خبر
أخبار ملهلبة

صورة واحد بلطجي (1) | صور مشقلبة | د. أحمد صادق


بلطجي أو فتوة من الأحياء الشعبية يقوم بدوره الفنان عدلي كاسب في فيلم السفيرة عزيزة


صورة واحد بلطجي (1)

 

 

الأحد:

فُتِح الباب الخشبي الكبير المقوّى بألواح الحديد الصلب فأحدث صريراً عالياً معلناً عن خروج دفعةٍ جديدة من المساجين الذين أُفرِج عنهم من سجن "الحضرة" بالأسكندريّة بمناسبة عيد الأضحى المبارك قبل شهورٍ من انتهاء فترة حبسهم، وعندما خرجوا وجد أغلبهم مِن ينتظره من الأهل والخلّان في حين لم يجد بعضهم أحداً في شرف استقباله وكان المعلّم "حماده الفارس" واحداً من هؤلاء البعض.

وبعد أن انتظر واقفاً خارج السجن لأكثر من نصف ساعة استبد به القلق وعصفت به الظنون واستشاط عليه الغضب فقرّر أن يأخذ طريقه مُنصِرفاً وحده إلى منزله لوْلا جَلَبةٌ سمعها آتيةٌ من بعيد انتشلته من خيْبة الأمل وأنقذته من براثن الحنق؛ فأصاخ السمع ودقَّق النظر فإذا بموْكِبٍ عظيمٍ يأتي من بعيدٍ بدأ يلوح شيْئاً فشيْئاً ويظهر رويْداً رويْداً، كان هذا الموْكِب يتألّف من سيّارة "مرسيدس" مكشوفة في المقدّمة وقد غطّتها الزينة والورود من كل جانب فتعسّر على الناظر معرفة لوْنها الحقيقي وكانت تتبعها عدّة سيّاراتٍ ملّاكي فاخرةٍ تُقِل الأهل والأصدقاء والأحباب وبضع سيّارات نصف نقلٍ شغل صناديقها أفراد الفِرقة الموسيقيّة بآلاتهم وأدواتهم التي يعزفون عليها الأغاني الشعبيّة الصاخبة والأهازيج التي اعتادوا على ترديدها في تلك المناسبات السعيدة احتفالاً بخروج أسدهم المغوار من قفص أَسْره البغيض، ولم يكن "حماده" هو وحده فقط مَن يتم استقباله بهذه الاحتفاليّة الصاخبة بل اعتاد المجتمع المصري الشعبي على استقبال المجرمين والخارجين على القانون استقبال الأبطال الفاتحين عند خروجهم من السجن الذي يتم نسف هدفه من الإصلاح والتهذيب بمجرّد وقوع مراسم هذا الاستقبال المهيب الذي يُرسِّخ عند المُذنِبين أن الحبس للرجال والسجن للجدعان وأن ارتكابهم لجرائمهم يرفعهم لمصاف البَواسِل الشُجعان ومكانة الصَناديد المغاوير.

وما إن لمح "حماده" ذويه حتّى انفرجت أساريره وفغر فاه عن ابتسامةٍ عريضةٍ أخذت تزداد حثيثاً حتى كادت أن توصِل ما بيْن أُذنيْه، وعندما بلغ الموْكِب مكان "حماده" قفز من السيّارة الأولى صبيّه وذراعه اليُمنى ورفيق كفاحه "عوض بِشلة" – ذو النُدبة المميَّزة والمميِّزة التي تشغل مساحةً لا بأس بها من وجهه فتمنحه قدراً كبيراً من الهيْبة والمهابة – فتعانق الرجلان عِناقاً حارّاً وسط تهاني وتباريك المُحيطين بهما والذين أوْقفوا المرور بالشارع ليتدافعوا للسلام على السجين المُحرَّر بيْن الرقص والغناء.

وانقضت ساعةٌ من الزمن كانت مُفعَمةً بالسعادة والفرحة لعوْدة الغائب العزيز الذي ركب السيّارة المكشوفة وسط سيّارات التشريفة الأخرى وسيّارات الفرقة الموسيقيّة وعلى ضفّتيْ الشارع ما تيسّر من المارّين والمتفرّجين فأعادوا للناس ذكريات الرئيس "السادات" – رحمه الله – الذي عاقر وأدمن مثل تلك المواكِب كلّما أراد إثبات وتوْطيد شعبيّته بين أفراد شعبه، ووصل الموْكِب الجليل إلى حي "القبّاني" وقد امتلأت الشرفات بالبنات والنسوة اللاتي أطلقن زغاريدهن في عنان السماء مُصفِّقاتٍ راقصات، في حين سارع الرجال بالنزول – محبةً أو كُرْهاً – إلى وسعاية الحَيْ حيث حطَّ الموْكِب وأناخ رحاله ليشاطروا "حماده" أفراحه بالحُريّة بعد عقوبة ضربٍ أفضى للموْت قضى على إثرها أقل من ثلاث سنواتٍ قضاها بين جَنَبات السجن بعد قتله لأحد الأشقياء في إطار المُنافسة على زعامة الحَيْ بسبب نزاعٍ بيْنهما لوضع اليد على أحد الأراضي المملوكة للدوْلة.

ومضت ساعتان كي ينفضُّ الموْكِب وينصرف كلٌ إلى حال سبيله، ثم صعد "حماده الفارس" وحده إلى شقّته ليستريح قليلاً وليتناول الغداء البيْتي الذي افتقده طويلاً من يديْ زوْجته – التي استوْحشها كثيراً – وليقضي بعض الوقت بيْن أولاده قبل أن يُسدِل الليْل أستاره ترقُّباً للحفل الكبير الذي سيُقام في سُرادقٍ كبير – بدأ العُمّال في نصْبه بطول الشارع الرئيس – على شرف "حماده" احتفاءً به وتكريماً لخروجه بالسلامة في صحّةٍ وعافية.

وفي المساء احتشد أهالي الحي في السُرادق حيث طفقوا يتمايلون ويردِّدون وراء أنغام فرقة "الشاويشيّة" الموسيقيّة أثناء تناولهم ما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات – التي لم تكُن كلّها بريئة – والمُكيّفات أيْضاً، واشتعلت أجواء الحفل الحمراء والزرقاء حتّى وقتٍ متأخِّـرٍ من الليْل الذي أعياه السهر واستسلم مُنهَكاً فسلَّم رايته لساعات الصباح التالي، بينما ظلّ الحاضرون في قِـمّة نشاطهم وصخبهم فكانوا تارةً يلتفّون واقفين حوْل "حماده" الذي اتخذ مكانه فوْق مقعدٍ كبيرٍ عال على رأس السُرادق أو كانوا تارةً أخرى يرقصون ويُغنّون في كل الأنحاء أو كانوا تارةً ثالثةً يستريحون على مقاعدهم قليلاً ليتزوّدوا بجرعاتٍ مُكثَّفةٍ من المُخدِرات التي دارت عليهم بسخاء لتمنحهم مزيداً من الطاقة قبل أن تُنهي تأثيرها بالخمول والخمود.

الإثنيْن:

عند الفجر أذّن مُؤذِّن المسجد بصوّتٍ خفيضٍ على استحياءٍ كي لا يطغى صوْته على مَن يُحيي الحفل فيُزعِج المُتواجدين بالحفل الذين قاموا من فوْرهم فسلَّموا على "حماده" وهنّأوه مرةً أخيرةً بالإفراج عنه بعد فترة سجنه التي تمنّوها أن تكون كفّارةً له عن خطئه البسيط العارض وودَّعوه وغادروا إلى بيوتهم دون أن تصدر عنهم مُجرَّد التفاتةٌ عابرةٌ نحو المسجد الذي بدأت فيه شعائر صلاة الفجر وهو شبه خالٍ مِمَّن يعمُره.

وفي العصر طرق "عوض بِشلة" باب منزل "حماده الفارس" ففتح له أحد أولاده وأبلغه بأن أباه ما زال نائماً فطلب منه "عوض" أن يوقِظه واتَّجه إلى حُجرة "الصالون" لانتظاره، وبعد دقائقٍ دخل "حماده" على "عوض" الحُجرة فوجده مُنهَمِكاً في تدخين سيجارةٍ وهو يُقلِّب في بعض الأوْراق فاستقبله قائلاً:

-       صباح الفُل ياض يا "عوض".

-       صباحه ملعلِط أمعلِّمي.

-       إيه يا ابني اللي مصحّيك من آدانات ربّنا كده؟

-       ناموسيتك كُحلي يا اسطى .. ده احنا بقينا العصر.

-       يااااه! .. الواحد نام ولا حَس بحاجة .. أصلها أوّل نومة مَلَكي بعد تلات سنين نومة ميري.

-       الله لا يعودها أيّام يا اسطى .. بس إيه رأيك ف ليلتك امبارح؟

-       كانت زي العسل .. بس تلاقيك صرفت كل الفلوس اللي ادّيتها لك .. أصل انت إيدك مخرومة.

-       وحياتك حطّيت فوقها كمان من عندي.

-       يا ابن السايبة! .. صرفت أكتر من ميت ألف جنيه؟

-       معلهش يا معلِّمي .. ما انت لازم تتصيّت اليومين دول علشان نعرف نشتغل شُغلنا الجديد بقى.

-       الله يخرب بيت أهلك .. شُغل إيه اللي جديد بروح امّك؟

-       بُص يا معلّمي .. أنا راسِم لك حِتّة دين رسمة .. لو طاوعتني فيها ح نبقى ميريونيرات ف ظرف سنة.

-       باقول لك إيه .. إطلع من نافوخي .. أنا لِسّه طالع من أُم السِجن والعين عليَّ .. ومش عايز ارجع اتاجر ف الصنف اليومين دول .. خلّيني آخد نَفَسي شويّة.

-       صنف إيه بس يا اسطى .. ده أحسن صنف ح ييجي لحد عندك وببلاش.

-       اقتصر يا "عوض" .. عايز تقول إيه؟

-       طب صلِّ ع اللي ح يشفع فيك.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent