خبر
أخبار ملهلبة

"أرواح بلا قبور" | قبو الصرخات (2)


صورة لأدراج الجثث بالمشرحة ويظهر درج مفتوح تبرز منه جثة مغطاة بملاءة بيضاء

"أرواح بلا قبور" | قبو الصرخات (2)

 

 

وبعد عدّة أيّامٍ تم عرض "سعيد" على النيابة مصحوباً باعترافاته الملفّقة التي أُجبر عليها فأنكرها جميعها وأفصح بأنّها تمّت تحت إكراه التعذيب الذي مورس عليه من قِبَل أفراد أمن الدوْلة وعلى رأسهم الرائد "سمير" وكشف للمحقّق عن بعضٍ من أجزاء جسده التي ترك التعذيب آثاره عليها فلم تجد النيابة بُدّاً من الإفراج عنه من سراي النيابة مع تحويله في اليوم التالي إلى مصلحة الطب الشرعي لتفنيد إدّعائه وإثبات صحّة مزعمه واتهامه للرائد "سمير" وزبانيته بتعذيبه وتزوير أقواله.

وفي مساء نفس اليوم عرف الرائد "سمير" بما صدر من "سعيد" أثناء تحقيق النيابة معه فعقد العزم على استغلال قانون الطواريء المطبّق آنذاك واعتقال "سعيد" مجدّداً لفترةٍ أخرى حتّى تزول آثار التعذيب وتنمحي أمارات الكهرباء والحروق والسياط من على جسده النحيل قبل عرضه على الطب الشرعي فتسقط جميع اتهاماته أمام النيابة ولا تجد مفرّاً من الأخذ بالاعترافات الكاذبة المخروصة، وبالفعل توجّه الرائد مع ثلاثةٍ من مساعديه إلى عنوان "سعيد" فلم يجدوه هناك فتربّصوا له أسفل منزله حتّى وصل المسكين فهجموا عليه كالضواري التي تنقض على فريستها ولكنه كان أسرع منهم فنكص على عقبيْه وأسرع بالفرار منهم وهم وراءه حتّى لحقوا به عند مدخل الشارع فأوسعوه ضرباً وركلاً دون تدخّل من المارة والجيران الذين جبنوا عن أن يدفعوا عنه هذا الضرب الوحشي وتسمّروا في أماكنهم يرقبون ذلك المشهد الأليم، وعندما أبدى "سعيد" مقاومةً زائدة أخرج الرائد "سمير" مسدّسه الميري وعاجل "سعيد" بضربةٍ هائلة على الرأس من أخمص سلاحه الصلب فخرّ "سعيد" من فوْره صريعاً وقد انبثقت الدماء غزيرةً من شجٍّ عميقٍ بدماغه فحمله المعتدون إلى صندوق سيارتهم وقد ظنّوا أنه مغشيٌ عليه.

وفي مقر أمن الدوْلة أيقن "سمير" ومن معه أن "سعيد" قد فارق الحياة فأسقط في يدهم فأخذوا يتباحثون فيما يمكن عمله حيال هذه الورطة التي وقعوا فيها خصوصاً أن هناك شاهدي عيان على اعتدائهم على "سعيد" وقبضهم عليه وهو بلا حراك فلن يستطيعوا اليوْم أن يدّعوا أنه هرب منهم كما فعلوا مع سابقيه الثلاث، وفي آخر الأمر رفعوا أمرهم إلى رئيسهم المباشر الذي وبّخهم على تهوّرهم ورعونتهم ولكنه طمأنهم على أن الأمر لن يخرج عن السيطرة بأي حالٍ من الأحوال.

وفي اليوْم التالي أثار أهل "سعيد" وجيرانه وأصحابه زوْبعةً في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي بعد أن نشر مجهول مقطعاً لفيديو يصوّر اعتداء الرائد "سمير" ومن معه على "سعيد" أثناء القبض عليه وتساءل الجميع عن مصيره الغامض فاضطر المتحدّث باسم وزارة الداخليّة أن يعلن عن وفاته لأسبابٍ لا يد للشرطة فيها رغم مقاومته للسلطات أثناء القبض عليه بسبب اتهامه بالاتجار في المخدرات، وأنكر سيادته ما وجّهته الصحافة من اتهاماتٍ للوزارة وصرّح بتسليم جثّة "سعيد" إلى الطب الشرعي لتشريحها لمعرفة سبب الوفاة الحقيقي لإثبات خلو جانب الشرطة من الضلوع في قتل الشاب، كما أبدى أسفه لوفاة "سعيد" ومشاطرة الوزارة لأسرته في أحزانها لمصابها الأليم.

ولم ينبلج فجر اليوم التالي قبل أن يتوجّه "سمير" مع ضابطٍ زميلٍ له إلى مشرحة الموتى الذين تنتظر جثامينهم التشريح بمصلحة الطب الشرعي - وقد لفّها السكون بعد أن خلت من عامليها - لمعالجة الأمر على نحوٍ تم رسم مساره بعناية بناءً على أوامرٍ عليا، وبعد أن سُمِح لهما بالولوج إلى قاعة ثلّاجات حفظ الموتى انتظر الضابط الثاني خلف باب القاعة ليمنع أحداً من الدخول حتّى ينهي "سمير" مهمّته السريّة سريعاً، وعندما اقترب "سمير" من جُسْمان "سعيد" أخرج من جيبه كيساً بلاستيكياً صغيراً يحوي قطعةً من مخدر الأفيون ملفوفةً بورق سُلُوفانٍ أحمر ثم ارتدى قفازاً رقيقاً ورفع الغطاء عن وجه "سعيد" الذي امتلأ بالكدمات والسحجات جرّاء الضرب المبرّح الذي تعرّض له قبل موْته، وبدمٍ بارد فتح "سمير" فم "سعيد" ودسّ لفافة الأفيون عميقاً داخل بلعومه، وفي هذه اللحظة انقطعت الكهرباء وانطفأت الأنوار فجأةً وخُيّل "لسمير" - تحت النور الباهت للقمر الذي مرّ بصعوبة من زجاج النافذة المتّسخ -  أن "سعيد" قد فتّح عيْنيْه موجّهاً نظرةً مفعمةً بالغضب والحنق نحو قاتله الذي ارتعب وندت عنه صرخةً خافتة لم يقوَ على الجهر بها، وقبل أن يسحب "سمير" أصابعه خارج فم "سعيد" كان فكّيْ "سعيد" قد أطبقا عليها محدثيْن جروحاً في تلك الأصابع من أثر عض أسنان "سعيد" لها ممّا جعل الدم ينزف بغزارةٍ منها فاضطر "سمير" إلى الاستغاثة بزميله وهو يتأوّه من الألم، فحضر الزميل جرياً وهو يتخبّط فيما حوْله بسبب الظلام الدامس الذي غشى القاعة وعندما رأى ما حدث اندفع خارجاً من القاعة وعاد بعد برهةٍ حاملاً معه بعض الأدوات الحديدية الصلبة التي تستعمل في التشريح والتي استعارها من حارس القاعة وأخذ يستخدمها في المباعدة بين فكّيْ "سعيد" ليستطيع "سمير" إخراج أصابعه المطْبَق عليها دون فكاك، وأخيراً نجح الزميل في مسعاه غير مبالٍ بتكسُّر وتهشُّم بعض أسنان "سعيد" في سبيل ذلك وأفلت "سمير" أصابعه وهو ينتفض وقد صارت تقطر دماً من كل جانب، وتناول الزميل قطعتيْن من القماش من على أحد المناضد القريبة ولفّهما حول أصابع كل يدٍ من يديْ "سمير" المصدوم وأخذ يضغط عليهما بقوّةٍ محاولاً وقف النزيف وباذلاً جهداً كبيراً في طمأنته - كذباً - بأن ما حدث كان بسبب التشنّجات العضليّة العاديّة التي تصيب أي جثّة في أوّل يوْمٍ من الوفاة، ثم اصطحبه ليذهبا لأقرب مشفي لتقطيب الجروح وكتمها وسط الأنين المكتوم للرائد "سمير" وشدّة توجّعه.


 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent