خبر
أخبار ملهلبة

الفصل التاسع (2) | نهاية العالم


لقطة من داخل كابينة قيادة طائرة أو سفينة فضاء تحيطها النجوم والجسيمات من كل جانب

الفصل التاسع (2) | نهاية العالم

 

 

ولكن أحد القادة المخضرمين صاح في من حوْله أن الزموا الصمت وكفّوا عن هذه الجلبة وتابعوا ما يظهر على الشاشات؛ وعندما أمعن الجميع النظر فوجئوا بألسنة اللهب والنار وبموجات الدخّان والغبار وقد بدأت تنحسر وتنقشع شيْئاً فشيْئاً وتُظهِر ما غطّته ورائها وإذا بجسم "المبيد الماحي" ينجلي وينبلج غيْر متأثّرٍ بكل هذه الكميّات المدمِرة من الأسلحة فأُسْقِط في يد الجميع وأصيبوا بصدمةٍ شديدة ألجمتهم وشلّت تفكيرهم وأفقدتهم القدرة على التصرّف، ولكن العسكريين المتمرّسين على مثل هذه المواقف سرعان ما جمعوا شتات فكرهم وتشاوروا في عُـجالةٍ ثم أصدر كبيرهم الأمر للمركبات الفضائيّة بإلقاء النصف الآخر من حمولتهم الفتّاكة على "الماحِق الناهي" ففعلوا ما أُمِروا به وهم مضطربين لأن الفشل هذه المرّة يعني فناء البشرية جمعاء، وانتظر الناس ثوانٍ أخرى وقلبهم متعلقٌ بالأمل الواهي الأخير.

وفي هذه المرّة لم تخطئ جميع الأسلحة الهدف ممّا سبّب وميضاً مبهراً وانفجاراً أقوى من سابقه وانبعاث لهبٍ ودخانٍ أضعاف المرّة الأولى، ولكنّ الناس لم تندفع نحو فرحةٍ زائفة وسرابٍ خادع هذه التارة وانتظروا قليلاً حتّى ينكشف اللهب والدخان والأغبرة فأسفر ذلك عن تكرار نفس النتيجة الأولى: عدم تضرّر المذنّب وعدم تأذّي حتّى قشرته الصلدة الصلبة صعبة المنال.

وأصاب اليأس والقنوط وخيبة الرجاء الناس في مقتل فلم يعودوا يقوون على التشبّث بتلابيب الأمل البالية ورفعوا راية الاستسلام البيضاء وسلّموا أمرهم لله، وقبل أن يصدر القائد العسكري الأكبر للقاعدة الأرضيّة الأمر للمركبات الفضائيّة بالانسحاب والعوْدة إلى قواعدها بالأرض وقبل أن تنفض الجموع فوجئ الناس جميعاً بأنّ القائد العسكري الأعلى للمجموعة الفضائيّة يصدر أمره للمركبات الفضائيّة كلّها بالاصطفاف قريباً من بعضها البعض، وعندما استفسر منه القائد الأرضي عن ما هيّة ما ينتوي فِعْله أجابه قائد المجموعة الفضائيّة بأنّه كان قد عقد العزم وتعاهد مع مرؤوسيه ربابنة المركبات قبل إقلاعهم من الأرض بأنّه في حالة فشل مهمّتهم في إنقاذ الأرض سيتجمّعون معاً ويقودون سفنهم صوب المذنّب "المميت" ويصطدمون به مفجّرين أنفسهم ومركباتهم في هذا المذنّب اللعين عسى أن ينالوا منه أو حتّى يكبحوا جماحه، فصرخ قائد القاعدة الأرضيّة في نظيره بالفضاء وأمره بالرجوع فوْراً وتنفيذ الأمر العسكري لقادته دون إبطاء فرفض الأخير طلب الأوّل وأفهمه أنّه من الشرف العسكري أن يموت هو وزملاؤه الملّاحون كرجالٍ شجعان وهم يحاربون في ميدان القتال عن أن يعودوا للأرض وينتظرون مجئ الموت كالنساء والعجزة واختتم كلامه بكلماتٍ تحشرجت في حلقه بالنيابة عن جميع الربابنة معرباً عن أسفهم لفشلهم بمهمّتهم الموْكولة إليهم واعتذارهم لأهليهم لعدم وجودهم بجانبهم وقت حلول النهاية لكن عزاءهم أنّهم يؤدّون واجبهم ويضحّون من أجل من يحبّون، ولم يمهل قائد مجموعة الفضاء أحداً كي يعلّق على كلامه وأصدر من فوْره الأمر لجميع المركبات الفضائيّة بالانطلاق نحو هدفهم المنشود وأطاع الربابنة الأمر المتَفَق عليه فقادوا سفنهم حتّى المذنّب وأنفذوا هجومهم الانتحاري الذي استهدف نواة المذنّب ولكنه لم يسفر عن تأثّر "الماحي" بأيّة أضرارٍ ذات قيمة بل أسفر عن انبهار الناس ببطولاتهم وتضحياتهم وسط عويل زوجاتهم وأولادهم وانتحاب عائلاتهم، ورغم أن أجسادهم قد تلاشت في السديم بين النجوم والأجرام السماويّة إلّا أن أرواحهم التي بذلوها في سبيل البشريّة ستظل نبراساً لامعاً ونجماً برّاقاً يومض في التاريخ في مثالٍ خالدٍ للخصال الإنسانيّة الطيّبة التي فُطِر عليها الناس ثمّ ابتعدوا عنها بمرور الوقت بسبب تدنّي الأخلاق في العصور الحديثة ولكنهم عادوا لها أخيراً عندما نبذوا الأنانيّة وحب الذات في سبيلهم لملاقاة ربّهم قبل النهاية المحسومة.

وبعد ساعات كان الناس قد عادوا مرّة أخرى إلى ركن التسليم بالأمر الواقع ومحاولة استرضاء ربّهم وانهمكوا في التقرّب منه أكثر فأكثر، وامتلأت دور العبادة في أنحاء الكوْكب البشري بالمثابرين على الصلاة والمتضرّعين إلى الله بالدعاء والابتهال، وفي "مصر" لم تتوقّف الجوامع المكدّسة بالمسلمين عن إذاعة تلاوات القرآن الكريم وأحاديث الرسول الشريفة وإقامة الصلاة تِلْو الأخرى يتخلّلها ما تيسّر من خطبٍ للأئمة والشيوخ تدعو الناس للاستمساك بالعروة الوثقى وتعاليم الدين الحنيف، وكذلك استمرّت الكنائس المكتظّة بالمسيحيّين في ترتيل بشائر الإنجيل وإنشاد الترانيم وعقد المنسك وراء الآخر يتوسطها ما تسنّى من مواعظ للأساقفة والبطاركة تهدف إلى ترسيخ مبادئ الإيمان والمحبّة.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent