خبر
أخبار ملهلبة

الخيميائي | باولو كويلو | الجزء الحادي عشر


الخيميائي العربي الملثم يرتدي ثياباً وعمامةً سوداء ويحمل صقراً فوق كتفه وهو يمتطي حصاناً وأمامه سنتياجو مترجلاً

الجزء الحادي عشر

 

 

عندما خرج "سنتياجو" من خيْمة رؤساء القبائل لم يكن يُضيء الصحراء غير بدرٍ مُكتمِل، وكانت أمـامـه مسيرة عشرين دقيقةً حتى خيْمته فمضى في طريقه، أرهقه كل ما مر به، بات مُشوَّش الذِهن من كل ما جرى من أحداث، شعر بأنه مُنغمِس في روح العالَم، وقد غدا من المُمكن أن يكون ثمن تحقيق حُلمه هو حياته نفسها، إنه رهانٌ كبير ولكنه كان قد راهن بالكثير منذ باع خِـرافـه لكي يتبع أُسطورته الذاتيّة، أو لم يقُل له حادى الجِمال أن الموْت في الغد شأنه شأن الموْت في أي يوْمٍ آخر وأن كل يوْمٍ يأتي علينا يحمل لنا معه إمّا الموْت أو الحياة وأن كل شيءٍ يتوقَّف على كلمة واحدة هي "المكتوب".

سار في طريقه صامتاً وهو غير آسفٍ على شيءٍ مضى، إن كان لا بُد له من أن يموت في الغد فسيكون ذلك لأن مشيئة الله هي ألّا يتغيَّر المستقبل ولكنه - على الأقل - سيموت بعد أن عبر المضيق (من "إسبانيا" إلى "المغرب") وبعد أن عمل في محلٍّ للكريستال وبعد أن عرف الصحراء وعيْنيْ "فاطمة"، لقد عاش حياةً حافلةً كل يوْمٍ من أيّامه منذ غادر بلده منذ وقتٍ طويل، فإن تعيَّن أن يموت في الغد فقد رأت عيْناه كثيراً من الأشياء التي لم تراها أعيُنٌ غيره من الرُعاة وهو بذلك فخور.

وفجأة سمع صوْتاً كأنه دوي الرعد، ووجد نفسه مُلقى على الأرض بفعل عاصفةٍ هوْجاء لم يسبق لعُنفها مثيل، واجتاحت المكان سحابةٌ من الرمال كادت تحجب ضوْء القمر، وشَبَّ أمام عيْنيْه حصانٌ أبيض عملاق يصهل صهيلاً مُرعِباً، حاول بصعوبةٍ أن يتبيَّن مـا حـدث، ولكن عندما انقشع الغُبار شعر برُعبٍ لم يعانِ مثله من قبل، كان يمتطي صهوة ذلك الحصان الذي يواجهه فارسٌ يرتدي السواد من قِـمّة رأسه حتى قدمه، كان يرتدي عمامةً ويحجب وجهه كلّه لثامٌ لا يكشِف غير عيْنيْه، كان يرتكز على كتفه اليسرى صقرٌ ضخم، بدا كواحدٍ من رُسُل الصحراء، ولكن حضوره الطاغي لم يكُن له شبيه، استلَّ الرجل من الغِمد سيْفاً كبيراً مُقوَّس النصل كان مُعلَّقاً في السرج، فلمع فولاذ السيْف في ضوْء القمر، وسأله الفارس بصـوْتٍ مُـدوٍ بدا وكأن نخلات واحة "الفيّوم" الخمسين ألفاً تردد صداه معاً:

-       مَن ذا الذي جرؤ على أن يُفسِّر تحليق الصقريْن؟

قال "سنتياجو" بثبات:

-       أنا الذي جرؤت.

وتراءى لعيْنيْه حينئذٍ تمثال القدّيس "جـاك" الذي كان يسحق خـصـومه تحت سنابك حصانه، هي الآن الصورة نفسها غير أن الموقف كان معكوساً تماماً، كرَّر الشاب:

-       أنا الذي جرؤت.

ثم أحنى الفتى رأسه انتظاراً لضربة السيْف الذي ارتفعت به يد الفارس استعداداً ليهوي به عليه، وقال الفارس ويده في طريقها لحصد رأس الفتى:

-       كثيرٌ من الأرواح سوف تُنقَذ لأنك تجاوزت روح العالَم.

غير أن السيْف لم ينقض على الفتى سريعاً، بل نزلت يد الفارس ببطءٍ، فبالكاد لامست ذؤابة نصل السيْف جبهة الشاب، وكانت الذؤابة حادّةً جداً إلى درجة أنها أراقت قطرة دمٍ واحدةٍ فقط.

ظل الفارس جامداً تماماً، وكذلك ظلَّ الشـاب، لم تطرأ حتى على بال الفتى فكرة الهرب، غمرته من أعماق فؤاده غِبطةٌ غريبة: سيموت من أجل أسطورته الذاتيّة، سيموت من أجل "فاطمة"، لقد صدقت العلامات آخيراً، فها هو العدو قد وصل، ولا ينبغي أن يقلق من الموْت لأن هناك روحاً للعالم سيُصبِح هو بعد قليلٍ جزءاً منها، وغداً أيضاً سيُصبِح العدو جزءاً منها.  

و اكتفى الفارس بإبقاء ذؤابة سيْفه على جبهة "سنتياجو" وسأله:

-       لماذا قرأت رؤيا تحليق الصقريْن وفسَّرتها؟

-       قرأتُ فـقـط مـا أراد الصقريْن أن يرويانه .. فهما أرادا إنقـاذ الواحـة .. أمّا أنت وصحبك فسوف تموتون .. فرجال الواحة أكثر منكم عدداً.

كانت ذؤابة السيْف لمّا تزَل على جبهة الفتى عندما سأله الفارس:

-       ومَن تكون أنت لتُغيِّر مصيراً خطَّته يد الله؟!

-       لقد خلق الله الجيوش كما خلق الطيور .. وهو - عز وجل - الذي دلَّني على ما عناه الصقريْن .. فكل شيءٍ قد خطَّته يد مشيئته تعالى.

قال الشاب ذلك مُتذكِّراً حديث حادي الجِمال، وأخيراً رفع الفارس سيْفه بعيداً عن الفتى الذي تنفَّس الصعداء، لكنه لم يستطِع أن يهرب فوقف مكانه، في حين استكمل الفارس:

-       احترِس من التنبّؤ .. فعندما تكون الأشياء مُقدَّرةً ومكتوبةً فلا سبيل إلى تفادي وقوعها.

-       لقد رأيتُ جيْشاً فحسب .. ولم أرَ كيف تنتهى المعركة.

بدا الفارس مُرتاحاً إلى هذه الإجابة ولكنه ظلَّ شاهراً سيْفه، وسأله:

-       ما الذي يفعله غريبٌ مثلك في أرضٍ غريبة؟

-       أسعى وراء أسطورتي الذاتيّة .. وهذا شيءٌ لا يُمكِنك أن تفهمه.

أعاد الفارس سيْفه في غِمده، وأطلق الصقر المُرتكِز على كتفه صيْحةً عاليةً غريبة، وبدأ الشاب يسترد هدوءه، بينما قال الفارس:

-       كان لابد لي من أن أختبر شجاعتك .. فالشجاعة هي الفضيلة العُظمى التي تبحث عنها روح العالم.

أصابت الشاب الدهشة، فهذا الفارس يتحدَّث عن أشياءٍ لا يعرفها إلّا قِلّةٌ من الناس، وأكمل الفارس:

-       لا يجب على الإنسان أن يتقاعس حتى ولو كان قد قطع مسافةً طويلةً جداً .. عليه أن يُحِب الصحراء ولكن دون أن يُعطيها كل ثقته أبداً .. فالصحراء محك اختبارٍ لكل الرجال .. وهي تمتحن كل خطوةٍ من خُطاهـم وتقتُل مَن يترُك نفسه للشرود.

ذكَّرته كلمات الفارس بالملك العجوز، وواصل الفارس حديثه:

-       إذا ما جاء المحاربون إلى الواحة ولم يقتلوك وظللتَ مُحتفِظاً برأسك فوق رقبتك فتعالَ لرؤيتي غداً بعد غروب الشمس.

وأمسكت نفس اليد - التي كانت تُشهِر السيْف - بسوْطٍ ألهب ظهر الحصان الذي هاج وجرى مبتعداً مُخلِّفاً سحابةً من الغُبار وراءه، وصاح الشاب بينما كان الفارس يبتعد:

-       أين تُقيم؟

فأشارت اليد التي ترفع السوْط في اتجاه الجنوب، وهكذا ألتقى الشاب بالخيميائي.

*****

في صباح اليوْم التالي، كان هناك ألفا رجلٍ من الواحة يحملون السلاح وسط نخيل "الفيّوم"، وقبل أن تبلغ الشمس السمت (أعلى ارتفاعٍ لها) ظهر في الأُفُق خـمـسـمـائـة مـحـاربٍ غريبٍ عن الواحة، دخل الفُرسان الواحة من شمالها، وكانت تلك في ظاهرها زيارةً سِلميّة، ولكن الأسلحة كانت مُخبّأةً تحت العباءات البيْضاء، وعندما وصلوا بالقُرب من الخيْمة الكبيرة المنصوبة وسط الواحة أشهروا سيوفهم المُحدَّبة المعقوفة وبنادقهم وأغاروا على خيْمةٍ خالية.

أحاط رجـال الواحة بفُرسان الصحراء وفي خلال نصف ساعةٍ كانت هناك أربعمائةٌ وتسعٌ وتسعون جُثةً مُتناثرةً فوْق الأرض، ظل الأطفال في الطرف الآخر من غابة النخيل ولم يروا شيئاً، وراحت النساء يُصلّين من أجل أزواجهن تحت الخيام ولم يرين شيئاً أيضاً، ولوْلا تلك الجُثث التي كانت مُمدَّدةً في كل مكان لبدا أن الواحة تعيش يوْماً عاديّاً.

وأُنقذَت حياة مُـحـاربٍ واحدٍ هو قائد فريق المُغيرين، اقتيد في المساء أمام رؤساء القبائل، فسألوه عن السبب الذي دفعه إلى خرق التقاليد، قال إن رجـالـه كانوا يعانون من الجوع ومن العطش وإنهـم وقـد انهكتهم أيّام الحرب الطويلة قرَّروا أن يستوْلوا على إحدى الواحات ليتمكَّنوا من استئناف القتال.

أبدى الرئيس الأعلى للقبيلة أسفه لمقتل المُحاربين، ولكن لا بُد من احترام التقاليد الثابتة في كل الظروف، فالشيء الوحيد الذي يتغيَّر في الصحراء هو الكثبان حين تُحرِّكها الرياح، ثم حكم على زعيم الخصوم بموْتٍ مُشين: فبدلاً من قتله بالسلاح الأبيض أو برصاصة بندقية تم شنقه على جذع نخلةٍ جافّة، وظلَّت جُثّته تتأرجح في رياح الصحراء.

واستدعى شيْخ القبيلة الشاب "سنتياجو" وأعطاه خمسين قطعةً من الذهب، ثم طلب إليه أن يُصبِح منذ تلك اللحظة مستشار القبيلة.

*****

عندما غابت الشمس تماماً وظهرت أولى النجوم في السماء (ولم تكُن تلمع كثيراً بسبب اكتمال البدر) أخذ الشاب طريقه مُتَّجهاً إلى الجنوب، ولم تكُن هناك سوى خيْمةٌ واحدة، وطِبقاً لما قال له بعض العُربان الذين صادفهم فقد كانت تلك منطقةً مسكونةً بالجن، ولكنه جلس هناك وانتظر فترةً طويلة، ظهر الخيميائي عندما ارتفع البدر في السماء، وكان يحمل على كتفيْه صقريْن ميّتيْن، قال الشاب:

-       ها أنذا.

-       ما كان يجب أن تكون هنا .. أم هل شاءت أسطورتك الذاتيّة أن تأتي حتى هذا المكان؟

-       هناك حربٌ بين العشائر ومن المُستحيل عبور الصحراء.

ترجَّل الخيميائي عن حصانه وأشار بيده يدعو الشاب إلى دخول الخيْمة، كانت خيْمةٌ شبيهةٌ بكل الخيام الأُخرى التي استطاع الشاب أن يراها في الواحة باستثناء الخيْمة الرئيسية الكبيرة التي كان ثراؤها أسطوريّاً، وفتش بعيْنه عن مُعِدّاتٍ أو أفرانٍ خاصّة بالخيميائي ولكنه لم يجد أثراً لذلك، لم يكن هناك سوى بضعة أكوامٍ من الكُتُب وموْقدٍ وسجاجيد مُزيَّنةٍ برسومٍ غامضة، وقال الخيميائي:

-       اجلس .. فسوف أُعِد شاياً وسنأكل معاً هذيْن الصقريْن.

وتساءل الشـاب عـمّـا إذا لم يكُن هذان هـمـا الطائريْن اللذيْن رآهما البارحة، ولكنه لم يقُل شيئاً، أوْقد الخيميائي النار وتصاعدت بعد قليلٍ رائحة لحمٍ شهيّة في الخيْمة ألذ من عبق النارجيلة، وسأل الشاب ذلك الخيميائي العربي:

-       لماذا أردتَ أن تراني؟

-       بسبب العـلامـات .. نبـّأتني الرياح أنك قادمٌ وأنك ستكون بحـاجـةٍ إلى العون.

-       لا .. ليس أنا .. بل الأجنبي الآخر .. الخيميائي الإنجليزي .. هو الذي كان يُفتِّش عنك.

-       عليه أن يعثر على أشياءٍ أُخرى قبل أن يلقاني .. ولكنه على الطريق الصحيح .. فقد بدأ يتأمَّل الصحراء.

-       وأنا؟

قال الخيميائي مُكَرِّراً كلمات الملك العجوز:

-       عندما نريد شيئاً فإن قوى الكوْن كلّه تتحالف لكي تسمح لنا بتحقيق حُلمنا.

وفهم الشاب، إذن فها هو رجلٌ آخر يلقاه في طريقه لكي يقـوده إلى أسطورته الذاتيّة، فقال للخيميائي:

-       إذن فسوف تُعلِّمني؟

-       لا .. فأنت تعرف بالفعل كل مـا ينبغي معرفته .. سأضعك فقط على الطريق المُتَّجه إلى كنزك.

-       هناك حربٌ بين العشائر.

-       ولكنني أعرف الصحراء.

-       لقد وجدتُ بالفعل كَنزي .. فعندي جملٌ والمال الذي ادخرتُه من مـحـل الكريسـتـال وخـمـسـون قطعةً من الذهب .. يُمكِنني أن أصبح رجلاً ثريّاً في بلدي.

-       ولكن لا شيء من هذا كلّه بالقُرب من الأهرام.

-       عندي "فاطمة" وهي كَنزٌ أغلى من كل ما نجحت في الحصول عليه.

-       هي أيضاً ليست بالقُرب من الأهرام.

أكلا الصقريْن في صمت، وفتح الخيميائي زُجاجةً صَبَّ منها سائلاً أحمر في كوب ضيْفه، فسأله الشاب:

-       أليس النبيذ مُحرَّماً عندكم؟!

فأجابه الخيميائي العربي:

-       ليس الحرام فيما يدخل فم الإنسان .. ولكنه فيما يخرج منه.

(ملحوظة من المُترجِم: العبارة الأخيرة هي من وحي خيال المؤلِّف ولكن رأي الدين الإسلامي معروف بالنسبة للخمور وغيرها من المُسكِرات والمُحرَّمات.)

كان نبيذاً من أفخر الأنواع التي ذاقها في حياته، وعندما شرب الشاب بدأ يشعر بالارتياح، كانا يجلسان خارج الخيمة يتأمَّلان نور القمر الذي طغى على لألأة النجوم، وقال الخيميائي الذي لاحظ تزايد ابتهاج الشاب:

-       اشرب وخُذ وقتاً كافياً .. وارتَح كما يرتاح المُحارِب دائماً قبل أن يخرج للمعركة .. ولكن لا تنسَ أن قلبك هناك حيث يوجد كَنزك .. وأنه لا بُد لك من العثور على كَنزك لكي يُصبِح لكـل مـا اكتشفته معنى .. في الغد بِع جملك واشترِ حصاناً .. فالجِـمـال خادعة فهي تقطع آلاف الخُطى دون أن يبدو عليها أي أثرٍ للتعب ثم فجأة تسقط على رُكَبها وتموت .. أما الخيول فهي تتعب بالتدريج وستعرف دائماً حدود ما تستطيع أن تطلبه منها ومتى ستموت.

*****

في مساء اليوم التالي وصل الشاب أمام خيْمة الخيميائي على صهوة حصان، وانتظر قليلاً إلى أن وصل الخيميائي مُمتطياً حـصـانه بـدوْره والصقـر مرتكزٌ على كتفه اليسرى، قال "سنتياجو" للخيميائي:

-       أرِني الحياة في قلب الصحراء .. فلا يكتشف الكنوز سوى مَن يستطيع أيضاً أن يكتشف الحياة.

شقّا طريقهما وسط الرمال يغمُرهما ضوْء القمر، وفكر الشاب في سِرّه:

-       لست أدري إن كنتُ سأنجح في اكتشاف الحياة في قلب الصحراء .. فأنا لا أعرف هذه الصحراء بعد.

وأراد أن يرجع ليقول هذه الخاطرة للخيميائي ولكنه كان يخشاه.

ووصلا إلى المنطقة الصخريّة التي رأى فيها الصقريْن بالأمس في السماء، الآن لم يكُن هُنا سوى الصمت والرياح، قال الشاب:

-       لا يسعني أن أكتشف الحياة في الصحراء .. أُدرِك وجـودهـا ولكني لا أستطيع أن أضع يدي عليها.

رد الخيميائي:

-       الحياة تجتذب الحياة.

وفهم الشاب مرمى كلام ذلك الخيميائي العربي الحكيم، وترك على الفور العنان لحصانه الذي راح يخب علي هواه وسط الحجارة والرمال، وتبعه الخيميائي صامتاً وظل حصان الشاب يتقدَّم كما شاء خلال نصف ساعة، لم يعد بوسع الرجُليْن أن يريا نخيل الواحة، ولم يعُد هناك غير ضوْء السماء الرائع والصخور التي تلمع تحته كالفِضّة، وفجأة في بُقعةٍ لم يسبق للشاب أن طرقها شعر بمطيّته تتوقَّف فقال للخيميائي:

-       هنا توجد حياة .. أنا لا أعرف لُغة الصحراء بعد ولكن حصاني يعرف لُغة الحياة.

ترجلا، ولم يقل الخيميائي شيئاً، بل أخذ يُراقِب الأحجار وهو يتقدَّم ببطء، ثم توقَّف فجأةً وانحنى في حذرٍ بالغ، كانت هناك ثُقبٍ في الأرض بين الأحجار مد فيها الخيميائي يده، ثم أدخل ذراعه بأكملها حتى الكتف، كان هناك شيءٌ يتحرَّك هناك في العُمق البعيد، وزَرَّ الخيميائي عيْنيْه - اللتان كانتا تظهران فقط من ملامح وجهه التي غطّاها لثامه - ممّا يدل على المجهود الكبير الذي كان يبذله، وبدت ذراعه في حالة صراعٍ ما مع ما بداخل الثُقب الذي كان يُفضي إلى حُفرةٍ عميقة، وفي وثبة سريعة أفزعت الشاب سحب الخيميائي ذراعه وهَبَّ واقفاً، وكانت يده تُمسِك ثُعباناً من ذيْله، ووثب الشـاب بدوْره ولكن إلى الخلف، كـان الثـُعـبـان يتلوّى في جنونٍ مُطلِقاً فحيحاً وصفيراً قطعا سكون الصحراء، كان من نوْع "الكوبرا" ويُمكِن أن يقتل سُمّه رجلاً في بضع دقائق، وردَّد الشاب في سِره:

-       احترس من السُم.

ولكن الخيميائي الذي وضع يده في الحفرة لابد أن يكون قد تعرَّض للدغةٍ بالفعل، غير أن وجهه كان هادئاً تماماً، وكان الشاب قد سمع الرجل الإنجليزي يقول أن عُمر الخيمیائي مائتا عام، فلا بُد أنه يعرف كيف يتصرَّف مع ثعابين الصحراء.

رأى "سنتياجو" صاحبه يرجع إلى صهوة حصانه وينتزع سيْفه الشبيه بالهلال، ثم يرسم به دائرةً على الأرض، وضع الخيميائي الثُعبان داخل تلك الدائرة فسكنت حركته على الفوْر، ثم قال الخيميائي:

-       لا تقلق .. لن يخرج من هذه الدائرة .. ها أنت ذا قد اكتشفتَ الحياة في الصحراء .. وهذا الثقب كان علامةً هامّة.

-       ولِـمَ كان ذلك مهماً إلى هذا الحد؟

-       لأن الأهرام تقع في وسط الصحراء.

لم يرغب الشاب في سماع المزيد عن الأهرام، كان قلبه مُثقَلاً وحزيناً منذ ليْلة البارحة، لأن السعي وراء الكَنز يعني بالضرورة الابتعاد عن "فاطمة"، وعندها قال له الخيميائي:

-       سأقودك عبر الصحراء.

فرد الشاب:

-       أود أن أبقى في الواحـة، لقد التقيتُ بـ"فـاطـمـة" وهـي عندي أغلى من الكَنز.

-       "فاطمة" فتاةٌ صحراويّة .. وهي تعرف أنك يجب أن ترحل لكي تعود .. هي قد وجدت بالفعل كنزها: أنت .. والآن فهي تنتظر منك أن تعثر على ما تبحث عنه.

-       وإذا ما قرَّرتُ أن أبقى هنا؟

-       ستُصبِح مستشار الواحة .. وستملك من الذهب ما يكفي لكي تشترى عدداً كبيراً من الخراف والجمال .. وستتزوَّج "فاطمة" وستعيش سعيداً خلال السنة الأولى .. ستتعلَّم كيف تُحِب الصـحـراء .. وسـتـعـرف كل واحدةٍ من الخمسين ألف نخلة .. سـتـفـهـم كيف ينمو ذلك النخل بحيث يُريك عالماً يتغيَّر باستمرار، وسيتحسَّن - يوْماً بعد يوْم - تفسيرك للعلامات والإشارات .. لأن الصحراء مُعلِّمٌ فَذٌّ بلا نظير .. وفي السنة الثانية ستتذكَّر وجـود الكنز وستبدأ العلامات تتحدَّث إليك بإلحاح بينما تحاول أنت ألّا تُلقي لها بالاً .. وستسـتـخـدم مـا تعلمته لتحقيق صالح الواحـة وسكانها فحسب .. وسيكون رؤساء الواحة ممتنّين لك وستجلب لك جِمالك الثراء والسُلطة .. وفي السنة الثالثة ستواصل العلامات الحديث عن كَنزك وعن أسطورتك الذاتيّة .. ثم تقضي ليالٍ بعد أخرى هائماً في الواحة .. وستُصبِح "فاطمة" امرأةً تعيسةً لأنها كانت السبب في توقُّف مسيرتك من أجلها هي .. ولكنك ستظل تُحِبها وستبادلك هي الحب .. ستتذكَّر أنت أنها لم تطلب منك أبدأ أن تبقى لأن المرأة الصحراويّة تعرف انتظار عودة رجُلها .. ستسير الليالي بعد الليالي في رمال الواحة عابراً أشجار النخيل وأنت تُفكِّر أنه ربما كان ينبغي أن تواصل طريقك مولياً حُبّك لـ "فاطمةٍ" ثقةٍ أكبر .. لأن ما جعلك تبقى في الواحة لم يكُن شيئاً آخر غير خشيتك - أنت نفسك - من ألّا تعود .. وعندما تصل إلى هذه المرحلة ستدلّك العلامات على أن كَنزك قد غاص في باطن الأرض إلى الأبد .. وفي السنة الرابعة ستهجُرك العلامات لأنك لم تُرِد أن تستمع .. وسيفهم رؤساء القبائل ذلك وتُعزَل من منصب المُستشار .. ستُصبِح بعد ذلك تاجراً غنيّاً مالكاً للعديد من الجِمال والكثير من البضائع .. ولكنك ستقضي بقية أيّامك هائماً - وسط النخيل والصحراء - عالِـماً أنك لم تُنجِز أسطورتك الذاتيّة وأن الوقت قد فاتك لكي تفعل ذلك .. فأنت لم تُدرِك أبداً أن الحُب لا يمنع رجُلاً بأية حالٍ من أن يسعى وراء أسطورته الذاتيّة .. وإن حدث ذلك فمعناه أنه لم يكن حباً حقيقياً .. أي ليس هو ذلك الحب الذي يتكلَّم لُغة العالَم.

محا الخيميائي الدائرة التي كان قد رسمها على الرمل فـفـر ثُعبان الكوبرا مُسرِعاً ليختفي وسط الأحجار.

تذكَّر الشاب تاجر الكريستال الذي أراد دائماً أن يذهب إلى "مكّة"، والإنجليزي الذي ظل يبحث عن خيميائي، وفكَّر في امرأةٍ وثقت في الصحراء وجلبت لها الصحراء - ذات يوْمٍ - الرجُل الذي اشتهت دوْماً أن تُحبّه.

امتطيا جواديْهما، وفي هذه المرّة كان الشاب هو الذي يتبع الخيميائي، كانت الرياح تنقل أصواتاً من الواحة، وحاول أن يتعرَّفَ على صوْت "فاطمة" التي لم تذهب في ذلك اليوم إلى البئر بسبب المعركة، ولكن في هذه الليْلة - وبينما كان يُراقِب الثُعبان وهو داخل الدائرة - تحدَّث الخيميائي - الذي يرتكز الصـقـر على كتفه - عن الحب وعن الكنوز وعن نساء الصحراء وعن أسطورته الشخصيّة، ثم قال الشاب:

-       سأذهب معك.

وشعر على الفوْر بسلامٍ وطمأنينة يغمران قلبه.

-       سنرحل غداً .. قبل أن تُشرِق الشمس.

وكان هذا هو كل ما رد به الخیمیائی.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent