خبر
أخبار ملهلبة

1984 | "جورج أورويل" | (7)



1984 (7)



راح ونستون يُقلّب نظره في زوايا الغرفة الوضيعة الصغيرة الكائنة فوق حانوت السيد شارنغتون. كان فيها سرير ضخم ينتصب مرتباً بجوار النافذة وعليه أغطية بالية. وكان فوق المتكأ العلوي للمدفأة ساعة عتيقة من ذات الاثني عشر رقما تسمع دقاتها. وفي زاوية الغرفة شبه المعتمة كان يومض وعلى نحو ضعيف ثقل الورق الزجاجي الذي اشتراه في آخر زيارة له إلى ذلك الحانوت.

قرب سياج المدفأة كان هنالك موقد زيتي من الصفيح أكل الدهر عليه، فضلاً عن إبريق وفنجانين أمدّه بها السيد شارنغتون. أشعل ونستون شريط الموقد ثم وضع فوقه إبريق الماء ليغلي، وكان قد أحضر معه عبوة من قهوة النصر وبعض مكعبات السكرين. كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة مساء، فيما هي في الواقع السابعة والثلث. أما موعد وصول جوليا فكان في السابعة والنصف.

راح قلبه ينبض خوفاً بكلمات: إنها لحماقة! إنها لحماقة، إني أجرجر نفسي متعمداً إلى موت زؤام مجاني، فالجريمة التي أوشك على ارتكابها هي من الجرائم التي لا يمكن لعضو الحزب أن يتملّص منها.

لقد انبجست في ذهنه هذه الفكرة للمرة الأولى وأثارتها في مخيلته رؤيته للثقل الزجاجي الذي انعكس على سطح الطاولة المطوية. وكما تكهن فإن السيد شارنغتون لم يجد غضاضة في أن يؤجر الغرفة له، وبدا جلياً أن حفنة الدولارات التي سيدرّها عليه ذلك قد سرته كثيراً حتى أنه لم يظهر عليه أي أثر لصدمة أو شعور بالتأذي لدى معرفته بأن ونستون ينوي أن يتخذها ملاذاً لممارسة الحب، بل وعلى النقيض من ذلك راح يتظاهر بعدم المبالاة وجعل يسترسل في الحديث عن مبادئ عامة وبلهجة لطيفة تعطي انطباعاً بأنه ليس له وجود بالغرفة. وقال لقد كانت الخصوصية شيئاً ثميناً جداً، فالمرء يحتاج من وقت لآخر إلى موئل يختلي فيه بنفسه، وأصول اللياقة الاجتماعية تقضي بأن يحتفظ كل من تناهى إلى معرفته هذا الأمر بالمعلومات لنفسه، بل وبدا وكأنه يتلاشى نهائياً ويلغي وجوده وهو يضيف قائلاً: «إن للمنزل مدخلين، أحدهما يمر عبر الساحة الخلفية ويطل على زقاق».

وتحت النافذة كان هنالك شخص يغني، فاسترق ونستون النظر محتمياً وراء ستار الموسلين، وكانت شمس حزيران لا تزال في كبد السماء، حيث كان ينظر في الساحة التي غمرتها الشمس إلى تلك المرأة الضخمة التي جعلها بنيانها المتين أشبه بعمود نورماندي، فكانت ذات ساعدين مفتولي العضلات حمراوي اللون تلف حول خصرها مئزراً، كما كانت تروح وتجيء بين وعاء الغسيل والحبل حيث كانت تعلق أشياء صغيرة بيضاء اللون أدرك ونستون أنها حفاضات أطفال، وكانت كلما انتهت من مشاجب الغسيل التي تحملها بين شفتيها تنطلق بالغناء بصوت جهوري:

«كان حلماً مقطوع الرجاء

مر كيوم من نيسان

ولكن بنظرة وكلمة وأحلام أثاروها

استُلب مني فؤادي».

ظلت أصداء هذه الأغنية تتردد في أنحاء لندن على مدى أسابيع، لقد كانت واحدة من أغنيات مشابهة لا حصر لها يوجهها أحد فروع قسم الموسيقى إلى العامة، وكانت كلماتها تؤلف دون أي تدخّل بشري بواسطة جهاز يعرف باسم «الناظم». غير أن المرأة كانت تغنيها بطريقة بعثت الحياة في كلماتها ما جعل هذه السخافات الكئيبة تتحول إلى أصوات تبعث على السرور. كان ونستون يسمع المرأة وهي تغني، كما يسمع وقع احتكاك حذائها وهي تجرجره على أحجار الشارع مختلطاً بصراخ الأطفال في الشارع. كما كان يتناهى إلى السمع هدير خافت لحركة الشاحنات يأتي من أفق بعيد، ومع ذلك ظل سكون عجيب يخيم على الغرفة، وربما كان مردّ ذلك عدم وجود شاشة رصد في الغرفة.

وعاد يحدث نفسه: يا لها من فكرة حمقاء، إنه لمن المستبعد التردد على هذا المكان لأكثر من بضعة أسابيع بغير افتضاح سترهما. ولكن فكرة أن يمتلكا مكاناً مغلقاً وآمناً وفي متناولهما كانت تمارس على كليهما إغراء لا يقاوم، إذ تعذّر عليهما لفترة بعد لقائهما في برج الكنيسة ترتيب لقاءات جديدة، فقد ازدادت ساعات العمل بشكل لا يُحتمل استعداداً لفعاليات «أسبوع الكراهية». ومع أنه كان لا يزال هناك شهر قبل حلول هذا الأسبوع فإن الاستعدادات الهائلة والمعقدة التي تسبقه ألقت بمزيد من الأعباء على كاهل كل شخص. وأخيراً تمكن كل منهما من تدبير نصف يوم عطلة في اليوم نفسه، وكانا قد اتفقا على أن يعودا إلى مخدعهما في الغاب. وفي المساء الذي سبق الموعد المضروب التقيا على نحو خاطف في الشارع، وكالمعتاد لم يتطلع ونستون مباشرة إلى جوليا وهما يسيران وأحدهما في اتجاه الآخر في قلب الزحام، بيد أنه مع ذلك لاحظ من خلال هذه النظرة الخاطفة أن جوليا أكثر شحوبا من ذي قبل.

وحينما تبيّن لها أن لا خطر يتهددها إن هي تكلمت، غمغمت تقول: «لقد تم إلغاء الموعد، أقصد موعد الغد».

أجاب ونستون: «ماذا؟»

قالت: «لن أستطيع المجيء بعد ظهر الغد».

قال: «ولِمَ لا؟»

أجابت: «للسبب المعتاد نفسه، لقد بدأت الاستعدادات أبكر في هذه المرة».

وتملّك ونستون غضبٌ عارم. فخلال الشهر الذي مضى كان ثمة تغيير قد طرأ على طبيعة رغبته إزائها. في أول الأمر كانت مفعمة بالقليل من الشهوة الحقيقية، وكان أول لقاء حب يضمهما بمثابة عمل صادر عن إرادة لا رغبة. لكن ذلك تغيّر في المرة الثانية، إذ إن رائحة شعرها وفمها وملمس بشرتها قد تغلغلت في جوانحه وملأت الهواء الذي يحيط به وأصبحت ضرورة بالنسبة إليه، بل استحالت شيئاً لا يريده فحسب بل يشعر أيضا بأن من حقه الحصول عليه. ولذلك فعندما قالت إنها لن تستطيع المجيء ساوره شعور بأنها تخادعه، ولكن في هذه اللحظة ازداد ضغط الزحام فالتقت أيديهما مصادفة، وشعر بها تضغط على أطراف أصابعه بشكل لا يثير الرغبة بل يحرك العاطفة. وحدثته نفسه أن المرء حينما يعيش مع امرأة يجب أن يعتبر خيبة الرجاء هذه أمراً عادياً وحدثاً متكرراً، وهنا شعر بعاطفة مشبوبة إزاءها كما لم يشعر من قبل. ومنّى نفسه لو أنه قد تزوجها قبل عشر سنوات، ولو أنه كان يستطيع أن يمشي معها في الشوارع كما يفعلان الآن ولكن علانية ودون خوف، ويتبادلان الحديث حول التفاهات ويشتريان معاً احتياجات بيتهما. وفوق كل ذلك تمنى لو كان لديهما مكان يختليان فيه معاً دون رقيب او حسيب وبغير أن يكون لزاماً عليهما أن يمارسا الحب في كل مرة يلتقيان فيها. لم تكن فكرة استئجار غرفة السيد شارنغتون قد خطرت له في تلك اللحظة، بل حدث ذلك في اليوم التالي، ولم يكد يعرضها على جوليا حتى قبلتها بسرعة لم يتوقعها. كان كلاهما يعي أن هذا عمل طائش، إذ كانا كمن يحفران قبريهما بمحض إرادتهما. وبينما كان يجلس على حافة السرير راح يفكر ثانية في زنزانات وزارة الحب. إنه لأمر غريب أن هذا الفزع المحكوم به على الإنسان يجتاح وعيه حيناً ويختفي حيناً، فهو يكمن هناك في المستقبل، ويستبق الموت تماما مثلما يسبق الرقم 99 المائة. فالمرء لا يستطيع تحاشيه وإن كان يستطيع إرجاءه، ومع ذلك فإن على المرء من حين لآخر أن يختار بمحض إرادته أن يقصّر الفترة التي تسبق وقوعه.

وفي تلك اللحظة سمع ونستون وقع أقدام سريعة على السلم اندفعت على أثرها جوليا إلى داخل الغرفة، وكانت تحمل حقيبة أدوات من قماش خشن بني اللون مثل تلك التي كان يراها تحملها في أروقة من الوزارة. فنهض وتقدم نحوها ليأخذها بين ذراعيه ولكنها تخلصت منه بسرعة ربما لأنها كانت لا تزال تحمل الحقيبة.

وقالت: «لحظة من فضلك، دعني أريك ما أحضرت معي. هل أحضرت معك بن النصر البغيض؟ لا بد أنك فعلت. يمكنك أن ترمي به بعيدا لأننا لن نحتاج إليه بعد الآن. انظر». ونزلت على ركبتيها وفتحت الحقيبة وأخرجت ما بها من مفاتيح ربط ومفكات كانت تغطي القسم الأعلى منها حيث كانت تضع تحتها عبوات ورقية أنيقة. وكانت العبوة الأولى التي ناولتها إلى ونستون ذات ملمس غريب وغامض بعض الشيء، لقد كانت معبأة بمادة ثقيلة أشبه بالرمل.

قال: «ما هذا؟ سكر؟»

- إنه سكر حقيقي لا مكعبات السكرين. وهذا رغيف من الخبز - الخبز الأبيض الرائع، لا الخبز الكريه الذي يُعطى لنا. وها هي علبة صغيرة من المربى. وإليك بعضاً من الحليب. لكن انظر هذا هو الشيء الذي أفخر به حقاً، لقد اضطررت للفه بقطعة من الخيش لأنه...

ولم تكن ثمة حاجة لأن تشرح له لماذا اضطرت للفّ هذا الشيء، فقد كانت رائحته قد ملأت الغرفة بالفعل وكانت رائحة غنية ودافئة بدت وكأنها انبعاثات آتية من عالم طفولته الأولى: رائحة لا تصادف المرء في الوقت الراهن إلا حينما تفوح من خلف باب موصد يطل على ممر أو تنبعث بطريقة ما في شارع مكتظ بالناس حيث يستنشقها المرء للحظة ثم تختفي ثانية.

همس ونستون بدهشة: «إنه بُن، بُن حقيقي».

- إنه البن الذي يشربه أعضاء الحزب الداخلي. إليك كيلو كاملاً منها.

- ولكن كيف تسنى لكِ الحصول على مثل هذه الأشياء؟

- إنها كلها مواد خاصة بالحزب الداخلي. ليس ثمة ما ينقص هؤلاء الأوغاد، ولكن بطبيعة الحال يستطيع الخدم والندل أن يسرقوا بعضاً منها خلسة... انظر لقد حصلت على عبوة من الشاي أيضاً.

جلس ونستون القرفصاء بجانبها ومزق إحدى عبوات الشاي ثم صاح قائلاً: «إنه شاي حقيقي لا أوراق شجر العليق».

وقالت جوليا بغموض: «لقد أصبح لديهم كميات كبيرة منه في الآونة الأخيرة كما لو كانوا قد احتلوا الهند أو شيئاً من هذا القبيل. والآن أصغ إليّ عزيزي: إني أريدك أن تدير ظهرك لثلاث دقائق. اذهب واجلس على الجانب الآخر من السرير ولا تقترب من النافذة ولا تستدر نحوي إلا عندما أطلب منك ذلك».

وراح ونستون يحدق من خلال ستار الموسلين وهو غائب الذهن، وكان يبدو أن المرأة ذات الساعدين حمراوي اللون لا زالت تروح وتجيء في الساحة بين وعاء الغسيل وحبل الغسيل. وأخرجت مشجبي غسيل من فمها وهي تغني بحس عميق:

«يقولون إن الزمن يداوي كل الجراح

يقولون إن المرء بوسعه دائماً النسيان

بيد أن الابتسامات والدموع عبر السنين

ما تزال حتى الآن تقطع نياط قلبيّ»

كان يبدو أن المرأة تحفظ جميع مقاطع هذه الأغنية عن ظهر قلب. وأخذ صوتها يسري لأعلى محمولاً على أجنحة نسيم الصيف العليل وعلى لحن رقيق مفعم بشعور ينم عن سعادة تخالطها الكآبة. وكان الناظر إليها يخامره شعور بأنها ستكون راضية كل الرضا لو أن أمسية حزيران هذه قد امتدت بلا نهاية ولو أن ما لديها من ثياب مغسولة لا ينفد حتى تظل على حالها هذه لألف عام تعلق فيها حفاضات الأطفال وتردد الأغنيات التافهة. وتنبه إلى أن من غريب الحقائق أنه لم يسبق له أن سمع عضواً من الحزب وهو يغني وحده وبهذه التلقائية، إذ كان ذلك قمينًا بأن يبدو شكلاً من أشكال عدم الولاء وانحرافاً عن مبادى الحزب وشذوذاً خطيراً يرقى إلى مستوى كلام المرء إلى نفسه. وربما لم يكن الناس يبحثون عن شيء للتغني به إلا حينما يصبحون على شفير الموت جوعاً.

مرّت الدقائق الثلاث، فقالت جوليا: «يمكنك أن تستدير الآن».

استدار ونستون وللحظة بدا له أنه لا يعرفها. وكان في الحقيقة يتوقع أن يراها عارية، بيد أنها لم تكن كذلك، فالتحول الذي جرى عليها كان أكثر إثارة للدهشة من التعري. ذلك أنها كانت قد طلت وجهها بمساحيق الزينة وتلويناتها.

لا بد أنها قد انسلّت إلى أحد الحوانيت الكائنة في أحياء العامة واشترت لنفسها مجموعة من أدوات الزينة. كانت شفتاها قد ازدادتا احمراراً ووجنتاها قد توردتا وأنفها قد طاله شيء من المسحوق، بل وكان هناك أثر لشيء ما تحت عينيها يجعلهما أكثر بريقاً. نعم، لم يكن قيامها بذلك كله قد تم ببراعة، ولكن مقاييس ونستون أيضاً في مثل هذه الأمور لم تكن رفيعة، إذ لم يسبق له أن رأى أو حتى تخيل امرأة من الحزب تصبغ وجهها بمساحيق الزينة. لقد كان التغيير الذي طرأ على مظهرها مثيرا للدهشة، فهي لم تصبح أكثر جمالاً فحسب بل أيضا، هو الأهم، أكثر أنوثة. وقد زاد من روعة مظهرها هذا شعرها القصير وزيها الصبياني. وما إن ضمها بين ذراعيه حتى غمرت أنفه رائحة زهور بنفسج صناعي، وعادت به الذاكرة في الحال إلى العتمة التي كانت تخيم على المطبخ شبه المعتم سيّئ الذكر وإلى المرأة ذات الفم كالمغارة. ورغم أن عطر جوليا هو نفسه العطر الذي كانت تستعمله تلك المرأة، لكنه في هذه اللحظة كان ذا أثر مغاير.

وصاح: «وعطر أيضاً!»

- أجل يا عزيزي، عطر أيضاً. هل تدري ما أنوي عمله في المرة التالية؟ سوف أجيء بثوب نسائي حقيقي وألبسه هنا عوضاً عن هذه البنطلونات اللعينة! سوف ألبس أيضاً جورباً حريرياً وحذاء عالي الكعب. أريد أن أكون في هذه الغرفة امرأة لا رفيقة حزبية.

ثم خلعا ملابسهما وقذفا بها بعيداً واعتليا السرير الخشبي الضخم. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتجرد فيها من ثيابه كاملة مع جوليا، فحتى تلك اللحظة كان ما يزال يشعر بخجل شديد من جسمه النحيل الشاحب وتلك الدوالي البارزة في بطتي ساقيه وكذلك البقعة المشوهة اللون فوق كاحله، ولم يكن فوق السرير أي شراشف سوى تلك البطانية البالية التي كانت خيوطها قد بليت حتى أصبحت ملساء، وما إن رقدا عليها حتى تملكتهما الدهشة من ضخامة السرير ومرونة نوابضه. وقالت جوليا: «لا ولب أنه محشو بالبق، لكن ذلك لا يعنينا في شيء!» لم يعد المرء يرى أسرة مزدوجة هذه الأيام اللهم إلا في بيوت العامة. لقد نام ونستون في واحد منها في صباه، أما جوليا فلا تتذكر أن فرصة كهذه أتيحت لها من قبل.

وللتو راحا في نوم عميق لفترة وجيزة. وعندما استيقظ ونستون كانت عقارب الساعة قد زحفت حتى قاربت التاسعة مساء، لكنه لم يتحرك لأن جوليا كانت لا تزال نائمة متوسدة ذراعه. كانت معظم مساحيق زينتها قد انتقلت إلى وجهه فضلا عن الوسادة، لكن ثمة بقعة خفيفة من اللون الأحمر كانت لا تزال تبرز جمال وجنتيها. وفوق مؤخرة السرير كان شعاع أصفر من أشعة الشمس الغاربة يسقط فينعكس ضوؤه على موقد النار حيث يغلي الماء في الإبريق. أما في الأسفل، في الساحة، فكانت المرأة قد كفت عن الغناء، إلا أن صياح الأطفال في الشارع كان يتناهى إلى مسامعه عبر النافذة. وأخذ ونستون يتساءل في غموض عما إذا كان أمراً طبيعياً في ماضي الأيام الغابرة أن ينام معاً، في سرير مثل هذا ووسط الجو المنعش لأمسية صيفية كهذه، رجل وامرأة وهما متجردين من كل ثياب، يمارسان الحب متى شاءا ذلك ويتبادلان الحديث متى شاءا، ودون أن يشعرا بأن ثمة ما يضطرهما إلى مغادرة فراشهما. هل كان أمراً عادياً أن يضطجعا بكل بساطة لا يشغلهما إلا الإصغاء إلى الأصوات الهادئة الآتية من الخارج؟ لا ريب أن شيئاً من ذلك لم يكن عادياً في يوم من الأيام. وهنا استيقظت جوليا وفركت عينيها ثم رفعت نفسها متكئة على مرفقها ونظرت إلى الموقد الزيتي.

وقالت: «لقد تبخر نصف الماء، سأنهض وأعدّ بعض القهوة خلال لحظة. أمامنا ساعة بعد. في أي ساعة يقطعون الكهرباء عن شققكم؟»

- في الحادية عشرة والنصف مساء.

- إنهم في نزلنا يقطعونه في الحادية عشرة مساء، ولكن علينا أن نكون هناك قبل ذلك لأن... آه ما هذا؟ اخرج أيها الوحش القذر!

وألقت ببعض جسمها فجأة من فوق السرير حيث التقطت حذاء من على الأرض وقذفت به بحركة صبيانية نحو زاوية من زوايا الغرفة، تماماً كما رآها تلقي بالقاموس في وجه غولدشتاين في ذلك الصباح أثناء «دقيقتي الكراهية».

سألها بدهشة: «ما هذا؟»

- إنه جرذ رأيته يمد أنفه اللعين من ثقب في الغطاء الخشبي. لقد أخفته على أي حال.

- فغمغم ونستون: «جرذان! حتى في هذه الغرفة!»

فقالت جوليا غير آبهة وهي تعاود الاضطجاع:

- إنها موجودة في كل مكان. حتى في مطبخ نزلنا، كما أن بعض المناطق في لندن تغص بها غصاً. هل تعلم أنها تهاجم الأطفال؟ نعم إنها تفعل. وفي بعض الشوارع لا تجرؤ أم على ترك طفلها بمفرده لدقيقتين. إن الجرذان الضخمة بنية اللون هي التي تهاجم، وأقبح ما يفعله هذا النوع من الجرذان هو أنها دائماً...

فقاطعها ونستون مغمضاً عينيه تماماً: «كفاك حديثاً في هذا الموضوع».

- ما بالك يا حبيبي، لقد شحب لونك. ما الأمر؟ هل تصيبك رؤيتها بالغثيان؟

- إن أكثر ما يرعبني في هذا العالم هو الجرذان.

فضمّته إلى جسدها وأحاطته بأطرافها كأنما أرادت أن تبث فيه الطمأنينة بدفء جسدها. لكنه لم يفتح عينيه مرة أخرى مباشرة، فقد مرت به لحظات تملّكه خلالها شعور بأن ذلك الكابوس الذي كان لا يفتأ ينتابه من حين لأخر طوال حياته قد عاوده من جديد. لقد كان دائماً الكابوس نفسه الذي يرى فيه نفسه واقفاً أمام جدار من الظلام وعلى الجانب الآخر كان ثمة شيء لا يمكن احتماله، إنه شيء كريه على النفس لا يمكن للمرء مواجهته. وفي ذلك الحلم الكابوس كان ما يستحوذ عليه هو شعوره بأنه يخادع ذاته، لأنه في واقع الأمر كان يعلم ما وراء هذا الجدار، وبجهد جهيد، وكأنما ينتزع قطعة من مخه، كان يمكنه أن يخرج هذا الشيء إلى النور. بيد أنه كان دائماً يستيقظ دون أن يكتنه هوية ذلك الشيء: رغم أنه كان يبدو وكأن رابطاً ما يربطه بما كانت جوليا تتحدث عنه حينما قاطعها.

- إنني آسف، لا شيء، كل ما في الأمر هو أنني لا أحب الجرذان.

- هدئ من روعك حبيبي، فلن نبقي على هذه الحيوانات اللعينة هنا، سأحشو هذا الثقب بقطعة من الخيش قبل أن ننصرف، وفي المرة التالية عند قدومنا سأحضر معي بعض الاسمنت وأسده على نحو مضمون. كانت نوبة الفزع التي انتابت ونستون قد أخذت في الزوال. ولشعوره بالخجل من نفسه جلس متكئاً على مقدمة السرير، في حين كانت جوليا قد نهضت وارتدت زيها الرسمي وأعدّت القهوة. كانت الرائحة المتصاعدة من الغلاية قوية ونفاذة حتى أنهما أوصدا النافذة خشية تسربها إلى الخارج لئلا تلفت الأنظار وتصبح الغرفة مثارا للشكوك. ولم يكن ثمة ما هو ألذ مذاقا من القهوة إلا ذلك الطعم حريري الملمس الذي أكسبها إياه السكر، الذي كاد ونستون ينساه بعد أن ظل لسنوات لا يستعمل إلا السكرين. أما جوليا فقد أخذت تتجول في الغرفة وقد دسّت إحدى يديها في جيبها فيما الأخرى تمسك بقطعة خبز بالمربى وهي تتطلع بلا مبالاة إلى رف الكتب في محاولة لاستكشاف أفضل الطرق لإصلاح قوائم الطاولة المطوية، ثم ألقت بنفسها فوق المقعد البالي ذي المسندين لترى ما إذا كان مريحاً أم لا؟ ثم مضت تتفحص الساعة ذات الاثني عشر رقماً عتيقة الطراز بارتياح من يتسلى بشيء، ثم حملت الثقل الزجاجي إلى السرير لتمعن النظر فيه. ولكنه أخذها من يدها مأخوذاً كالعادة بمنظر الزجاج الناعم الذي يشبه ماء المطر.

فسألته جوليا: «ماذا تظن هذا يا ترى؟»

- لا أظن أنها شيء مهم، أقصد أنه لم يسبق لها أن كانت ذات فائدة في يوم من الأيام. وهذا هو ما أحبه فيها. إنها أثر من الماضي فاتهم أن يمحوه. إنها رسالة يعود تاريخها إلى مئة عام، هذا إن استطاع المرء أن يقرأها.

وأومأت جوليا صوب الصورة ذات القضبان المحفورة والمعلقة فوق الحائط قائلة: «وماذا عن هذه الصورة؟ هل يمكن أن يكون عمرها مئة عام؟»

أجاب ونستون: «أكثر من ذلك، ربما مئتي عام. لكن هذا ما لا يستطيع أحد أن يجزم فيه، فقد بات من المستحيل على المرء أن يحدد عمر أي شيء في هذه الأيام».

ودنت جوليا من الصورة لتمعن النظر فيها ثم قالت وهي تركل الغطاء الخشبي للحائط أسفل الصورة مباشرة: «ها هو الثقب الذي أطل الجرذ اللعين بأنفه منه. ما هذا المكان؟ أذكر أنني رأيته قبل ذلك».

قال ونستون: «إنها كنيسة، أو على الأقل كانت كنيسة القديس سانت كليمنت دان».

وحينئذ كانت أصداء مقطع الأغنية التي لقنه إياها السيد شارنغتون قد عاد يتردد في ذاكرته وأضاف بلهجة مفعمة بالحنين إلى الماضي:

«برتقال وليمون، تقول أجراس سانت كليمنت!»

ولدهشته أكملت جوليا المقطع بما يلي:

«إنك مدين لي بثلاث فارذنج، تقول أجراس سانت مارتن، فمتى ستدفعيها؟ تقول أجراس أولد بايلي...»

وأضافت تقول: «لست أذكر ماذا تقول الأغنية بعد ذلك. ولكني أذكر أنها تنتهي على النحو الآتي: ها هي شمعة تستضيء بها إلى فراشك، وها هو سيف لحزّ رقبتك».

كان الأمر أشبه بمقطعين تتألف منهما كلمة سر، ولكن كان لا بد أن يكون ثمة شطر آخر بعد «أجراس أولد بايلي»، ربما يمكن انتزاعه من ذاكرة السيد شارنغتون إذا أمكن تذكيره به على نحو مناسب.

سألها: «لكن من علمك هذا؟»

- إنه جَدّي، لقد اعتاد أن يرددها لي وأنا بعد فتاة صغيرة. لقد تبخر عندما كنت في الثامنة أو اختفى على أي حال. وأضافت بشكل غير متجانس: ترى ماذا كان شكل الليمونة؟ لقد رأيت البرتقال، إنه فاكهة مستديرة صفراء اللون ذات قشرة سميكة.

قال ونستون: «أنا أستطيع تذكر الليمون، لقد كان شائع الانتشار في الخمسينات وكان شديد الحموضة إلى حد يجعلك تصرين صريراً على

أسنانك بمجرد أن تتذوّقيه».

قالت جوليا: «أراهن أن هذه الصورة تؤوي بقّاً خلفها. سوف أنزلها من مكانها وأنظفها جيداً في يوم من الأيام. أظن أن وقت انصرافنا قد حان. يجب أن أبدأ في إزالة هذه الزينة عن وجهي، يا له من عمل مزعج. وسوف أزيل أحمر الشفاه عن وجهك فيما بعد».

ولم ينهض ونستون رغم مرور بضع دقائق أخرى. كان الظلام قد بدأ يسدل ستاره على الغرفة، فاستدار ناحية انبعاث الضوء وراح يحدق في الثقل الزجاجي. وما كان يثير لديه دهشة لا تنقطع ليس قطعة المرجان بل لب الزجاج الذي يحيط بها والذي كان يبدو شفافاً كالهواء رغم عمقه السحيق. وبدا كما لو أن سطح الزجاج قوساً سماوياً يضم عالماً صغيرًا بكل أجوائه. وانتابه شعور بأنه يمكنه أن يدلف إلى هذا العالم، بل إنه في الواقع موجود بداخله مع السرير الخشبي والطاولة المطوية والساعة والقضبان المحفورة والثقل الزجاجي ذاته. فالثقل بمثابة الغرفة التي تحتويه وقطعة المرجان هي حياة جوليا وحياته وهما مثبتتين بنوع من الروابط الأبدية في قلب البلور ذاته.

اختفى سايم. ففي ذات صباح تغيّب عن عمله، ولم يتساءل عن سبب اختفائه إلا بضعة أشخاص مغفلين. وفي اليوم التالي أصبح طي النسيان ولم يأت على ذكره أحد، وفي اليوم الثالث ذهب ونستون إلى قاعة قسم السجلات ليلقي نظرة على لوحة الإعلانات، وكانت إحداها تحمل لائحة بأسماء أعضاء لجنة الشطرنج التي كان سايم عضواً فيها، وبدت اللائحة كما كانت تبدو من قبل تماماً، إلا أنها نقصت اسما واحداً. وكان في ذلك دلالة كافية على أن سايم لم يعد له وجود، بل لم يكن له وجود من قبل على الإطلاق.

كان الطقس حارًا جدّاً، وفي الوزارة الأشبه بالمتاهة والمعدومة النوافذ كانت الغرف مكيفة الهواء تحتفظ بدرجة حرارة طبيعية، أما في الخارج فكان لهيب الحرارة على الأرصفة يشوي أقدام المارة كما كانت رائحة قطارات الأنفاق المزدحمة في ساعات الذروة تزكم الأنوف، وكانت الاستعدادات لأسبوع الكراهية تجري على قدم وساق، وموظفو كافة الوزارات يعملون ساعات إضافية، إذ كان يتعين عليهم تنظيم المواكب والاجتماعات والاستعراضات العسكرية والمحاضرات والتماثيل الشمعية والعروض السينمائية وبرامج شاشات الرصد، كما كانوا يعملون على نصب الحوامل للتماثيل وصُنع دمى لشخصيات معينة ونقش الشعارات وصياغة الأغاني وإطلاق الشائعات وتزييف الصور. ولذلك توقفت وحدة جوليا في قسم الخيال عن إنتاج الروايات من أجل الإسراع في إصدار سلسلة من المنشورات التي تصور الفظاعات التي يقترفها الأعداء. أما ونستون فكان، إضافة إلى عمله المعتاد، يصرف الساعات الطوال كل يوم في مراجعة ملفات الأعداد القديمة من صحيفة التايمز وذلك لتغيير أو تحريف فقرات إخبارية كان يتعين الاستشهاد بها فيما سيلقى من خطابات. في تلك الأيام كانت المدينة في حركة محمومة حيث تنزل الجموع المثيرة للشغب من العامة لتطوف في الشوارع في أوقات متأخرة من الليل، كلما كانت القذائف الصاروخية تتساقط على المدينة بمعدل يفوق أي وقت آخر، وكان دوي انفجارات هائلة يُسمع عن بعد دون أن يجد أحد تفسيراً له، الأمر الذي كان يسمح بتطاير شائعات لا معقولة حولها.

وكان اللحن الجديد لأغنية أسبوع الكراهية (وكانوا يطلقون عليها أغنية الكراهية) يبثّ عبر شاشات الرصد دون توقف. لحن كان في عمومه أبعد ما يكون عن الموسيقى بسبب ما كان يميزه من إيقاع وحشي يجعله أقرب إلى نباح الكلاب وأشبه بدق الطبول، كما كان يزرع الذعر في النفوس حينما تزأر به مئات الحناجر على وقع أقدام الجند وهي تضرب الأرض. أما العامة فقد أغرموا بها حتى أنها دخلت في المنافسة مع الأغنية القديمة التي كانت لا تزال تحظى لديهم بشعبية كبيرة والتي تقول «كان حلماً مقطوع الرجاء»، كما كان أطفال بارصون يعزفونها ليل نهار وبصورة لا تحتمل على أسنان مشط وقطعة من ورق الحمام. وهكذا أصبحت أمسيات ونستون أكثر ازدحاما بالمهام من أي وقت مضى، كما شُكلت فرق من المتطوعين يقودها بارصون كانت مهمتها هي إعداد الشوارع لاستقبال أسبوع الكراهية، فيحيكون الرايات ويرسمون الصور ويخطون اللافتات وينصبون صواري الأعلام فوق المنازل ويمدون الأسلاك عبر الشوارع، بشكل يعرضهم للخطر، لاستقبال المحتفلين من حَمَلَة الأعلام. وكان بارصون يباهي، وهو في أوج نشاطه وسعادته، بأن بنايات النصر وحدها ستعرض أربعمائة متر من قماش الرايات، كما بدا أن شدة الحرارة والعمل اليدوي قد أعطياه الذريعة للعودة إلى ارتداء السروال القصير والقميص المفتوح في المساء، كما غدا شعلة من النشاط والحركة إذ تراه دافعاً شيئاً وجارّا آخر، ناشراً أو طارقاً بمطرقة، يلاطف هذا ويمازح ذاك بطريقة رفاقية، ويقوم بما تمليه عليه المواقف. وهو في كل ذلك كان يطلق من كل طية من طيات جسمه ما بدا معيناً لا ينضب من عرق كريه الرائحة يزكم الأنوف.

وفجأة ظهرت ملصقة جديدة في كافة أرجاء لندن، لم تكن تحمل أي كتابات أو تسمية بل كانت تمثل صورة مخيفة لجندي أوراسي يراوح طوله ما بين ثلاثة إلى أربعة أمتار وهو يخطو إلى الأمام بوجه منغولي جامد الملامح منتعلاً حذاء ضخماً ومتأبطاً مدفعاً رشاشاً. ومن أي زاوية نظرت إلى الملصقة بدت فوهة المدفع على نحو أكبر وأقرب وهو يسددها ندوك مباشرة. ولم يُترك مكان خال على جدار في لندن إلا وعُلقت عليه هذه الملصقة حتى أنها فاقت صور الأخ الكبير عدداً، بل لقد كانت تدفع بالعامة الذين يقفون في العادة موقفاً لامبالياً من الحرب إلى الانخراط في نوبات من السعار الوطني. وانسجاماً مع هذه الأجواء كانت القذائف الصاروخية تتساقط مسببة في إزهاق الأرواح بأعداد أكثر من المعتاد، وحدث أن سقطت إحداها على قاعة سينما غاصة بروادها في حي «ستيبني» فدفنت مئات الضحايا تحت الأنقاض، فخرج جميع سكان الجوار للتشييع في جنازة ضخمة سارت لساعات طويلة وقد كانت في الحقيقة مسيرة غضب. كما سقطت قذيفة أخرى على قطعة أرض خربة كان يستخدمها الأطفال كملعب فمزّقت العشرات منهم إلى أشلاء. وكانت ثمة مظاهرات ساخطة تجوب الشوارع تُحرق فيها دمى تمثّل غولدشتاين وتُمزق المئات من الملصقات التي تصور الجندي الأوراسي ويقذف بها جميعاً لألسنة اللهب، ثم تنهب المتاجر أثناء أعمال الشغب التي تترافق مع المظاهرات. وسرت شائعة بعدئذ مفادها أن جواسيس كانوا يوجهون هذه القذائف الصاروخية عبر موجات لاسلكية، فقام المتظاهرون بإضرام النيران في أحد المنازل العائدة لزوجين عجوزين من أصل أجنبي كانت الشكوك قد ثارت حول ضلوعهما في ذلك فماتا اختناقاً بالدخان.

جوليا وونستون وكلما تسنى لهما بلوغ الغرفة الكائنة فوق حانوت السيد شارنغتون كانا يضطجعان جنباً إلى جنب فوق السرير المجرد من الأغطية تحت النافذة وهما عاريين جرّاء شدة الحرارة. وبالرغم من أن الجرذان لم تعاود الظهور فإن البق قد تكاثر على نحو مخيف بسبب الحرارة الشديدة، ولكن يبدو أن أياً من ذلك لم يكن ينتقص من سعادتهما، فقد كانا يعتبرانها جنة سواء أكانت قذرة أو نظيفة، وكانا بمجرد وصولهما إلى الغرفة يمطران كل شيء بوابل من الفلفل الذي ابتاعاه من السوق السوداء، ثم ينزعان ثيابهما ويمارسان الحب معا والعرق يتصبب من جسديهما حتى يستغرقا في نوم عميق، فإذا ما أفاقا وجدا البق وقد جمع صفوفه واحتشد لشن هجوم مضاد.

وقد بلغ عدد مثل هذه اللقاءات خلال شهر حزيران ما بين أربعة إلى سبعة. وفي هذه الأثناء كان ونستون قد أقلع عن عادة شرب الجن تماماً وكأنه لم يعد بحاجة إلى ذلك، كما غدا جسمه أكثر امتلاء ولم تعد دوالي ساقيه ظاهرة عدا بقعة بنية فوق كاحله، وزالت عنه نوبات السعال التي كاسا تنتابه كل صباح، كما لم يعد يرى الحياة حملاً ثقيلاً لا يطاق أو يشعر بالحاجة الماسة لأن ينظر بغضب نحو شاشة الرصد أو يطلق اللعنات بأعلى صوته. والآن وقد أصبح لديهما ملاذ آمن هو بمثابة المنزل لهما، فقد باتا لا يشعران بالضيق من كونهما لا يلتقيان إلا مرات قليلة ولا يمكثان معاً في كل مرة سوى ساعتين. إذ كان همّهما منصبّاً على أن الغرفة الكائنة فوق الحانوت ينبغي أن تظل موجودة وكان مجرّد أنها موجودة ولم تُنتهك حرمتها يشعرهما بارتياح يكاد يضاهي ذلك الذي يشعرانه حينما يكونان بداخلها، إذ كانت الغرفة تمثل لهما عالماً خاصاً كما باتت جيباً من جيوب الماضي تستطيع الحيوانات المنقرضة أن تسير فيه، وكان ونستون يرى في السيد شارنغتون حيواناً منقرضاً هو الآخر.

وقد اعتاد ونستون أن يتوقف، كلما هم بالصعود إلى الغرفة، لدقائق قليلة يتجاذب فيها أطراف الحديث مع السيد شارنغتون الذي كان نادراً ما يغادر حانوته ولا يأتيه إلا القليل من الزبائن، فقد كان يعيش حياة أشبه بحياة الأشباح تبدأ من ذلك الحانوت المعتم الضيق وتنتهي في المطبخ الخلفي الأشد ضيقاً حيث كان يعد فيه وجباته والذي كان يحتوي، من بين ما يحتوي، على مذياع قديم جداً (غرامافون) ذي بوق هائل. وكان ذلك العجوز يُسَرّ كلما سنحت له فرصة للحديث مع ونستون، وكان في تجواله بين متاعه عديم القيمة، بأنفه الطويل ونظارته الغليظة وكتفيه المقوستين في معطفه المخملي، يبدو كهاو لجمع التحف أكثر منه تاجراً. وبشيء من الحماس الفاتر كان يشير باصابعه إلى هذه القطعة من الخردة أو تلك - كسدادة قنينة من الصيني أو غطاء مطلي لعلبة سعوط مكسورة أو علبة مغلقة تحتوي على خصلة من شعر طفل مات منذ زمن طويل، وكل هذا دون أن يسأل ونستون إن كان لديه رغبة في شراء أي منها، فكل ما يطمح إليه هو أن تحوز إعجاب ونستون. أما الحديث معه فكان أشبه بالإصغاء إلى رنين صندوق موسيقي اهترأت أوتاره حيث كان يستحضر من زوايا ذاكرته بعضاً من القصائد المنسية، فكانت إحداها تدور حول أربعة وعشرين شحروراً وأخرى حول بقرة ذات قرن مكسور وثالثة عن موت الديك روبين المسكين. وكان كلما استذكر بعض المقاطع يقول بضحكة خافتة مستنكرة: لقد خطر لي أنك ربما تهتم بذلك، بيد أنه لم يكن يستطيع أن يتذكر أكثر من أبيات قلائل من كل قصيدة.

وكان ونستون وجوليا يدركان، وبطريقة لا تفارق بالهما، أن دوام حياتهما على هذه الحال أمر محال. وكانت تمر بهما أوقات يخيل إليهما غيها أن موتاً وشيكاً يحدق بهما تماما كالسرير الذي يرقدان فوقه، وحينذاك كانا يلتصقان أحدهما بالآخر وقد تملكتهما شهوانية يائسة مثل روح هالكة دنت لحظتها وتريد إشباع شهواتها وملذاتها قبل أن تدق ساعة هلاكها. وفي أوقات أخرى كانا يعيشان شعور أن حالهما هذه ليست آمنة فحسب وإنما أيضًا ذات ديمومة، كما كانا يشعران بأنهما ما داما في هذه الغرفة فلن يلحقهما أي مكروه. ومع أن الوصول إلى الغرفة كان شاقاً ومحفوفاً بالمخاطر إلا أنها كانت لهما حرماً آمناً. لقد كان ونستون ينتابه فيها شعور كذاك الذي ينتابه عندما يحدق في قلب الثقل الزجاجي، ويحس بأن في مقدوره الدخول إلى ذلك العالم الزجاجي وبأنه بمجرد أن يدلف إليه فإن بوسعه أن يوقف دوران الزمن. وكثيراً ما كانا يسلمان قيادهما لأحلام يقظة تدور حول إمكانية إفلاتهما من موت محتوم، فقد يظل الحظ حليفاً لهما إلى أجل غير منظور فيستطيعان مواصلة مؤامرتهما على هذا النحو في البقية الباقية من حياتهما الطبيعية، أو قد تموت كاترين ويفلحان، بمناورة بارعة، في الحصول على إذن بالزواج، أو قد ينتحران معاً، أو قد يتواريان عن العيون ويغيّران هيئتيهما بحيث لا يعرفهما أحد ويتعلمان الكلام بلهجة البروليتاريا ويحصلان على عمل في أحد المصانع ويعيشان ما بقي لهما من حياة في شارع خلفي بعيداً عن العيون. بيد أن كل تلك الأحلام كانت محض هرأء ولم يكن ذلك يغيب عن إدراكهما. ففي واقع الأمر لم يكن أمامهما من مهرب، فحتى الخطة الوحيدة القابلة للتطبيق، وهي انتحارهما، ما كان في نيتهما وضعها موضع التنفيذ. لقد كانت حياتهما من يوم إلى يوم ومن أسبوع إلى أسبوع، وهما يغزلان خيوط حاضر لا مستقبل له، تبدو أمراً غريزياً لا يمكنهما صده، تماماً مثلما تظل الرئتان تجذبان النفس تلو النفس ما دام الهواء موجوداً.

وفي أحيان أخرى، كانا يتحدثان عن الانخراط في ثورة حقيقية على سلطان الحزب ولكن دون أن يكون لديهما أدنى تصور عن الخطوة الأولى في ذلك السبيل. وحتى لو كانت حركة «الأخوة» الخرافية موجودة حقاً، فإن اختراق عالمها يظل عقبة كأداء، وقد تحدث ونستون إلى جوليا عن تلك الألفة الموجودة، أو التي يخيل إليه أنها موجودة، بينه وبين أوبراين، وعن ذلك الدافع الذي كان يراوده أحياناً في أن يلتقي أوبراين ويفصح له عما يكنّه من عداوة للحزب ويطلب منه العون في ذلك. ومن الغريب حقاً أن جوليا لم تكن تعتبر ذلك عملاً متهوراً يتعذر الإقدام عليه، إذ كانت اعتادت أن تحكم على الناس من سيماء وجوههم، ولذا بدا لها أن من الطبيعي أن يعتقد ونستون بأن أوبراين جدير بالثقة لمجرد ذلك التلاقي الذي حصل مرة بين شعاعي البصر لديهما. وفضلاً عن ذلك فقد كانت تعتقد اعتقاداً راسخاً بأن كل شخص تقريباً يضمر في قريرته نقمة على الحزب وأنه لن يتردد في خرق القواعد متى أَمِنَ عاقبة ذلك. ولكنها رفصت أن تؤمن بأن معارضة واسعة النطاق ومنظمة موجودة أو يمكن أن يكتب لها الوجود. إذ كانت ترى أن ما يُتداول من حكايات عن غولدشتاين وجيشه السري ما هي إلا خرافات اختلقها الحزب خدمة لأغراضه وعليك أن تتظاهر بأنك تؤمن بها. وفي مرات لا يحصى عددها كانت تجد نفسها في تجمّعات الحزب وفي تظاهراته العفوية، تهتف بأعلى صوتها مطالبة بضرورة إعدام أشخاص لم تكن قد سمعت بأسمائهم من قبل كما لم تكن تصدق أي من الجرائم المزعومة التي نسبت إليهم. وعندما تنعقد المحاكمات العلنية، كانت تأخذ مكانها بين مفارز اتحاد الشبيبة، التي تحيط بقاعات المحاكم منذ الصباح وحتى المساء، وهي تردد من حين لآخر «الموت للخونة». أما خلال دقيقتي الكراهية فكانت دائماً تبزّ رفيقاتها في كيل الإهانات وصب اللعنات على غولدشتاين مع انها لم يكن لديها أدنى فكرة عمن يكون غولدشتاين هذا أو عن معتقداته وما يمثّل. لقد أدركت الحياة في عهد الثورة، أما قبل الثورة فكانت صغيرة ولا يمكنها أن تتذكر شيئاً عن المعارك الأيديولوجية التي دارت رحاها في الخمسينات والستينات. وكان وجود شيء مثل الحركة السياسية المستقلة أمراً لا يمكن تصوّره وكانت تؤمن بأن الحزب قوة لا تقهر، وأنه سيظل قائماً كما هو أبد الدهر. وكل ما في استطاعة المرء فعله هو أن يتمرد عليه بالعصيان سراً أو على الأكثر بأعمال عنف متفرقة كقتل شخص أو نسف بناية ما. وكانت جوليا أَحَدُّ ذهناً من ونستون وأقل تأثراً بدعاية الحزب. فذات مرة، عندما عرّج في حديثه معها على الحرب ضد أوراسيا، هاله قولها بأنها تعتقد أنه لم يكن هنالك من حرب، وأن القذائف الصاروخية التي تتساقط يومياً فوق لندن ربما كانت تطلقها حكومة أوقيانيا بنفسها لا لشيء إلا «لإبقاء الشعب في حالة من الفزع»، وهذه فكرة لم تكن قد خطرت ببال ونستون إطلاقاً، كما أنها أثارت في نفسه شيئاً من الحسد عندما أخبرته بأن العقبة الكبرى التي كانت تواجهها خلال دقيقتي الكراهية هي تحاشي الضحك عالياً. وكانت تتشكك في تعاليم الحزب، خاصة حينما تمس هذه التعاليم بطريقة ما حياتها الخاصة، وقد كانت في غالب الأحوال على استعداد لقبول الأساطير المؤسسة للحزب وذلك لأن الفرق بين الحقيقة والزيف أمر لم يكن يهمها من بعيد أو قريب، فمثلاً كانت تصدق ما تعلمته في المدرسة من أن الحزب هو الذي اخترع الطائرات. أما ونستون فكين يذكر أنه في أيام دراسته في أواخر الخمسينات تعلّم أن الحزب اخترع طائرات الهليكوبتر فقط. ولكن بعد مرور اثني عشر عاماً، عندما كانت جوليا في المدرسة، ادّعى الحزب أنه اخترع الطائرة، ولا بد أنه بعد مرور جيل آخر سيدّعي اختراعه للمحرك البخاري. وعندما أخبرها أن الطائرات كانت موجودة قبل أن يولد، بل وقبل أن تقوم الثورة بوقت طويل، وجد أنها لا تعير هذه الحقائق انتباهاً، فمهما يكن، ما هي أهمية أن نعرف من الذي اخترع الطائرات؟ بل وراعته الصدمة أكثر حينما اكتشف من ملاحظة عابرة وردت في حديثها أنها لا تذكر أن أوقيانيا كانت في حرب ضد شرقاسيا وفي سلام مع أوراسيا منذ أربع سنوات. صحيح أنها كانت تعتبر مسألة الحرب برمتها ادعاء زائفاً، ولكن من الواضح أنها لم تنتبه إلى أن اسم العدو قد تغير، إذ قالت بغموض: «كنت أظن دائماً أننا في حرب مع أوراسيا». وقد أخافه ذلك. فاختراع الطائرات يعود إلى ما قبل مولدها بزمن طويل، ولكن التحول في الحرب لم يحدث إلا قبل أربعة أعوام أي بعد أن كانت قد نضجت ووعت الحياة. ودخلا في حجاج حول ذلك الموضوع زهاء ربع الساعة، وفي النهاية نجح ونستون في إرجاع ذاكرتها إلى الوراء حتى تذكرت على نحو غير واضح أنه في وقت من الأوقات كانت شرقاسيا لا أوراسيا هي العدو. ولكنها ظلت ترى أن هذه المسألة عديمة الأهمية. وقالت بصبر نافد: «وماذا يهم؟ إنها دائماً حرب دموية تتلوها حرب دموية أخرى، والكل يعرف أن هذا كلّه محض أكاذيب».

أحياناً كان يحدثها عن قسم السجلات وعن التزويرات الوقحة التي تتم. وقد أدهشه أن معرفتها بمثل هذه الأشياء لم تفزعها، ولم تكن تشعر بالهوة السحيقة والرّعب عندما علمت أن الاكاذيب هناك تتزيا بزي الحقائق. وقص عليها ما كان من أمر جونز وآرونسون ورازرفورد وقصاصة الورق الخطيرة التي حدث ووقعت بين يديه ذات مرة. إلا أنها لم تتأثر كثيراً بذلك، بل ولم تفطن في بداية الأمر إلى مغزى ما يورده من شواهد في القصة فسألته:

- هل كانوا أصدقاءك؟

- كلا، فأنا لم أعرفهم أبداً، لقد كانوا أعضاء في الحزب الداخلي، فضلاً عن أنهم كانوا أ;مبر مني سناً وكانوا من بقايا الأيام الغابرة التي سبقت الثورة، ولا أكاد أميزهم بالنظر.

- إذن ما الذي يقلقك؟ فالناس دائماً يلقون حتفهم ويُقتلون، أليس كذلك؟

حاول أن يجعلها تفهم استثنائية الوضع، وأن الأمر ليس مجرد قتل شخص، فسألها: «هل تعلمين أن الماضي، ابتداء من الأمس، قد تم محوه محواً تاماً؟ وحتى إذا كان له أي وجود فقد يكون في أشياء قليلة مصمتة لا كلمات عليها مثل ذلك الثقل الزجاجي. إننا نكاد لا نعرف شيئاً محدداً عن الثورة والسنوات التي سبقتها، فكل السجلات تم إتلافها أو تحريفها، وكل كتاب أعيدت كتابته، وكل صورة أعيد رسمها، واسم كل تمثال وشارع وبناية جرى استبداله، وكل تاريخ جرى تحريفه، وما زالت هذه العملية متواصلة يوماً بيوم ودقيقة بدقيقة. لقد وصلنا إلى نهاية التاريخ، وانتفت صفة الوجود عن كل شيء عدا الحاضر الذي لا نهاية له والذي ينطق بأن الحزب دائماً على حق. إنني أعلم بالطبع أن الماضي يزيف ولكن لن يكون بمستطاعي إطلاقا أن آتي ببرهان على ذلك حتى لو كنت أنا الذي قمت بالتزييف. فبمجرد الانتهاء من التزييف يجري إحراق كل دليل حي. والدليل الوحيد هو ذلك الذي يبقى داخل عقلي ولا أعرف يقيناً إن كان هنالك إنسان آخر يشاركني فيما أحمل في ذاكرتي أم لا. وطوال حياتي لم أعثر على دليل مادي وملموس إلا مرة واحدة وبعد أن كان الحدث قد مضى عليه سنوات».

- لكن وما النفع من ذلك؟

- لم يكن ذا نفع، لأنني ألقيت به في المحرقة بعد بضع دقائق. لكن لو أن ذلك حدث اليوم لكنت احتفظت به.

فقالت جوليا: «أما أنا فلم أكن لأحتفظ به! إنني على أتم الأهبة للمجازفة ولكن فقط من أجل شيء جدير بهذه المجازفة لا من أجل قصاصة من صحيفة قديمة. ماذا كان باستطاعتك أن تفعل لو أنك احتفظت بها؟»

أجاب قائلاً: «ربما لم أكن لأفعل الكثير، ولكنه كان دليلاً على أي حال، دليلاً قد يزرع بعض الشك هنا وهناك على افتراض أنني كنت سأتجرّأ على إطلاع البعض عليه. إنني لا أتخيل أنه سيكون بمقدورنا أن نغير أي شيء في حياتنا الراهنة، ولكن بوسع المرء أن يتخيل إمكانية ظهور جيوب صغيرة للمقاومة تظهر هنا وهناك، في شكل جماعات صغيرة من الأفراد يشد بعضها إزر بعض، وتأخذ في التكاثر تاركة وراءها ولو بضعة سجلات حتى يتسنى للجيل التالي أن يبدأ من حيث انتهينا».

فقالت: «إنني لمست مهتمة بالجيل التالي يا عزيزي. ما يهمني هو نحن».

فقال لها: «إنك ثائرة من خصرك فما دونه فحسب».

رأت في ذلك دعابة لطيفة منه فعانقته ضاحكة وهي في غاية البهجة.

لم تكن جوليا لتعير أدنى اهتمام لعقيدة الحزب وتفرعاتها. وحالما كان ونستون يبدأ الحديث عن مبادى الاشتراكية الإنجليزية والتفكير المزدوج وسيرورة الماضي وإنكار الواقع الموضوعي ولأخذ في استخدام كلمات من اللغة الجديدة، كان يبدو عليها الملل والارتباك وتقول إنها لم يسبق أن أبدت اهتماماً بمثل هذه الأمور. فالمرء يعلم أنها كلها محض سخافات، فعلام يقلق نفسه بها؟ كانت تعلم متى يجب عليها الهتاف ومتى يجب السباب، وذلك هو كل ما كان يحتاج إليه المرء. وإذا ما أصر ونستون على الحديث عن مثل هذه الموضوعات كانت تستسلم للنوم، فقد كانت من النوع الذي يستطيع أن ينام في أي ساعة وفي أي وضعية. ومن حديثه معها أدرك أنه من السهل أن يتظاهر المرء بالولاء للحزب وهو لا يدرك حتى معنى الولاء. وبطريقة ما، فرضت نظرة الحزب نفسها على أناس لا يقدرون حتى على فهمها، فجعلتهم يقبلون انتهاكاته الفاضحة للحقيقة لأنهم لم يستطيعوا أبداً أن يفهموا ذلك، كما أنهم لم يكونوا يبدون القدر الكافي من الاهتمام بما يحدث حتى يمكنهم فهم التزوير لوقائع الحياة. ولقد كان لافتقادهم للفهم فضل في جعلهم بمأمن من الجنون. لقد كانوا ببساطة يبتلعون كل شيء ولم يكن ما يبتلعونه ليصيبهم بأي أذى لأنه لا يترك أي رواسب، بل يمر كما تمر حبة القمح في جوف طائر دون أن يهضمها.



(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent