خبر
أخبار ملهلبة

صورة واحدة أرملة (2) | صور مشقلبة | د. أحمد صادق


أرملة أصيبت بانهيار عصبي بعد موت زوجها وحولها معارفها يرتدين ملابس الحداد السوداء

صورة واحدة أرملة (2)

 

 

الثلاثاء ليْلاً:

استعدتُ وعيي بعد فترة، لقيتهم ملقَّحينّي على نفس الكَنَبة دون أن يكون أحد بجانبي هذه المرّة، ووجدتُ النِسوان قد وضعوا الأنتريه وباقي الأثاث في إحدى الغُرف ليُفسِحوا مكاناً لوضع كراسي العَزا الخشبيّة داير ما يدور الصالة وجلستْ كل واحدةٍ منهن ترتشف القهوة وتتجاذب أطراف الحديث مع مَن بجوارها، وما أن لاحظن أنني فتَّحت عيني إلّا وقد ارتفعت حناجرهن بالصوات والصراخ بمُصاحبة النحيب والنشيج والنَدْب، ثم قامت "عديلة" و"عويلة" بتسنيدي لأجلِس على أحد الكراسي وأُشاركهن النواح والولولة، ولكني لم أعُد أقوى على عمل أي شيء حيث لم أضِع لُقمة ف بُقّي من امبارح وحسّيت إن روحي سايخة مني فطلبتُ من إحداهن رشفةً من الماء لأبِل ريقي اللي بقى عامِل زي الحَطَبة، فانبرت "أُم البُرص" من بينهن ودفست في فمي شفّاطة نفس علبة العصير عشان أخلّص باقي الكوكتيل اللي ما باحِبهوش، شربت العصير للآخر عشان اخلص من أُمّه وجلستُ واجمةً ذاهلةً دون أي رد فعل ممّا جعل "أُم البُرص" تقول:

-       لا حوْل ولا قوّة إلّا بالله .. الوليّة ح تموِّت نفسها يا وِلداه .. باين عليها سُكَّرها رجع يوْطى تاني.

ثم نهضتْ من على الكُرسي وتدلَّتْ من شبّاك الصالة تُنادي على ابنها "البُرص" الذي كان يجلس في معزى الرِجّالة بالشارع:

-       واد يا "بُرص" .. خُد تعالى .. اطلع لي هنا.

وأخرجت بُك الفلوس من صدرها وقال لابنها بعد أن صعد سريعاً:

-       خُد يا واد الفلوس دي جيب لنا حاجة ناكُلها من عند عمّك "جوده" البقّال .. ما حَدِّش كَل م الصُبح .. وما تنساش تجيب عصير كوكتيل لأبلتك "مُستكينة".

ودون أن أشعُر صرختُ قائلةً بصوْتٍ مبحوح:

-       بلاش كوكتيل يا وَلَه .. هات مانجه .. هاتها طبيعي يا وَلَه .. م اللي في الأزايز الإزاز .. (وتذكّرتُ جوزي الشرّاني عندما زغرت لي "أُم البُرص" شَزَراً فاستكملتُ كلامي) يا عيني عليك يا "عبده" .. يا اللي كُنت بتجيب لي كُل اللي نِفسي فيه (لم يحدُث) .. يا اللي كُنت مستِّتني (ما حصلش) .. آه يا "عبده" يا ابو الكَرَم (والنِعمة أبداً).   

وبعد دقائقَ رجع الواد "البُرص" حاملاً معه كيساً من المحمصة قائلاً:

-       لقيت عم "جوده" قافل دُكّانه عشان قاعِد ف العزا .. فجِبت لكم شويّة حاجات م المحمصة.

فقامت أُمّه بتوْزيع ما اشتراه ابنها على السيّدات الجالسات وأعطتني مصّاصة على أساس أن كُلّها سُكّر لتقيني من الهبوط والإغماء، وأصبح منظرنا غريباً وكأننا في عيد ميلاد أو طهور ولسنا في عَزا ميّت: "حَميدة" فتحِت شيبسي بطعم الكاتشاب و"ابتسام" بدأت تأكل بسكوت نواعِم و"أم البُرص" بقِت تقرقرض ف كيس شيتوس و"عديلة" قعدت تلحس في جيلاتي كيمو كونو وأُختها "عويلة" جه نصيبها ف قُرطاس لب سوري فضلِت تقزقز فيه ساعة من جوعها وكل ما تيجي واحدة تعزّي تدّيها شويّة لِب ف إيدها، أمّا أنا ففضضتُ غُلاف المصّاصة وما إن وضعتُها في فمي إلّا واستطعمتُ طعماً كريهاً فعُدتُ للغلاف – الذي ما زال في يدي – فقرأتُ عليه: "لولي بوب بنكهة كوكتيل الفواكه" .. ربنا ينتقم منك يا "بُرص" إنتَ وامَّك.

انتهى العزاء وقامت السيّدات للشَد على يدي وتقبيلي قبل أن يُغادِرن المنزل، فأخرجتُ المصّاصة من فمي ووضعتُها جانباً لأشكرهن، ولاحظت أن كل واحدةٍ منهن تمسح خدّيْها بعد تقبيلي لها فأدركت أن بُقّي كان بيلزّق من أُم المصّاصة .. مش مُهِم .. المُهِم إن اليوم عدّى على خير وبقيت أرملةً حُرّةً طليقة .. لولولولولولي.

الأربعاء:

قُمت م النوم براحتي بعد أن استمتعتُ بنوْمةٍ هنيّةٍ لم يُعكِّر صفوها أصوات شخيرٍ ولا ضُراط (ظُراط)، قعدت شويّتين ع السرير حاسّة بجسمي مكسَّر من مجهود امبارِح وبعدين نِمت تاني، براحتي بقى .. ما هو ما فيش زِفت جوز يكربجني ويخلّيني أجري ورا نفسي.

صحيت قبل العصر بشويّة على صوْت طرقاتٍ عنيفة على الباب، اتخضّيت وقُلت لنفسي:

-       يكونش جوزي – الله يجحمه مَطرح ما راح – كان ف غيبوبة سُكَّر وطلع حَي وخرج من قبره وراجع البيت ينغَّص عليَّ عيشتي من تاني؟!!!

جريت أفتح الباب وأنا مرعوبة لقيت "أُم البُرص" ف وِشّي بتقول:

-       إيه يا "مُستكينة" يا اختي!! .. ساعة عشان ما تفتحي .. ده انا افتكرت حصل لِك حاجة بعد الشَر .. أنا جايبة لِك لُقمة تاكليها .. عارفة إن انتي وجوزِك الله يرحمه مقطوعين من شجرة وما لكُمش حَد وما جِبنوش عيّل ولا تيّل .. خُدي من إيدي .. أسيبِك بقى .. البعيد جوزي زمانه جاي ولِسّه ما خلّصتِش الأكل .. لو عوزتي حاجة ابقى اندهي ع الواد "البُرص" ف الشارع .. سلام.

واللهِ كتَّر خيرها، الكيس تقيل وشكلها كده جايبة لي أكل كتير، فتحت الكيس لقيت فيه طبق فِل فيه صوبعين كُفته ورغيفين ومعاهُم أربع عَلَب عصير كوكتيل فواكِه .. ينيّلِك يا وليّة .. إنتي واخدة توْكيل الكوكتيل ف البلد!!!، حطّيت صوبعين الكُفته ف رغيف وكلتهم ورجعت انام تاني.

الخميس:

من امبارح نايمة، ما صحيتش غير بعد الفجر بشويّة، قُمت صلّيت ولبست الطقم الاسوِد بتاعي وأخدت شهادة الوفاة وبطاقة المجحوم جوزي وقُلت الحق المواصلات عشان اروح التأمينات اشوف موْضوع المعاش.

وصلت مكتب التأمينات الساعة تمانية ونُص، رفض الحارس دخولي إلّا بعد الساعة العاشرة لأن الموظَّفين يحضرون في التاسعة وينشغلون في الإفطار وشُرب الشاي حتى العاشرة ثم يبدأون في استقبال العُملاء، فضلت واقفة ف الشارع والشمس قَوَرِت دِماغي لغاية ما دخلت، طلب مني الموظَّف عِدّة أوراقٍ من مكان عمل جوزي – اللي ما تجوزش عليه الرحمة – بالإضافة إلى استخراج بعض المُستنَدات الخاصّة به وبي ثم خَتْمها من اتنين موظَّفين.

مشيت من التأمينات وقُلت ابتدي في الأوْراق من يوم الحَد لإني مش ح الحق أعمِل حاجة النهار ده والجُمعة والسبت أجازة، وقفت عند كُشك سجاير اشتري منه عصير مانجه علشان ابِل ريقي ف الحر ده، لكن صاحب الكُشك قال لي إن ما عندوش غير عصير كوكتيل فواكِه، شكلي ح اموت ونِفسي ف المانجه، الراجل استغرب جداً وبص لي من فوق لتحت ولم يرُد على سؤالي له عندما قُلت:

-       إنت تقرَب لـ"ام البُرص"؟!!!



(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent