خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (25) الميّت والحي يلتقيان


الملكة عائشة تسكب سائلاً حارقاً على جثة كاليكراتس ضمن أحداث قصة رواية هي للسير هنري رايدر هاجارد

(25) الميّت والحي يلتقيان

 

 

تناولت "عائشةٌ" المصباح من "ليو" ورفعته فوْق رأسها وقالت:

-       انظر: هذا هو المكان الذي أقمتُ فيه ألفيْ عام.

وفوق سريرٍ من الصخر رأينا جُثّةً مُدرَجةً بأكفانٍ بيضاء، بينما وقع بصرنا على سريرٍ آخر مقابل قالت عائشة أنها كانت تقضي الليْل فوقه طوال هذه الأجيال، وقالت:

-       وهكذا حافظتُ على عهدي لك يا "كاليكراتس" مُدّة نومك .. والآن انظر يا سیّدي فسترى شيئاً غريباً .. ستری وأنت حيٌ شخصك وأنت ميّت.

وتقدَّمتْ من الجُثّة وهتفت:

-       سيلتقي الآن الحي والميّت .. إنهمـا شخصٌ واحدٌ رغم الأحقاب العديدة التي تفصل بينهما .. لقد حافظتُ على جُثَّتك يا "كاليكراتس" حتى تولد من جديد وذلك بفضل خبرتي وتجاربي في التحنيط وبفضل ما اقتبسته من علوم أهل "خور" .. انظـر.

وجذبتْ الأكفان فجأةً من فوق الجُثّة الباردة، وما أن وقع بصري على جُثّة الميّت حتى تراجعت مُترنِّحاً وقد استوْلى عليَّ الخوْف.

رأیْت أمامي ما خِلتُه جُثّة "ليو فنسي" وقد لُفَّت في أكفانٍ بيضاء، ورُحْتُ أُقَلِّب الطرف بين "ليو" الحي الواقف بجانبي وبين "ليو" الميّت المُسجَى أمامي، فلم أُلاحِظ أدنى فارقٌ بينهما إلّا أن صاحب الجُثّة المُسجاة كان أكبر سِنّاً.

وتحوَّلتُ إلى "ليو" لأرى كيف كان وَقْع ذلك الجُمـود والذهول مُجسَّميْن على وجهه، وقد ظلَّ ينظر إلى الجُثّة هُنيْهةً، ثم صاح:

-       أعيدوا الأكفان فوق الجُثّة .. وهلمّوا بنا.

فقالت "عائشةٌ" بصوْتٍ يَشِفُّ عن الجلال:

-       لا .. مهلاً يا "کالیکراتس" .. هل لك يا "هولي" أن تكشف الكَفَن عن صدر "کالیكراتس" الميّت.

فأذعنتُ مُرغَماً وأزحتُ الغطاء عن صدر الجُثّة فرأيْنا جُرحاً في القلب؛ هو لا شك طعنة خِنجر.

وقالت "عائشةٌ" لـ"ليو":

-       إنني أنا التي قتلتك يا "كاليكراتس" لأن "أمنارتس" المصريّة التي أحببتها اغتصبتك مني .. ولم أستطع أن أتخلَّص منها كما تخلَّصت من تلك الفتاة الآن لأنها كانت أقوى .. ولمّا ثارت ثائرتي قتلتك أنت .. وأمضيْتُ تلك الأجيال الطويلة وأنا أبكي وأنتحب حتى عُدْتَ إليَّ أخيراً .. سأمنحك الآن الحياة بدل الموْت .. حياةٌ تبقى ألوف السنين .. حياةٌ كلّها شبابٌ وبهجة .. وسأمنحك السُلطة والجاه والثروة بما لم ينَله رجلٌ آخر من قبلك .. ولكن مهلاً لحظة .. إن هذه الجُثّة التي تراها كانت عزائي الوحيد إبّان غيْبتك الطويلة .. أمّا الآن فلم تعُد بي من حاجةٍ إليها .. وسأردَّها إلى مثواها الذي منعتُها من الوصول إليه .. انظر .. لقد أعددت العُدَّة لهذه السـاعة السعيدة.

وتقدَّمتْ إلى رفٍّ فوْق فِراشها الصَخري وتناولت من فوْقه وعاءً زُجاجيّاً ذا يديْن وله غطاءٌ من الجلد، ثم تقدَّمتْ من الجُثّة وقبَّلت جبين الميّت، وأزاحت غطاء الوعاء ثم صبَّت منه سائلاً بعنايةٍ تامّةٍ فوْق الجُثّة، وتوخَّت الحذر كيْلا تُصيبَنا أو تُصيبها قطرةٌ منه، وفي التوْ تصاعد بُخارٌ كثيف، وامتلأ المكان بدخانٍ خانقٍ حال دون رؤية تفاعُل السائل مع الجُثّة، بيْد أننا كُنّا نسمع صوْت قرقعةٍ ما لبث أن تلاشي قبل أن يزول البُخار من الكهف، وأخيراً تبدَّدت الأبخرة عدا سحابةً صغيرةً انعقدت فوق الجثة ولكنها سرعان ما تبدَّدت أيضاً.

ونظرنا؛ فإذا بجُثّة "كاليكراتس" التي بقيت محافظةً على شكلها أجيالاً طويلةً قد تلاشت من الوجود، ولم يبقَ في مكانها غير قبضةٍ من مسحوقٍ أبيض بعد أن أتي الحامض على الجُثّة كلّها.

ومالت "عائشةٌ" فوق الصخر وتناولت كميّةً مـن المسحوق وذَرَتها في الهواء، ثم قالت بصوْتٍ هادئٍ رزین:

-       ليعُد التُراب إلى التُراب .. والماضي إلى الماضي .. والمفقود إلى المفقود .. لقد مات "كاليكراتس" وبُعِثَ من جـديد.

وقد بقي الرماد عالقاً بالهواء هُنيْهة، ثم أخذ يتساقط فوْق أرض الكهف الصخريّة، بينا وقفنا نراقب سقوطه وقد عقدت الدهشة ألسنتنا، ثم قالت "عائشة":

-       والآن .. عودا إلى فراشكما .. واتركاني لأخلو إلى نفسي .. وغداً سنرحل من هُنا في طريقٍ مضى عليَّ زمنٌ طويلٌ مذ وطئته قدماي لآخر مرّة.

فانصرفنا ذاهلين مأخوذين.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent