خبر
أخبار ملهلبة

الأدلة المادية على وجود الله | محمد متولي الشعراوي | الفصل الثاني: وفي أنفسكم أفلا تبصرون (3)


المصحف الشريف أو القرآن الكريم الذي أنزله الله من السماء على خاتم المرسلين محمد عليه الصلاة والسلام

الفصل الثاني (3)

 

 

فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى فعل الإنسان وعمله الدنيوي .. تجـد بعض الناس يقول: إنني سأفعل كذا وكذا .. وسأقوم بتنفيذ كذا .. نقول له: إنك أعجز من أن تفعل إلّا أن يشاء الله .. فالفعل محتاجٌ إلى زمان .. ومحتاجٌ إلى مكان .. ومحتاجٌ إلى فاعل .. ومحتاجٌ إلى مفعولٍ به .. وأنت لا تملك شيئاً من هذا كله .. فإذا جئنا إلى الفاعل فأنت لا تملك حتى اللحظة التي تعيش فيها .. ولا تضمن أن يمتد بك العمر ثانيةً واحدة .. حتى ولوْ كانت كل الشواهد الصحيّة تدل على ذلك .. ألَا يوجد من لا يشكو من شيء ثم يسقط فـجـأة ميتاً ويقال جاءته جلطةٌ في المخ أو سكتةٌ قلبـيـّة .. أو أصيب بهبوطٍ حادٍ في الدورة الدموية؟!

هذه كلها أسباب .. ولكن السبب الحقيقي هو أن الأجل قد انتهى .. مصداقاً لقوْله تعالى: "فإذا جاءَ أَجَلُهُم لا يَسْتَأخِرونَ ساعةً ولا يَسْتَقْدِمون" (الآية 34 من سورة "الأعراف") .. إذن ساعة أن صدر الأمر من المسبِّب وهو الله - جل جلاله - انتهى العمر.

الإنسـان والـزمـن

ومن العجيب أنك ترى أكـبـر أطباء القلب يموتون بأمراض القلب .. وأكبر أطباء المخ تنتهى حياتهم بمرضٍ في المخ .. فإذا مَلَكت اللحظة التي تعيش فيها .. وبقيت حتى ساعة إتمام الفعل، فإنك قد تصاب بمرضٍ يُقْعِدك عن الحركة فلا تستطيع إتمام الفعل .. هذا بالنسبة للفاعل.

فإذا جئنا للزمن فأنت لا تملك الزمن، ولكنه هو الذي يملكك .. ولذلك فإنه قد يأتي زمن التنفيذ فتفاجَأ بحدثٍ يمنعك .. كأن يصاب ابنك في حادثٍ مـثـلاً .. أو يموت أحد أقربائك .. أو تضطر اضطراراً إلى سـفـرٍ عاجلٍ لمهـمّـةٍ ضـروريّة .. أو يُقبَض عليك في جريمةٍ أو في اتهام .. إذن فأنت لا تملك الزمن ولا تستطيع أن تقول: إنني في ساعة كذا سأفعل كذا.

وبالنسبة للمكان فقد تختار مكاناً لتبني فيه عمارةً مثلاً .. فتأتي لتجد أن هذا المكان قد استوْلت عليه الدولة للمنفعة العامة .. أو قد ظهر له ورثةٌ لم تكن تعرفهم فأوْقفوا العمل .. أو أن يكون قد تقرَّر أن يقام في وسطه طريق .. أو أن الأرض تحتها مياهٌ جوْفيّة تجعلها غير صالحةٍ للبناء.

وإذا جئنا للمفعول به فقد يرفض الذي تطلب منه العمل القيام به .. وقد لا تجد عمّالاً ليقوموا بالتنفيذ .. وقد لا يأتي المقاول الذي اتفقت معه وقد لا يحضر الموظّف الذي سيعطيك الرُخصة لتبدأ العمل، إذن فأنت لا تملك شيئاً من عناصر الفعل كلها.

ولذلك طلب منك الله - سبحانه وتعالى - أن تتـأدَّب وتعطي الشيء لأهله وتُنسِبه إلى الفاعل الحـقـيـقى .. فـقـال سبحانه وتعالى: "ولا تَقولَنَّ لشَيْءٍ إنّي فاعلٌ ذَلِكَ غَداً، إلّا أَنْ يَشاءَ الله، واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسيت، وقُلْ عَسى أَنْ يَهْدينِ رَبّي لأَقْرَبَ مِن هَذا رَشَدا" (الآيتان 23 و 24 من سورة "الكهف") .. أي إذا أنساك الشيطان أن القوّة لله جميعاً فتذكّر هذه الحقيقة.

نأتي بعد ذلك إلى معجزةٍ أخرى في النفس البشريّة .. تلك هي معجزة القرآن الكريم والقرآن فيه إعجازٌ كثير .. ولكننا نتحدّث هنا عن الإعجاز القرآني في النفس البشريّة .. كل إنسانٍ مِنّا له طاقةٌ وقُدرةٌ عقليّة .. فالمتعلِّم طاقته العقليّة أكـبـر ممّن لم ينَل حظّاً من العِلم أو من الأُمّي .. وهؤلاء جميعاً لا يمكن أن يجتمعوا عقليّاً ليتشاركوا شيئاً واحداً .. وكل واحدٍ منهم ينسجم مع هذا الشيء نفس الانسـجـام .. فـإذا كـانـت هناك مـثـلاً محاضرةٌ في فرعٍ من العلوم فلا يستطيع أن ينسجم معها إلّا ذلك الذي يفهم في هذا الفرع، أمّا إذا دخل إليها عددٌ من الذين لم يقرأوا عن هذا العلم فإن الانسجام يضيع .. ذلك يحدث في كل فرعٍ من فروع الدنيا .. ولكنك إذا جئت إلى القرآن الكريم - وهو كلام الله - تجد أن كل النفـوس البشريّة المؤمنة تنسجم معه .. لا تجمعها رابطة عِلمٍ أو ثقافة .. وإنما الذي يجـمـعـهـا هـو رابطة الإيمان .. إنك تدخل إلى المسجد فتجد فيه المتعلِّم ونصف المتعلِّم والعالِم وقد جلسوا معاً جميعاً يستمعون إلى القرآن الكريم .. وتجدهم جميعاً منسجمين مع القرآن .. تهتز نفوسهم له .. وترتاح ملكاتهم إليه .. لا فَرْق بينهم، حتى ذلك الذي لا يعرف معنى ألفاظ القرآن الكريم .. تجده جالساً يستمع وهو منسجمٌ ويهتز من داخله وتقام الصلاة فيقف الجميع في إنسجامٍ وراء الإمام .. تختفى الفوارق الدنيويّة بينهم .. ولكن تجمعهم رابطة الإيمان .. فيصلّون جميعاً بانسجام .. لأن ملكاتهم التي خلقها الله فيهم منسجمةٌ ومتفقةٌ مع كلام الله .. فلا تلحظ فَرْقاً ولا ترى إلّا مساواةً إيمانيّة.

إعجاز القرآن

بل إنه من العجيب أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في العالم الذي يمكن أن يحفظه الإنسان بدون فهم .. فتجد الطفل الصغير عمره سبع سنوات وربما أقل من ذلك ومع هذا يحـفظ القرآن كله .. أيمكن لـهـذا الطفل الصغير غير المكلَّف أن يستوعِب معاني القرآن الكريم؟ .. بالطبع لا .. ولكن الإيمان الفِطري في داخله يجعله يحفظ القرآن عن ظهر قلب ويتلوه .. لأن هذا الإيمان من الخالق، وهو الله سبحانه وتعالى .. والقرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى .. ولذلك تنسجم النفس البشريّة - وهي في أولى مراحلهـا - مـع كـلام خالقها، أليس هذا إعجازاً نقف عنده ليلفتنا إلى الله سبحانه وتعالى .. وأنه هو الخالق وهو الموجِد.

فإذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إن الإنسان يولد على الفِطرة مسلماً، وأهله يهوّدانه أو ينصّرانه" قلنا: صدقت يا رسول الله، وأكبر دليلٍ على ذلك هو انسجام فِطرة الأنسان مع كلام الله.

بل وأكثر من ذلك، يأتي الله - سبحانه وتعالى - ليريَنا أن الإنسان هوَ هوَ وأنه سيأتي به يوم القيامة دون أن يختلط أحدٌ مع أحد .. ويتساءل الذين لا يؤمنون: كيف يمكن أن يأتي الإنسان بنفسه يوم القيامة دون أن يختلط أحدٌ مع أحد؟ .. نقول: إن الله - سبحانه وتعالى - رحمـةً بعقولنا قد أعطانا الدليل في الدنيا .. ولن ندخل في تكوين الإنسان، ولا في أشياءٍ غيْبيّة .. ولكننا نأخذ الدليل المادي وحده، فالبشر وهم بلايين كلهم مخلوقون على هيئةٍ واحدة .. ولكن كل واحدٍ منهم مميّزٌ عن الآخـَر .. فالأب يعرف ابنه بين ملايين البشر .. والابن يعرف أباه وأمه بين ملايين الرجال والنساء بمجرّد النظرة، بمجرّد اللمحة تستطيع أن تخرج ابنك أو أباك أو أمك من بين الناس جميعاً هذا تمييزٌ للإنسان لا يشترك فيه بقية الخَلْق .. فأنت لا تستطيع أن تميّز بقرةً عن بقرةٍ أو جـملاً عن جـملٍ أو أي مخلوقٍ آخـَر إلّا الإنسان.

ولذلك فإن رعاة الغنم يرقّمونها أو يضعون عليها علاماتٍ مميّزةً حتى يعـرفـوهـا .. ولكنهم لا يضعون على أولادهم عـلامـاتٍ حتى يميّزوهم عن غيْرهم من ملايين الصغار.

الإنسـان والتمييز

إننا نجد الإنسان مميّزاً ببصمة الإصبع .. لا تتشابه بصمة إبهام إنسانٍ مع إنسانٍ آخَر رغم وجود بلايين البشر .. ليس هذا فقط .. ولكن لكلٍ مِنّا بصمة رائحة لا تتشابه مع إنسانٍ آخَر ونحن لا ندركها .. ولكن كلب الشرطة المُدَرَّب هو الذي أعطاه الله مَلَكة تمييزها فيشم رائحة الأثر فيُخْرِج هذا الإنسان من بين العشرات بل المئات .. وكلّما أُعيدت التجربة قام كلب الشرطة بإخراج نفس الشخص .. بل إنه مع تقدُّم العِلم وُجِد أنه لكل إنسانٍ بصمة صوْتٍ تميّزه عن الآخر وبصمة فكٍ خاصّةٌ بأسنانه وبصمة عيْنٍ خاصةٌ بالقَزَحيّة .. كل هذا ليلفتنا الحق - سبحانه وتعالى - إلى أنه ميّز كلاً مِنّا بميزاتٍ لا يشترك فيها مع أحد حتى يأتي به يوم البعث هوَ هوَ نفسه.

بل إن الله - سبحانه وتعالى - وضع فينا العدل بالنسبة لأبنائنا رغماً عنا فتـجـد الأب يحب أصغر أبنائه أكـثـر مـن الكبـار .. لماذا؟ .. لأن الابن الصغير مهما امتد العمر بالأب سيقضي في رعاية أبيه سنواتٍ أقل من الكبار .. ولذلك أعطاه حناناً أكبر ليعوّضه عن هذه السنوات .. حتى يكون خيْر الأب وعطفه قد وُزِّعا على ابنائه بالعدل، فمنهم من أخذ عطفاً أقل وسنواتٍ أكثر، ومنهم من أخذ سنواتٍ أقل وعطفاً أكثر.

إلى هنا نكون قد وصلنا إلى بيان بعض الفيوضات التي شملتها الآية الكريمة: "وفي أنفُسِكُم أفلا تُبصرون" .. فالآية أعطتنا بوضوحٍ الدليل المادي من النفس البشريّة بأنها تعرف الله بالفِطرة .. وتعرف الخيْر والشر بالفِطرة .. مصداقاً لقوْله تعالى: "فأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقوِاها" (الآية 8 من سورة "الشمس") .. وإن هذه النفس - بالدليل المادي - لا تملك لذاتها نفعاً ولا ضراً إلّا ما شاء الله .. وإنها منسجمةٌ مع الإيمان بفطرة خَلْقها .. ومنسجمةٌ مع كلام الله بفطرتها الإيمانية.

على أن الدليل المادي لوجود الله لا يشمل النفس البشريّة وحدها .. بل يشمل كل شيءٍ في الكوْن .. فكل ما في الكوْن ينطق بأنه لا إله إلا الله .. وفي كل شيءٍ دليل .. وسنبدأ في الفصل القادم بالدليل الغيْبي.

 

 

(الفصل الثالث)

google-playkhamsatmostaqltradent