خبر
أخبار ملهلبة

أهلاً (1) | الجريمة | نجيب محفوظ


لوحة فنية لمحسن أبو العزم لمقهى مصري أو قهوة بلدي يجلس فيه زبائن وماسح أحذية

أهلاً (1)

 

 

دَقّةٌ أيْقظته من شروده، دَقّة ماسح الأحذية التقليديّة، رفع عيْنيْه عن النارجيلة (الشيشة) فرآه واقفاً يرمقه بعين صياد، مضت لحظةٌ وهما يترامقان ثم تهلّل وجه الرجل، هو أيضاً ابتسم:

-       حمداً لله على السلامة يا بك.

-       أهْلاً .. كيف حالك؟

وأشار إليه فقرفص عند قدميْه فأعطاه حذاءه، ولم يرَه منذ عشرين عاماً، منذ انقطع عن المقهى القديم، كان فتىً يافعاً متين البنيان متدفّق الحيويّة، يطوف بأرجـاء الحيْ في رشـاقـة النحلة، يمسح الأحـذية، ويروى النوادر والمِلَح (جمع مَلُح أي الطرائف المليحة الحَسَنة)، ها هو قد جَفَّ عوده وتغضّن وجهه (أصبح متجعِّداً كثير الثنايا والتجاعيد) وأدركته شيخوخةٌ مبكرة.

-       لم أرَك منذ عمرٍ طويل يا بك؟

-       الدنيا!

-       سافرت؟

-       كلّا.

-       وكيْف هانَ عليْك مكانك المفضّل؟

-       ها أنا أرجع إليْه عند أول فرصة فراغ.

-       هل مرّت الأعوام في عملٍ متواصل؟

-       نعم.

-       ربنا معك.

منذ عشرين عاماً كانا يكافحان عدوّاً مشتركاً هو الفقر على اختلاف موقعهما منه.

-       لم تتغيّر يا بك والحمد لله.

-       أنت أيْضاً لم تتغيّر!

-       أنا؟!

وضحك في سخريةٍ ورثاء.

-       ربنا يقويّك.

كان فقيراً حَقّاً ولكن الدنيا كانت رحيمةً ويسيرة، هكذا كانت ، تُرى هل يخطر بباله أنه يملك عمارةً وفيلّا وسيّارة؟، هل يتصوّر أنه يخاطب لِصّاً أريباً (ذو دهاءٍ وفِطْنة) في ثوْب موظفٍ كبير؟

-       الحياة أصبحت شاقّة.

-       جِدّاً جِدّاً جِدّاً يا بك.

-       ولكنك مؤمن والإيمان كنزٌ لا يُقَدَّر بمال.

-       الحمد لله. 

-  قديماً كان العيش يتيسّر لك ببضعة قروشٍ حَقّاً ولكن كان يتسلّط على البلد إقطاعيّون يبذّرون الملايين على ملاذهم.

-       انتهى أمرهم يا بك ولكن حالي ازداد سوءاً.

-       بسبب عملك فقط .. أمّا ملايين الفلّاحين والعُـمّـال فـقـد تحسّنت أحوالهم.

-       إني لا ألقى إلا شاكياً مثلي.

-       أنت محصورٌ في بيئةٍ معيّنة .. هذه هي المسألة.

-       ومتى نتحسّن بدوْرنا؟

-       كُلُّ آتٍ قريب.

-       ولكن مَرَّت عشرون سنة!

-       ما هي إلّا لحظاتٍ في عُمْر الزمان.

-       أعلينا أن ننتظر عشرين سنةً أخرى؟!

-       لا أدرى .. قد يُضَحّى بجيلٍ في سبيل الأجيال القادمة.

-       ولكني أرى يا بك كثيرين من المحظوظين السعداء؟

-       مظاهرٌ خادعة .. لكُلٍّ شكواه ومتاعبه.

-       أراهم في السيّارات الفاخرة كأيّام زمان.

-       هل تصوّرت أعباءهم القاتلة؟ .. هل تصـورت مـا يـؤدّون للدولة من خدمات؟ .. ثم أمَن يعمل كمَن يرث؟

ابتسم مستسلماً وهو مُكِبٌّ على عمله في تكاسلٍ ليطيل فـرصـةَ الحوار، وجعل ينظر إليْه بمودّةٍ صـافـيـة، وفي نظرته تتجلّى أشـواقٌ للذكريات المشتركة الماضية.

-       هل أضايقك يا بك؟

-       أبداً .. هاتِ كُلَّ ما في قلبك.

-       الله يكرمك .. كنا نضحك مِلءَ قلوبنا في الماضي.

-       وممكن نضحك الآن أيضاً.

-       ولكن .....

-       ولكن داءنا أننا ننظر دائماً إلى الوراء .. دائمـا نـتـوهـم أن وراءنا فردوْساً مفقوداً.

-       ألم نكن نضحك من أعماق قلوبنا؟

-       تذكُر .. لقد رقصتَ يوم قامت الثوْرة.

-       طبعاً .. سكرتُ بالآمال، سكرنا جميعاً بالآمال.

-       ولقـد تحقّقت الآمال .. ولوْلا سوء الحظ .. ولوْلا الأعـداء .. ماذا كنت تتوقّع؟

-       زوال الظُلم والفقر .. لقمةٌ متوفّرةٌ .. مستقبلٌ للأوْلاد.

-       حصل ذلك كلّه.

-       دائماً نسمع ولكن الأوْلاد ضاعوا جميعاً.

-       واضح أنك تشكو كثرة العيال؟

-       إني أحمد الله.

-       المدارس مفتوحةٌ لاستقبال الجميع.

-       دخلوها .. وخرجوا كما دخلوا .. ولم ينجح أحد.

-       وما ذنب الثوْرة؟

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent