاً للأنظار ولذا جلس مع ويلشر وعلى شفتيه ابتسامة غير ودّية. وتهلل لذلك وجه الشاب الغبي. وعندئذ تراءى لونستون أن يحطم هذا الوجه بفأس فيشقّه نصفين. وما هي إلا دقائق قليلة حتى كانت مائدة الفتاة قد امتلأت.

ولكن لا بد أنها لاحظته مقبلاً نحوها ولربما فهمت المغزى. وفي اليوم التالي حرص ونستون على المجيء إلى المطعم مبكراً، فوجدها جالسة بمفردها في المكان نفسه. وكان يتقدمه في الطابور مباشرة رجل ضئيل الجسم سريع الحركة أشبه بالخنفساء ذو وجه منبسط وعينين صغيرتين مريبتين وما إن ابتعد عن طاولة التوزيع وهو يحمل صينيته حتى اتجه إلى مائدة الفتاة كالسهم، فضاعت آمال ونستون الذي تبعه وقد تجمد الدم في عروقه، ولكن لا جدوى من لقائه بالفتاة ما لم يكن على انفراد. في هذه اللحظة سُمع صوت ارتطام وإذا بالرجل الضئيل قد هوى أرضاً على أطرافه الأربعة بينما طارت الصينية في الهواء وجرى منها جدولان من الحساء والقهوة فوق أرضية القاعة. نهض الرجل على قدميه وهو يرمق ونستون بنظرات عدائية. كان واضحا أنه يشك في أن ونستون قد عرقله من الخلف. غير أن كل شيء مر بسلام. وبعد خمس ثوان كان ونستون يجلس إلى مائدة الفتاة بينما راحت دقات قلبه تدوي كالرعد.

لم يرفع نظره إلى عينيها. بل أخذ ينقل أوعية الطعام من الصينية إلى الطاولة وشرع في التهام طعامه على الفور. كان أمراً بالغ الأهمية أن يبادر بالحديث إليها قبل مجيء أي شخص آخر، ولكن شعوراً فظيعاً بالخوف قد انتابه، فقد انقضى أسبوع كامل على أولى بوادرها نحوه ولربما تكون قد غيرت رأيها، بل لابد أنها قد غيرت رأيها! كان من المستحيل أن تكلل مثل هذه العلاقات بالنجاح. إن ذلك لا يحدث على أرض الواقع. ولعله كان سيحجم عن الحديث إليها لولا رؤيته أمبلفورث في تلك اللحظة، الشاعر ذا الأذنين كثيفتي الشعر، وهو يتجول في أنحاء قاعة المطعم على مهل ومعه صينية باحثاً عن مكان شاغر. كان ثمة وشيجة غامضة تربط أمبلفورث بونستون ومن المؤكد أنه لن يتردد في الجلوس معه إن هو رآه. لم يكن أمام ونستون غير دقيقة واحدة للعمل. كان ونستون والفتاة منهمكين في التهام الطعام دون توقف. وكان ما يتناولانه عبارة عن حساء فاصوليا. وبصوت هادى وأشبه بالغمغمة كسر ونستون حاجز الصمت بينهما دون أن يرفع أي منهما عينيه عن صينيته مواصلين تناول الحساء. وبين ملعقة وأخرى تبادلا بعض الكلمات الضرورية بصوت خفيض ودون أن يعتري وجهيهما أي أنفعال.

- أي ساعة تتركين عملك؟

- السادسة والنصف مساء.

- أين يمكن أن نلتقي؟

- ساحة النصر قرب التمثال.

- إنها مليئة بشاشات الرصد.

- لا خوف إذا كانت مزدحمة بالناس.

- هل من إشارة؟

- كلا، لا تقترب مني إلا إذا رأيتني بين حشد من الناس. ولا تنظر نحوي بل ابق على مقربة مني.

- في أي وقت؟

- السابعة مساء.

- حسناً.

لكن أمبلفورث لم ير ونستون، فجلس إلى مائدة أخرى. أما ونستون والفتاة فلم يتبادلا كلمة واحدة بعد ذلك وكانا يتحاشيان تبادل النظر ما استطاعا إلى ذلك سبيلاً. فرغت الفتاة من غدائها على عجل وانصرفت، في حين بقي ونستون يدخن سيجاره.

ذهب ونستون إلى ساحة النصر قبل حلول الموعد المضروب وراح يدور حول النصب الهائل الحجم ذي الشكل الأسطواني، المنتهي بتمثال ضخم للأخ الكبير وهو يحدق جنوباً في الأفق حيث عقد له النصر على الطائرات الأوراسية (قبل سنوات كانوا يقولون طائرات شرقاسيا) في معركة خاضتها المحطة الجوية رقم 1. في الشارع وأمام التمثال كان هناك تمثال آخر لرجل يمتطي حصاناً يفترض أنه أوليفر كرومويل. مضت خمس دقائق على الموعد ولم تظهر الفتاة فانتاب ونستون خوف شديد من جديد إذ ظن أنها لن تأتي وأنها قد عدلت عن رأيها. راح يتقدم ببطء إلى الطرف الشمالي من الساحة وقد علا وجهه نوع من السرور الباهت عندما وقعت عيناه على كنيسة القديس مارتن التي كانت أجراسها، حينما كانت لها أجراس، تدق نغمات «أنت مدين لي بثلاث فارذنج». ثم فجأة رأى الفتاة واقفة عند قاعدة التمثال وهي تقرأ، أو تتظاهر بقراءة، ما كتب على قاعدة التمثال، ولم يكن من المأمون أن يقترب منها قبل أن يتجمع المزيد من الناس حولها، فشاشات الرصد تملأ المكان. بيد أنه في هذه اللحظة انبعث صوت هتافات وسمع أزيز عربات ثقيلة تنطلق من الناحية اليسرى. وفجأة سادت حالة من الهرج والمرج فى الساحة. تسللت الفتاة من بين تماثيل الأُسُود عند قاعدة النصب ثم غرقت في الزحام. وتبعها ونستون بينما كان يُعلَن أن قافلة من أسرى الحرب الأوراسيين كانت تمر.

كانت جماهير كثيفة من الناس قد تقاطرت على الساحة حتى أغلقت طرفها الجنوبي. فرأى ونستون نفسه، وهو الذي فى الأوقات العادية ينأى عن كل أشكال العراك، وقد راح يشق طريقه بالمناكب ويدفع ويلكز ليشق طريقه إلى وسط الحشود. وسرعان ما بات على مبعدة ذراع واحدة من الفتاة. ولكن الطريق كان مسدوداً برجل ضخم الجثة من العامة وامرأة بحجمه تقريباً، ربما تكون زوجته، وكأنهما يشكلان معاً حائطاً بشرياً لا يمكن اختراقه. شق ونستون طريقه بصعوبة حتى حشر كتفه بينهما بعنف. للحظة من الزمن أحس وكأن أحشاءه قد انسحقت بين هاتين الكتلتين من اللحم. لكنه نجح في اختراقهما وقد تصبب عرقاً. أخيراً وجد نفسه إلى جانب الفتاة كتفا لكتف وكلاهما يحدق أمامه دون أن يلتفت إلى الآخر.

كان هناك رتل طويل من الشاحنات، تحمل حراساً ذوي وجوه خشبية ومسلحين بالبنادق الألية يقفون منتصبين في كل زاوية من زوايا الشاحنات، يمر ببطء في الشارع. وفي الشاحنات كان يجلس رجال ضئيلو الأجسام ذوو بشرة صفراء وثياب خضراء رثة اكتظت بهم الشاحنات وراحت وجوههم المنغولية البائسة تحدق من فوق جوانب الشاحنات فاغرين أفواههم غير عابئين بشيء. وكنت تسمع من حين لآخر قعقعة الأغلال الحديدية التي سُربلوا بها كلما تأرجحت شاحنة. شاحنات تلو شاحنات من الأسرى المساكين كانت تمر. وكان ونستون يشعر بوجود هذه الوجوه لكنه كان يراهم على نحو متقطع، إذ كانت الفتاة تقف بجانبه وقد التصقت ذراعها اليمنى بمرفقه، وكانت وجنتها قريبة منه بحيث كان يحس حرارتها. وسرعان ما أمسكت الفتاة بزمام الموقف مثلما فعلت حينما كانت في المطعم. وابتدرته بالكلام وبالصوت نفسه الخالي من الانفعالات كالعادة، حيث كانت شفتاها لا تتحركان إلا بالكاد ولا يخرج منهما إلا همس يكاد يضيع وسط طنين الأصوات وقرقعة الشاحنات.

- هل تسمعني !

- أجل.

- هل يمكنك الحصول على إذن من العمل بعد ظهر الأحد؟

- أجل.

- إذن اصغ إلى بعناية وانتبه جيداً لكل ما سأقوله. اذهب إلى محطة بادنجتون...

وبدقة عسكرية متناهية أدهشته، أخذت توضح له الطريق الذي يسلكه كالتالي: رحلة بالقطار تستغرق نصف ساعة، ثم الانعطاف يساراً خارج المحطة ثم السير كيلومترين عبر طريق حتى يصل إلى بوابة نُزِع قضيبها العلوي اعبرها إلى طريق عبر الحقول يؤدي إلى ممر مغطى بالعشب عبر شجيرات صغيرة إلى أن تصل إلى شجرة ميتة عليها طحالب كثيرة. كان الموقف يبدو كما لو كانت تحمل خريطة داخل رأسها.

وأخيراً سألته بصوت خفيض:

- هل يمكنك تذكر كل ذلك؟

- أجل.

- إذن، انعطف يساراً ثم يميناً فيساراً ثانية لتجد بوابة نُزِع قضيبها العلوي.

- فهمت، لكن في أي وقت؟

- حوالي الساعة الثالثة. ربما ستضطر للانتظار لأنني سأسلك طريقاً آخر. لكن هل أنت متأكد أنك تتذكر جيدًا كل ما قلت؟

- أجل.

- إذن ابتعد عني بأسرع ما يمكن.

لم تكن تحتاج إلى قول ذلك. فقد ظلا لفترة من الزمن عاجزين عن تخليص نفسيهما من الجماهير المحتشدة. كانت الشاحنات لا تزال تتتابع والناس فاغرين أفواههم دهشة وعجباً. في البداية كان هناك قليل من صيحات الاستهجان والصفير وكانت تنبعث من أعضاء الحزب فقط ولم تلبث أن توقفت. فقد كانت غريزة حب الاستطلاع تخيم على الأجواء. فالأجانب سواء كانوا من أوراسيا أو شرقاسيا يُنظر إليهم كنوع من الحيوانات الغريبة. إذ لم يكن المرء يراهم إلا في ثياب السجناء وحتى في ذلك لم يكن يستطيع أن يراهم إلا للحظات عابرة كما أن مآلهم كان يظل مجهولاً، فباستثناء تلك القلة منهم الذين يشنقون باعتبارهم مجرمي حرب، كان الباقون يختفون تماماً عن الأنظار ولعلهم يرسلون إلى معسكرات الأشغال الشاقة. وغابت الوجوه المنغولية المستديرة لتحل محلها وجوه أوروبية قذرة ذات لحى يظهر عليها أثر الإرهاق. ومن فوق خدود ناتئة العظام كانت عيونهم تنفذ إلى عيني ونستون. فتارة تكون نظراتهم قاسية وتارة تذهب بعيداً. وبينما كان رتل الشاحنات يقترب من نهايته رأى ونستون في آخرها عجوزاً كهلاً، وقد اكتسى وجهه بشعر أشيب كثيف، يقف منتصباً وقد عقد معصميه معاً بشكل متقاطع أمام صدره كما لو كان قد اعتاد أن يجدهما موثوقين معاً. وكان الوقت قد حان لافتراق ونستون والفتاة. ولكن في اللحظة الأخيرة وفيما كانت الجماهير ما زالت محتشدة شبكت يده بيدها وضغطت عليها.

لم يستغرق هذا التشابك بين يديهما أكثر من عشر ثوان، ومع ذلك بدا أنهما قد تشابكتا مدة أطول. وكان في ذلك ما يكفي ونستون لمعرفة كل تقاطيع راحة يدها تفصيلاً. فقد تلمّس الأصابع الطويلة والأظافر حسنة التقليم، وراحة اليد التي اخشوشنت من أثر العمل وتلمّس اللحم الناعم عند المعصم. وكان مجرد تحسسه لها قميناً بأن يعرفها لاحقا مع أنه لم يرها. وفي اللحظة ذاتها خطر بباله أنه لم يعرف لون عينيها. ربما كانتا بُنيتين. ولكن ذوي الشعر الأسود قد تكون عيونهم زرقاء اللون أحياناً. وكان من الحمق الشديد أن يلتفت لينظر إلى عينيها. فقد ظلا يحدقان أمامهما باستمرار حتى حين تشابكت يداهما. وبدلاً من أن يتطلع ونستون في عيني الفتاة، رأى عيني الأسير الكهل تحدقان بكآبة في عينيه من خلال شعر وجهه الكثيف.


google-playkhamsatmostaqltradent