خبر
أخبار ملهلبة

الفصل الثالث | سفاح كرموز (3)


مراكب بضاعة ترسو على أرصفة ميناء الأسكندرية زمان وتظهر عربات الكاو ذات الأحصنة تنقل  البضائع


الفصل الثالث | سفاح كرموز (3) 

 

 

ولم يُطِق "سعد" صبراً أكثر من ذلك بعد أن ضاق عليه الخناق وأخذ ما معه من نقود في سلوك منحنى النقصان، وراح يبحث عن ضحيّةٍ جديدة فوجد ضالته في "حسبو عبد النبي" تاجر الأقمشة الذي تعرّف عليه في أحد المزادات التي يباع فيها القماش المستورد، وجذب "حسبو" انتباه "سعد" عندما رسى على الأوّل مزاد أحد اللوتّات (الأصناف) فأخرج من محفظته مئات الجنيهات ليدفع ثمن ما اشتراه فأدرك "سعد" مدى ثراء الرجل وانتوى أن يكون فريسته القادمة فحاول التقرّب منه وأخذ يتجاذب معه أطراف الحديث :

- سيجارة؟

- تّشكر يا ذوق.

- إتفضّل ولّع .. أحب اعرّفك بنفسي .. أنا "سعد اسكندر" تاجر قماش.

- وانا محسوبك "حسبو عبد النبي" .. باتاجر ف كل حاجة.

- أنعم وأكرم .. بس انا شايف قلبك جامد ف المزاد .. ده انت دفعت مبلغ كبير.

- وما له .. ما هوَّ الحرير الصيني دايماً غالي كده .. بس له زبونه.

- ربنا يوفّقك .. بس حضرتك منين؟

- أساساً أساساً أنا من "مصر" بس واحدة قريبتي جابتني "اسكندريّة" من مُدّة .. أكل العيش بقى.

- ربنا يرزق الجميع .. بس انا كنت عايزك تشرّفني ف الشونة بتاعتي .. علشان تحصل البركة .. وبالمرّة تشوف البضاعة بتاعتي يمكن تعجبك.

- عندك صوف انجليزي؟

- طبعاً من أفخر وأجود الأصناف .. عندي صوف "المارينو" الانجليزي .. وعندي كمان صوف من "كشمير".

- لأ .. الكشميري مش مطلوب مني .. أنا ح اجي لك اعاين "المارينو".

- اتفقنا .. ح استنّاك ف الشونة بتاعتي الليلة دي بعد العِشا.

- والشونة بتاعتك دي فين؟

- إنت عارف "كرموز"؟

- آه.

- أوّل ما تنزل من معديّة "كرموز" ف الجنب القبلي ح تاخد شمال وتمشـ... .. ولّا اقول لك .. ممكن ما تعرفش مكانها وتقعد تسأل الناس وتفضحني .. احنا نتقابل هنا ف "الجمرك" .. ف مخزن "منه فيه" .. عند باب "اربعتاشر" أحسن.

- أفضحك ليه؟ .. ربنا ما يجيب فضايح!

- آآ .. لأ .. مش قصدي .. آآآآ .. أصلي ما باحبّش العيون تُنضُر الحسنة اللي بتطلع لي م التجارة .. إنت عارف العين وِحشة ومش عايز حد يعرف عن شُغلي حاجة .. زي ما بتقولوا كده يا مسلمين : العين فلقت الحجر.

- عندك حق .. ورسولنا الكريم كمان بيقول : واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.

- الله ينوّر .. يبقى استبينا.

 

وفي الموعد والمكان المحدّديْن تقابل التاجران ثم استقلّا عربة حنطور حتى باب شونة "سعد" الذي صرف الحوذي (العربجي) بعد أن أجزل له في العطاء ثمّ اصطحب "حسبو" داخل المخزن وأجلسه على كرسي خشبي وضعه فوق قطعتيْ القماش والجِلد المعهودتيْن فقد أعدَّ كل شيءٍ سلفاً ثمّ عرض عليه عيّنةً من صوف "المارينو" الانجليزي ليفحصها ثم تركه بحجّة إعداد الشاي، وذهب "سعد" فأشعل موْقِد الكيروسين ووضع فوقه الإناء النحاسي الذي يسخّن فيه الماء الذي يستخدمه فيما بعد لتنظيف آثار دماء الضحيّة من على الساطور والأثاث وقطعة الجلد المفروشة تحت القماش، ثم توجّه لمكتبه وفتح الجارور (الدُرج) وأخرج منه الجريدة التي تحوي الساطور ثم استدار خلف "حسبو" وأخرج الساطور ورفعه في الهواء وقبل أن يحُط به فوق رأس ضحيّته قال "حسبو" فجأة وهو يحدق في عيّنة الصوف دون أن يلمح مضيفه :

- العيّنة ممتازة .. ممكن اخدها اورّيها لمعلّمي؟

 

فأحجم "سعد" بسرعة عن إكمال ما بدأ وتجمّد في مكانه وتوقّف الساطور في يده قبل شبرٍ من رأس ضحيّته وتساءل في استنكار وهو يعيد الساطور إلى الجريدة ويُكمِل طريقه ليجلس على المقعد المقابل "لحسبو" :

- معلّمك!

- آه .. الحاج "قويدر" .. معلّمي.

- (مكرِراً وكأنه لا يصدّق) معلّمك!

- أيوه يا عم .. ما لك مستغرب كده؟

- (بصوتٍ عال) ده انا اللي ح اعلّمك علامة تفتكرني بيها العمر كله .. قوم ياد من هنا.

- الله! .. ما لك يا مقدّس "سعد" .. اتغيّرت فجأة كده ليه؟ .. أنا صدر مني حاجة لا سمح الله؟

- ده انا كنت فاكرك معلّم ومتنغنغ .. طلعت حتّة صبي لا راح ولا جا.

- يا سيدي هوَّ انا قلت لك إني معلّم .. أنا كومسيونجي على باب الله.

- نعم يا اخويا! .. أومّال لوط الحرير اللي رسي عليك ف المزاد ده إيه؟ .. والفلوس المتلتلة اللي طلّعتها من محفظتك دي إيه؟

- مش فلوسي يا سي "سعد" .. دي فلوس الحاج "قويدر" .. أصله كان مكلّفني اشتري له الحرير ف حدود المبلغ ده .. وادّاني الفلوس وبعتني المزاد علشان هوَّ مش فاضي .. وبعد ما دفعت تمن البضاعة واستلمتها رُحت وصلتها له واخدت عرقي .. وأي حد يقصدني ف أيتها حاجة باستقضيها له.

- ده انت كمان طلعت مشاويرجي معفّن.

- الله يسامحك يا معلّم "سعد" .. عموماً الشُغل الحلال مش عيب .. متشكّرين يا ذوق .. سلامُ عليكم.

- يا عم اتنيّل اقعد .. إنت كمان ح تتقمص .. مش كفاية الخازوق اللي كنت ح اخده .. ده انا كنت ح احفر واشيل واحط وامسح وانضّف لغاية ما ضهري يتقطم .. وكل ده على فشوش.

- خازوق إيه يا عم؟ .. وحفر إيه؟ .. أنا مش فاهم حاجة.

- أحسن .. خلّيك كده .. تور الله ف برسيمه.

- شكلك كده جايبني تتسلّى عليّ .. أنا امشي بكرامتي احسن.

- يا عم اقعد خلاص .. ده احنا طلعنا ف الهوا سوا .. أنا كنت فاكرك يا ما هِنا يا ما هناك .. طلعت مفلّس زي حالاتي.

- مفلّس! .. أومّال الشونة دي إيه؟ .. والقماشات اللي مالية الدنيا دي إيه؟

- الشونة إيجار .. والبضاعة دي كلها بالآجل .. شُكُك يعني .. أصلي بقى لي شهر ما اشتغلتش .. وكنت ناوي استفتح بيك الليلة دي .. هههههه.

- تستفتح بيّ! .. ياعم ما تقول لي ع اللي فيها بصراحة .. بلاش ألغاز.

- طب اقعد بس واستهدى بالله على بال ما اصب كوبّايتين الشاي .. زمان الميّة سخنت .. لهلبت .. هأو أو أو.

google-playkhamsatmostaqltradent