ثم لم يبقَ أحد | الفصل الأوّل
جلس القاضي "وارغريف" - الذي تقاعد من القضاء مؤخَّراً - على
مقعده في عربة المدخّنين في الدرجة الأولى يدخّن لفافةً ويقرأ باهتمامٍ الأخبار
السياسية في جريدة التايمز، ثم وضع الصحيفة جانباً وأخذ ينظر من النافذة، كانوا
يعبرون منطقة "سومرست" في تلك اللحظة، ونظر إلى ساعته فوجد أن بينه وبين
الوصول ساعتين.
استعرض في ذهنه كل
ما ظهر في الصحف حول "جزيرة الجنود"، في البداية ظهرت أخبار شرائها من
قِبَل مليونير أمريكي مولعٌ باليخوت، ثم ذلك التحقيق عن البيت الفاخر حديث الطراز
الذي بناه في تلك الجزيرة الصغيرة المواجهة لساحل "ديفون"، ثم الحقيقة
المؤسفة بأن الزوْجة الثالثة الجديدة للمليونير الأمريكي لم تكُن بحّارةً ماهرة
ممّا أدّى إلى عرض البيت والجزيرة للبيع، فظهرت إعلاناتٌ برّاقةٌ متنوعةٌ عنها في
الصحف، ثم جاءت أولى التصريحات المقتضَبة بأنها قد بيعت للسيد "أوين"،
وبعد ذلك بدأت الإشاعات الصحفية: لقد اشتُريَت "جزيرة الجنود" بالفعل
بواسطة نجمة أفلام "هوليوود" الآنسة "غابرييل تيرل" لقضاء بعض
الشهور هناك بعيداً عن الأضواء، وألمحت إحدى الصحف إلى أنها ستصبح منزلاً للعائلة
المالكة، وقال أحد الصحفيين أنه أُسِرّ إليه بأنّها اشتُريَت لقضاء شهر عسل؛
فاللورد الشاب "ل" قرر الزواج أخيراً، في حين أكّد صحفيٌ آخر علمه
يقيناً بأنها قد اشتُريَت من قِبَل سلاح البحريّة بغرض إجراء بعض التجارِب شديدة
السرّية فيها .. "جزيرة الجنود" كانت محلَّ اهتمام الصُحُف بالتأكيد.
أخرج
القاضي "وارغريف" من جيْبه رسالةً كانت مكتوبةً بخطٍ غير مقروءٍ عمليّاً،
ولكن بعض الكلمات هنا وهناك كانت واضحةً بصورةٍ غير مُتوقَّعة، فقرأ فيها:
{{{ العزيز "لورنس"
..
مضت سنواتٌ دون أن أسمع منك شيئاً، يجب أن
تأتي إلى "جزيرة الجنود" فهي مكانٌ ساحرٌ للغاية، ولدينا الكثير لنتحدث
عنه: الأيام الخوالي، التواصل مع الطبيعة، الاستمتاع بالشمس .. اركب قطار الواحدة
إلّا ثلثاً من محطّة "بادنغتون"، سأقابلك في "أوكبريدج".
ووقَّعت
المُرسِلة بخطٍّ مزخرَفٍ: المخلصة إلى الأبد: "كونستانس كلمنغتون".}}}
عاد القاضي "وارغريف" بتفكيره
ليتذكّر على وجه الدِقّة المرّةَ الأخيرةَ التي رأى فيها الليدي "كونستانس
كلمنغتون"، لا بُدّ أن ذلك كان قبل سبع ..... لا .. بل ثماني سنوات، وكانت
وقتها في رحلةٍ إلى "إيطاليا" للاستمتاع بالشمس والتواصل مع الطبيعة، ثم
عَلِم فيما بعد أنها سافرت من هناك إلى "سوريا" حيث رأت أن تسترخي تحت
أشعة شمسٍ أقوى وتتمتّع بالتواصل مع الطبيعة والبدو.
وخطر له أن "كونستانس كلمنغتون"
كانت تماماً من ذلك النوْع من النساء اللاتي قد يشترين جزيرةً ويُحِطن أنفسهنَّ
بالغموض، وإذ ارتاح القاضي "وارغريف" لهذا المنطق سمح لرأسه بالانحناء
فوق صدره ثم نام.
في عربةٍ بالدرجة الثالثة ألقت "فيرا
كلايثورن" برأسها إلى الخلف وأغمضت عيْنيْها، وكان في العربة خمسة ركّابٍ
آخرين، كان لطيفاً أن يذهب
المرء إلى البحر في ذلك الجو الحار ذلك اليوم، لقد كانت
محظوظةً حقّاً بالحصول على هذه الوظيفة، فمن الشائع عند البحث عن وظيفةٍ في
المَصيف أن ذلك يعني دائماً العناية بمجموعةٍ من الأطفال، أمّا وظائف السكرتارية
فكان من الصعب العثور عليها، حتى وكالة التوْظيف لم تكُن تأملُ كثيراً بذلك، ثم
جاءتها رسالةٌ كان فيها:
{{{تلقّيْتُ اسمكِ عن طريق وكالة "النساء
الماهرات" مع توصيةٍ بك، وحسبما فهمت فهُم يعرفونك شخصيّاً، يسرُّني أن أخبركِ
بأنني سأدفع لك الراتب الذي طلبتِه، وأتوقّع منكِ مباشرةً العمل يوم ٨ آب (أغسطس).
يمكنك أخذ قطار الساعة الواحدة إلا الثُلُث
من "بادنغتون"، وسوف تجدين مَن يستقبلكِ في محطة "أوكبريدج"،
وأُرفق طيّه خمسةَ أوراقٍ نقديّة من فئة الجنيه لمصروفاتِك.
المخلصة:
"أونا نانسي أوين".}}}
وفي أعلى الرسالةِ كان العُنوان مختوماً: "جزيرة
الجنود" – "ستيكلهيفن" – "ديفون".
"جزيرة الجنود"!!! .. عجيبٌ أنّ
الصُحُف لم تذكر سواها مؤخِّراً، وكانت حافلةً بكل التلميحات والإشاعات المثيرة
للفضول مع أنها لم تكُن صحيحةً على الأرجح، ولكن المنزل بناه مليونيرٌ بالتأكيد فقد
قيل إنه كان غاية في الفخامة.
" فيرا
كلايثورن" التي كانت قد قضت لتوِّها موسماً دراسيّاً شاقّاً في المدرسة، قالت
بينها وبين نفسِها: "إنه لأمرٌ تافهٌ أن أكون معلّمة تربيةٍ رياضيّة في مدرسةٍ
من الدرجة الثالثة .. ليْتني أستطيع الحصول على وظيفةٍ في مدرسةٍ محترمة"، ثم
فكّرت وقد غمرها شعور بالسكينة: "ولكني محظوظةً بهذه الوظيفة على أيّة حال،
فالناس لا يحبّون التحقيقات الجنائيّة حتى لو أن المحقّق أبرأني من كل تهمة"،
بل لقد تذكّرَت أن المحقّق أثنى عليها لشجاعتها وحضور ذهنها، فلم يكُن ممكناً أن
يجرى تحقيقٌ على نحوٍ أفضلَ من ذلك، كما أن السيّدة "هاملتون" كانت اللُطف
بذاته معها، فقط "هوغو" ... ولكنها
لا تريد التفكير بـ"هوغو".
وفجأة
أخذّتْ ترتعش رغم حرارة العربة، وتمنّت لو لم تكُن ذاهبةً إلى البحر، فقد برزت في
مخيّلتها صورةٌ واضحة: رأس "سيريل" يعلو ويهبط سابحاً نحو الصخرة .. أعلى
وأسفل.. أعلى وأسفل، وهي تسبحُ برشاقةٍ خلفه شاقّةً طريقها وسط الماء مع علمها
الأكيد أنها لن تصل في الوقت المناسب، كما تخيّلت البحر بمياهه الزرقاء العميقة
الدافئة والاستلقاء على الرمال ساعات الصباح، و"هوغو" .. "هوغو"
الذي قال إنه يحبها .. ولكنها يجب أن لا تفكّر بـ"هوغو".
فتحت عيْنيْها
وقطّبت جبينَها حين وقعت عيْناها على الرجل المقابل لها، كان رجلاً طويلاً قمحي
الوجه ذا عيْنيْن باهتتيْن متقاربتيْن وفمٍ متعجرفٍ يصل إلى حد القسوة، فقالت
لنفسها: "يبدو أنه زار مناطقَ مثيرةً في العالم وشاهد أشياءً مدهشة!"
ألقى "فيليب لومبارد" نظرةً خاطفةً
على الفتاة الجالسة أمامه مُكوِّناً عنها انطباعاً سريعاً، وفكّر قائلاً لنفسه: "إنها
فتاةٌ جذّابة .. ربما كانت معلّمة، ويبدو أنها ذات شخصيةٍ هادئةٍ من النوْع الذي يُحافِظُ
على تماسكه في الحُب أو في الحرب"، ثم قطّب
مُفكِّراً وعاد يقول لنفسه: "دعْكَ منها، أنت في عمل ولا بُدّ من التركيز على
المَهمّة"، ثم تساءل: "ما
هذا الموْضوع بالضبط؟!"
لقد كان ذلك المُرابي الضئيل غامضاً تماماً
حين قال: "كابتن "لومبارد" .. إما أن تقبل أو ترفض"، فقال "لومبارد" وهو مُستغرقٌ في
التفكير: "مائة جنيه؟! .. حسناً"، قالها "لومبارد"
بلا مبالاة كأنما مبلغ مائة جنيهٍ لم يكُن شيْئاً بالنسبة له، مائة جنيهٍ في الوقت
الذي كان لا يملك فيه سوى ثمن وجبته الأخيرة، إلّا أنه شعرَ بأن ذلك الرجلَ الضئيلَ
لم يُخدَع، كانت هذه هي الخاصيّةَ اللعينةَ لهذا النوْعِ من الناس؛ ليس بوسعِكَ
خداعُهم في مسألةٍ تتعلّقُ بالمال فهم يعرفون كل ما يتعلّق به.
قال له "لومبارد"
باللهجة اللا مبالية نفسها: "هل تستطيعُ تزويدي بأيِّ معلوماتٍ أخرى؟"،
هزَّ السيّد "إيزاك موريس" رأسَه الأصلع الصغير قائلاً: "لا يا
كابتن "لومبارد" .. المسألة استقرّت على هذا النحو، موكّلي يعتقد أنك
رجلٌ ذو سُمعةٍ محترَمةٍ وفي وضع حرِج، وأنا مخوَّلٌ بتسليمك مائة جنيهٍ مُقابل أن
تسافرَ إلى "ستيكلهيفن" في مقاطعة "ديفون" وأقرب محطّة قطارٍ
هي "أوكبريدج"، وهناك ستجد مَن يُقابلك ويُقلّك بالسيّارة إلى "ستيكلهيفن"،
وفيها ستجد قارباً آليّاً ينقلك إلى "جزيرة الجنود"، وهناك يتعيّنُ عليْكَ
أن تضع نفسكَ تحت تصرُّفِ موكِّلي".
قال "لومبارد"
فجأة: لأيّ مُدّةٍ من الزمن؟"
"لمُدّةٍ لا تزيدُ عن أسبوعٍ على أبعد
تقدير".
قال "لومبارد" وهو يمرّرُ أصابعه
على شواربه الصغيرة: "هل تُدرِكُ أنّي لا أستطيع التعهُّد بأيِّ شيءٍ غير
قانوني؟ .. قال ذلك وهو يُلقي نظرةً حادّةً على الرجل الآخر، وافترّت شفتا السيد “موريس”
الغليظتان عن ابتسامةٍ باهتةٍ للغاية وقال بهدوء: " إذا طُرح
عليْك أيَّ اقتراحٍ حوْل أمرٍ غيْر قانوني فلكَ مُطلَقُ الحريّةِ في الانسحاب".
سُحقاً لهذا الحيوان الضئيل الماكر! .. يبتسم
وكأنما يعرفُ جيّداً أن القانونَ لم يكُن مسألةً ذات شأنٍ في سلوكيّات "لومبارد"
الماضية، وافترّت شفتا "لومبارد"
عن ابتسامةٍ حانقة؛ لقد خاطر مرّةً أو اثنتيْن ولكنه كان يخرُجُ سالماً دائماً،
ولم يواجه الكثيرَ من الخطوطِ الحمراء التي رسمها لنفسه حقّاً، نعم .. لم يواجه
خطوطاً حمراءَ كثيرةً يقفُ عندها، وخُيّل إليه أنه سيستمتع بإقامته في "جزيرة
الجنود".
جلست الآنسة "إميلي برنت" في عربة
غيْرِ المُدخِّنين في جلستها المنتصبة المعتادة، كانت عانساً في الخامسة والستين
ولم تكُن تقبل بالاسترخاء أو الميوعة، فقد كان والدها (وهو كولونيل من الجيل
القديم) يهتمُّ بشكلٍ خاصٍّ بالسلوكِ واللباقة، أمّا أبناءُ الجيلِ الحالي فلا
يبالون بسلوكهم أو بأيّ شيءٍ آخر.
وهكذا
جلسَت الأنسة "برنت" في عربةٍ مُكتظّةٍ في الدرجة الثالثة غير مباليةٍ
بقِلّة الراحة أو بالحرارة، تُحيطُ بها هالةٌ من الاستقامة والالتزام المطلَق
بالمبادئ، كل الناس يتذمّرون من كل شيءٍ في هذه الأيّام، يُريدون مُخدِّراً قبل
خلعِ أضراسهم، ويأخذون حبوباً منوِّمةً إذا لم يستطيعوا النوْم، ويريدون مقاعدَ
وثيرةً ووسائد، أمّا البنات فيمشين سافراتٍ خليعاتٍ كيفما اتُّفِق ويستلقين في
الصيْف على الشواطئ بلا خجل.
زمّت
الأنسة "برنت" شفتيْها، كان بودِّها أن تجعلَ بعضهم عبرةً للآخرين،
وتذكّرَت عُطلة صيْف العامِ الماضي، لكن هذه السنة ستكون مختلفةً تماماً، ستكونُ
في "جزيرة الجنود"، واستعادت بذهنها قراءة الرسالةِ التي قرأتْها عِدّةَ
مرّاتٍ من قبل:
{{{عزيزتي الآنسة "برنت": آملُ أن
تتذكّريني، لقد كنّا معاً في نُزُل "بيلهافن" في شهر آب (أغسطس) قبل بضعِ
سنوات، وكان يبدو أن لديْنا الكثيرَ من الاهتمامات المشتركة.
لقد افتتحتُ نُزُلاً اشتريْتُه على جزيرةٍ
قبالة ساحل "ديفون"، واعتقد أن مكاناً تتوفّرُ فيه وجباتٌ تقليديّةٌ
جيّدة وشخصٌ طيّبٌ من الطِراز القديم سيكون مكاناً مرغوباً، ولن تُزعِجنا الموسيقى
الصاخبة التي تنطلق في جوْف الليْل.
سأكونُ في غايةِ السعادةِ لو جِثتِ لقضاء
إجازةِ الصيْف في "جزيرة الجنود" مجاناً وفي ضيافتي.
هل يُناسِبُكِ أوائلُ آب (أغسطس)؟ .. فليكُن
الثامنُ منه.
المُخلِصة:
"أ. ن. أ."}}}
وتساءلت "إميلي
برنت" بصبرٍ نافدٍ بيْنها وبيْن نفسِها: "ما هذا الاسم؟"، كان من
الصعب معرفتُه من خِلال الأحرُف التي وُقِّع بها، كم من الناس مَن يوقِّعون أسماءَهم
بطريقةٍ غيْر مفهومةٍ أبداً!
وسمحت
لخيالها بالعوْدةِ إلى الوراء لاستعراض الأشخاص الذين التقت بهم في "بيلهافن"،
كانت هناك خلال صيْفيْن مُتتالييْن، وكانت هناك تلك العانسُ الطيّبةُ متوسِّطة العُمْر:
الآنسة ... الآنسة ... ماذا كان اسمُها؟،
والدُها كان كاهناً، وكانت هناك سيّدة اسمُها "أولتن"؟ ... "أولمن"؟
... لا .. بالتأكيد أوليفر" ... أجل "أوليفر".
"جزيرة
الجنود"؟! .. كان في الصحيفة شيءٌ حوْل "جزيرة الجنود"، شيءٌ عن نَجمةٍ
سينمائيّةٍ أو ربما كان عن مليونيرٍ أمريكي، طبعاً .. أماكن كهذه تُباع رخيصةً
غالباً، إن الجُزُر لا تُناسِب كلَّ الناس، فهم يعتقدون أنها رومانسيّة ولكن إذا
جاؤوا للعيْش فيها فإنهم يكتشفون مساوئها ولا تكادُ تسعهم السعادةُ عند بيْعِها.
قالت "إميلي
برنت" لنفسها: "ولكني سأقضي إجازةً مجّانيّةً على أيّة حال"، كان ذلك شيئاً لا بُدّ من أخذه في الاعتبار
في ضوْء الانخفاضِ الكبيرِ في دخلها والكثيرِ من العوائد التي لم تُدفَع، فقط تمنَّتْ
لو أنها تستطيعُ أن تتذكّرَ المزيدَ عن السيّدة أو الآنسة "أوليفر".
نظر الجنرال "ماك آرثر" من نافذة
العربة، وكان القطار يدخل محطّة "إكستر" حيثُ سيغيّرُ إلى قطارٍ آخر، سُحقاً
لقطارات الخطوط الفرعيّة هذه!، ذلك المكان – "جزيرة الجنود" – ليس
بعيداً أبداً لو استطاع الذهابَ إليه في خطٍ مستقيمٍ كما تطير الغربان!
لم يكُن
قد اتضح له مَن هذا الشخص "أوين"؟، يبدو أنه صديق "سبوف ليغارد"
أو "جوني داير"، تذكّر تلك الجملة: "..... سيأتي واحدٌ أو اثنان من
رفاقك القدماء للتحدُّث عن الأيّام الخوالي"، حسناً .. سيكون التحدُّث عن
الأيّام الخوالي مُمتِعاً، لقد خُيّل إليه مؤخَّراً أن الرفاق يتجنّبونه، وكل ذلك
بسبب تلك الإشاعة اللعينة، كم كان ذلك قاسياً!، لقد مرَّ على ذلك ثلاثون عاماً، هل
تكلّم "أرمتياج"؟، ما الذي يعرفه ذلك الجرو الصغير الملعون؟، على أيّةِ
حالٍ ما جدوى استرجاع هذه الأمور الآن؟، أحياناً تخطر للمرءِ أشياءٌ غريبة، يخطر
لك أن أحدَهم ينظر إليك بشكلٍ مريب.
سيكون من
الممتع له أن يُشاهِد "جزيرة الجنود" هذه، لقد سمع الكثيرَ من الحديثِ
حوْلها، ويبدو أن في الأمر شيئاً من الصحّةِ في الإشاعة حوْل امتلاكِها من قِبَلِ
سلاحِ البحريّةِ أو وزارة الدِفاعِ أو سلاحِ الجوْ، الواقع أن المليونير الأمريكي
الشابّ "إلمر روبسون" قد أقام المبنى في ذلك المكان وأنفق عليه الآلاف
كما يُقال وجهّزه بكل وسائل الرفاهية.
وصل " إكستر"
وسينتظر لمدّةِ ساعة، ولكنه لا يريدُ الانتظارَ بل يودُّ لو يستمر في السفر.
كان الدكتور "آرمسترونغ" يقودُ سيّارته
"الموريس" عبر سهل "سالزبوري" وهو مُتعبٌ جِداً، فالنجاح له
ضريبته، لقد مرّت أوقاتٌ جلس فيها في عيادته في شارع "هارلي" بكامل هِندامه
مُحاطاً بأحدثِ المُعِدّاتِ وأفخرِ الأثاث ينتظرُ وينتظر، ومرّت الأيّام خاويةً
وهو ينتظر لمشروعه أن ينجح أو يفشل.
حسناً .. لقد نجح، وقد كان محظوظاً وماهراً
بالطبع، كان ماهراً في عمله، ولكن ذلك لم يكُن كافياً للنجاح، فلا بُدَّ أن يكونَ
لديْك حظٌ أيضاً، وقد كان لديْه الحظ: تشخيصٌ دقيق، مريضتان ممتنّتان، امرأتان
ذواتا مالٍ ومكانةٍ مرموقة، ثم انتشرت سمعته:
"..... عليكِ أن تجرّبي "آرمسترونغ"؛ إنه شابٌّ صغيرٌ ولكنه حاذقٌ
للغاية، لقد جرّبَتْ "بام" كل الأطباءِ من قبلِ لسنواتٍ عِدّة، ولكنه
وحده عرف مرضها في الحال ....."، وهكذا بدأت كرة الثلج تتدحرج.
لقد نجح
الدكتور "أرمسترونغ" بالتأكيد، أصبحَت أيّامه الآن مشغولةً تماماً ولم
يعد لديْه وقتٌ للاسترخاء، ولهذا فقد كان سعيداً في صباح ذلك اليوم من شهر آب
(أغسطس) وهو يُغادِرُ "لندن" لقضاء بِضعة أيّامٍ في جزيرةٍ قبالة ساحل "ديفون"،
لم تكُن عطلةً تماماً فقد كانت الرسالة التي تلقّاها غامضة العِبارات، مع أن الشيكَ
المُرفَق بالرسالة لم يكُن فيه أيَّ غموض، لقد كان مبلغاً مُجزياً؛ لا بُدَّ أن
عائلة "أوين" هذه من المُتخَّمين بالمال.
بدت المسألةُ كأنها مُشكلةٌ صغيرةٌ تتعلَّقُ
بزوْجٍ قلقٍ على صحّة زوْجته ويريدُ تقريراً عنها دون إثارة انتباهها، فهي لا تتقبّل
فكرة عرضها على طبيبٍ لأن أعصابها لا ..... ارتفع
حاجباه بدهشة، أعصابها؟! .. يا لهؤلاء النسوة وأعصابهن!، حسناً .. كان ذلك مُلائماً لعمله على أيّة حال، فنِصف
النساء اللاتي كُنّ يزُرن عيادته لم تكن لديهنّ مشكلةٌ سوى الملل، ولكنهنّ لا يسعدن
إن أخبرتهن بذلك، وفي العادة كان باستطاعته أن يجد لديهن شيئاً ما فكان يقول: عندِك
اضطرابٌ خفيفٌ في ..... (يختار كلمةً ما طويلة)، ليس بالأمر شيءٌ خطير، فقط
تحتاجين إلى بعض العناية مع علاجٍ بسيط".
إن
العلاج يعتمد على الطبيب في الواقع، والدكتور "آرمسترونغ" كان رجلاً
ودوداً يستطيع بثَّ الأملِ والثقةِ في نفوس مرضاه. لقد كان من حسن حظه أن استطاع
السيطرةَ على نفسه في الوقتِ المناسبِ بعد تلك القضية التي حدثت قبل عشرة أعوام ...
لا .. بل قبل خمسة عشر عاماً، وكادت أن تكون كارثة!، كاد أن ينهار ولكن الصدمة جعلته
يتماسك، لقد أقلع عن الشراب تماماً، ومع ذلك فقد كادت أن تكون كارثة!، في تلك
اللحظة عبرت سيّارةٌ رياضيّةٌ ضخمة من نوع "سوبر سبورت" من جانبه بسرعة
ثمانين ميلاً في الساعة مُطلقةً بوقاً يصمّ الآذان، الأمر الذي جعل الدكتور "آرمسترونغ"
يكادُ يصطدمُ بالأشجار على جانب الطريق، لا بُدَّ أنه أحد هؤلاء الشُبّان الطائشين
الذين يقودون سياراتهم بتهوّر، كم يكرههم!، كادت أن تلحقه كارثة. سُحُقاً لذلك
الشابِّ الطائش.
راح "توني مارستون" يفكِّر بينه
وبين نفسه أثناء ما كان يقودُ سيّارته في "مير": "كل هذه السيّارات
تزحف في الشوارع ببطء .. إنه لأمرٌ فظيع؛ دائماً يقودون سيّاراتهم وسط الطريق
معترضين طريقك، إن قيادة السيّارات في "إنكلترا" حالةٌ ميْؤوسٌ منها على
أيةٍ حال، بعكس "فرنسا" حيث يكون بوسع المرء أن ينطلقَ انطلاقاً سريعاً".
هل ينبغي
له أن يتوقَّف هُنا ليشربَ شيئاً أم يواصِل سيْره؟، لديه الكثيرُ من الوقت، بقي له
فقط ما يزيدُ قليلاً على مائة ميلٍ وهو يحتاج لتناول نوْعاً من المرطبات في هذا
اليوم القائظ، لا بُد أن هذه
الجزيرة مكانٌ ممتعٌ إذا استمر الطقسُ على حاله، تساءل في
نفسه: "مَن تكون عائلة "أوين" هذه؟ .. لا بدّ أنهم أغنياءٌ إلى حدِّ
التُخمة، إن "بادغر" ماهرٌ في اكتشاف هذا النوْع من الناس، طبعاً لا بدّ
لهذا الشابِّ البائسِ من أن يكونَ قادراً على ذلك في وضعه المُفلِس"، وعاد يقول لنفسه: "لنأملَ أنهم سيكونون
كُرماء، فلا أحد يعرفُ طِباع هؤلاء الذين كوّنوا ثرواتِهم بنفسهم ولم يولدوا
أغنياء".
وتمطّى وهو يغادرُ المقهى وتثاءبَ ونظرَ إلى
السماء الزرقاء، ثم ركب سيّارته الفارهة، نظر إليه بعض الحاضرين بإعجاب؛ فقد كانت
له قامةٌ مُتناسِقةٌ بطول ستّة أقدامٍ وشعرٌ ناعمٌ وعيْنان زرقاوان ووجهٌ لوّحته
الشمس.
انطلق مُزمجراً بسيّارته في الشارع الضيّق فتتقافز
كهولٌ وصبيانٌ سعياً للنجاة بأنفسهم، ولكن الصِبية تابعوا السيّارة بنظرات الإعجاب.
كان السيّد "بلور" راكباً في القِطار
البطيء الذي غادر "بلايموث"، وكان معه شخصٌ آخر فقط في العربة، رجلٌ مُهذَّبٌ
عجوزٌ ذو عيْنيْن تعَبتيْن يبدو عليه أنه قضى معظمَ عُمْره في البِحار، وكان في
تلك اللحظة نائماً.
كان السيّد "بلور" يكتب بعنايةٍ في
دفتر ملحوظاتٍ صغيرٍ وتمتم لنفسه: "هذه هي المجموعة، "إميلي برنت" –
"فيرا كلايثورن" – الدكتور "آرمسترونغ" – "أنتوني
مارستون" – القاضي العجوز "وارغريف" – "فيليب لومبارد" –
الجنرال "ماك آرثر" حامل وِسام "سينت جيمس" و"سينت جورج"
ووِسام الخدمة المميَّزة – والخادم وزوْجته السيّد والسيّدة "روجرز".
أغلق الدفترَ ووضعه في جيْبه ونظر باتجاه
الزاوية والرجل النائم وغمغم مُشخِّصاً بدِقّة: "يوجد واحدٌ فوْق
الثمانية"، ثم استعرض الأمورَ بعنايةٍ وبوعيٍ تامٍّ وتمتم مُتأمِلاً: "مَهمّةٌ
سهلة .. من الصعب أن أقع في خطأ، آمل أن أبدو في وضعٍ جيّد".
ثم هبّ
واقفاً وأخذ يتفحَّصُ نفسَه بقلقٍ في زجاج النافذة، كان وجهه يعكسُ مَظهراً
عسكرياً بعض الشيء، وكان ذا شاربٍ وقليلٍ من التعبير، وكانت عيْناه رماديّتيْن ومُتقارِبتيْن
إلى حدٍّ ما، فكَّر السيّد "بلور": "يُمكِنُ أن أزعمَ بأنني ميجور
... لا .. لقد نسيت .. العسكريُّ العجوزُ سيكتشفُني على الفوْر، "جنوبُ أفريقيا"
... نعم .. سأكونُ من "جنوبِ أفريقيا" فلا أحد من هؤلاء الناسِ له صلةٌ
بـ"جنوبِ أفريقيا"، وسيكون بوسعي التحدُّث عنها بصورةٍ جيّدةٍ بعد أن
قرأتُ مِلَفَّ الرحلاتِ هذا".
كان
يوجَدُ – لحُسنِ الحظِّ – أنواعٌ شتّى من رجال المُستعمّرات، وكرجلٍ ثريٍ من "جنوب
أفريقيا" أحسَّ السيّد "بلور" أن بوسعه الاندماجَ في أيّ وَسَطٍ
اجتماعيٍ دون إثارةِ أيّ ارتياب.
"جزيرة الجنود"! .. ها هو يتذكّر "جزيرةَ
الجنود" أيّام كان صبيّاً، صخرةٌ نتنة الرائحة تقفُ عليها طيورُ النورس على بُعدِ
ميلٍ من الشاطئ تقريباً، إنها لفكرةٌ غريبةٌ أن يذهبَ أحدٌ ويبني بيْتاً عليها!، فهي
مكانٌ فظيعٌ في الطقس السيّئ، ولكنّ لأصحابِ الملايينِ نزواتٍ كثيرة.
أفاقَ الرجل القابع في الزاوية وقال بصوْتٍ
عالٍ: "لا يُمكِنُ التنبّؤ بالطقسِ في البحر أبداً"، قال السيّد "بلور"
مُلاطِفاً: "هذا صحيح .. لا يُمكِن"، ثم شهق
العجوز مرّتيْن وقال باكتئاب: "أشعُرُ بعاصفةٍ قادمة"، قال السيّد "بلور": "لا يا
صاحبي .. بل هو يوْمٌ جميل"، فغضب العجوزُ وقال: "بل
هي قادمة .. أستطيع أن أتشمَّمها"، قال السيّد
"بلور" مُهدِّئاً: "قد تكونُ على حق".
وقف القِطارُ في المحطّةِ فنهض العجوزُ مُترنحاً
وقال: "سأنزل هنا"، نهض ببطءٍ فساعده
السيّد "بلور"، ووقف الرجلُ بالباب فرفع يده بوقارٍ ثمّ غمز بعيْنيْه
المُتعبتيْن وقال: "ترقّب وادعُ .. إن يوْمَ الحسابِ وشيك"، ثم نزل من البابِ إلى الرصيف ونظر إلى السيّد
"بلور" ثانيةً وقال بوقارٍ شديد: "أنا أُكلِّمُكَ أنت أيها الشاب
.. إن يوْمَ الحسابِ سيحلّ"، فقال السيّد "بلور" لنفسه وهو يعودُ
إلى مقعده: "هو أقربُ إلى يوْمِ الحساب منّي".
ولكن الأحداث أثبتت أنه كان على خَطأ!