خبر
أخبار ملهلبة

الفصل الأوّل | شيء من الخبث (1)



الفصل الأوّل | شيء من الخبث (1)

 

 

المشاعل الملتهبة تتساقط متعاقبةً داخل غرفة "عتريس" الذي يستجمع شتات نفسه بعد أن كاد يتملّك منه الانهيار؛ فيغلق النافذة درءاً لدخول مزيدٍ من المشاعل ويتمكن من إطفاء معظم النار ويهرع - وسط سعالٍ شديد - لينادي على "إسماعيل" ويأمره قائلاً :

- إدّي أوامر للغفر يضربوا الناس ولاد الكلب دول بالرصاص الحي.

- وانا لسّه ح استني يا عمدة !.. ده انا أمرتهم بكده من حين ومين.. إنت مش سامع صوت ضرب النار م الصبح؟

- أنا فاكرهم بيضربوا في الهوا.

- لأ.. ف المليان يا عمدة.

- أومّال الناس دي ما بتجريش ليه علشان يهربوا؟.. هوَّ ما فيش حد منهم حصل له حاجة؟

- ده فيه ناس كتير ماتوا.. وناس أكتر انصابوا.. بس ما تفهمش إيه اللي حاصل.. رشّيناهم بخراطيم الميّه ف عز السقعة اللي احنا فيها.. ضربنا عليهم رصاص وخرطوش.. دهسناهم بالأوتومبيلات الميري والملاكي.. سيّبنا عليهم شوية عيال صيّع راكبين جمال وحصنة وبغال.. ما فيش فايدة.. الناس المرّة دي مستبيعة.. أنا متهيّأ لي إن المرّة دي غير كل مرّة يا سي "عتريس".   

- طب شد تلفون قوام لابوك الظابط "طهطاوي".. خلّيه يجيب عساكر الهجّانة بتوعه وييجي بالعجل.. بسرعة يا وله.. قبل ما ارمش يكونوا هنا.

- حاضر يا كبير.. أسترها يا رب.    

- آه يا بلد.. بقى دي آخرتها !

وتستمر هتافات أهل البلد تهدر في الساحة الأماميّة لدوّار العموديّة :

- جواز "عتريس" من "فؤادة" باطل.. جواز "عتريس" من "فؤادة" باطل.. باطل.. باطل.

وفي الحجرة المجاورة كانت "فؤادة" تنظر من بين القضبان الحديدية لنافذة حجرتها بدوّار العموديّة إلى أهل البلد نظرة استرحام كأنها تناشدهم أن يخلّصوها من أسرها وينتزعوا لها حريّتها من بين براثن العمدة الظالم "عتريس" الذي ظل ينتهكها لسنواتٍ طويلة ظلّت خلالها "فؤادة" أسيرةً مغتصبة حتّى ساءت جميع أحوالها وظنّت أن أهل البلد قد ماتت مروءتهم بعد أن أصبحوا كالأنعام التي تصحو فجراً ليتم ربطها في ساقية الحياة التي لا ترحم وهي معصوبة العينيْن تعمل وتأكل وتشرب ويتم الركوب عليها وحلبها وتجريف خيراتها، إلى أن يأتي المساء فتدخل حظائرها لترتاح قليلاً وتتناسل كثيراً وتنام.... وهكذا دواليك.

ولم يكن يدر بخلد "فؤادة" أبداً أن يستيقظ ضمير أهل البلد على يد شبابها ويُبعَثوا من حالة الموات التي دفعهم إليها "عتريس"؛ فيهبّوا تلك الهبّة بعد طول صبرٍ واستكانة.

أمّا على الناحية الأخري من البلدة فلم تلبث أن انقضت بضع دقائق حتّى بدأت قوات الهجّانة في إعداد العدّة للتحرك من ثكناتها على حدود القرية ومداخلها لتتجه صوب دوّار العمدة في همّةٍ واستنفار.

وفي خيْمة الضابط "طهطاوي" يدخل مساعده الضابط "عدنان" في عجلةٍ من أمره ويبادره بقوْله :

- خلاص يا فندي.. العساكر كلّاتهم رايحين على جمالهم ينجدوا العمدة.. ويربّوا شوية العيال اللي استجروا يعملوا كده.. هو آبا "عتريس" يستاهل منهم كده ولاد الجزم دول؟.. صحيح يا ولاد آخر خدمة الغز علقة.

- إنت كنت فين ياد يا "عدنان"؟.. سنة عقبال ما تيجي تدي لي التمام.. توّك ما افتكرت إني مشيّع لك عسكري علشان تجمع العساكر بسرعة؟.. إنت مش عارف إن صحّتي ما تجيبنيش اعمل الحاجات دي بنفسي؟

- واللهِ يا فندي أنا أوّل ما جاني العسكري خدت حصاني وجيت طاير ع البلد.. أنا أصلي كنت بأستقضى شويّة حاجات كده من "كفر الأماريك" اللي ف آخر الزراعيّة.. حاكم انا....

- خلاص خلاص.. بلاش لَت وعجن.. العساكر كلها جمعت بجمالها ولا فيه حد حرنان؟

- حرنان إيه يا فندي.. حد يستجري يحرن ع الأوامر.. دول كلاتهم تور الله ف برسيمه.. نقول لهم يمين يمين شمال شمال.. ينخّوا مطرح ما نعوز.. يعني على حطّة إيدينا.. قول يا باسط.

- طب ياللا بينا.. على بركة الله.

وامتطى "طهطاوي" و"عدنان" صهوة جواديْهما، وانطلقا في مقدّمة قوات الهجّانة المترجلة والراكبة على ظهور الجمال والخيول، وظلّوا ينهبون الأرض نهباً حتّى وصلوا إلى مشارف الساحة الخلفيّة لدوّار العموديّة حيث أمرهم "طهطاوي" بأن ينخّوا الجمال ويربطوا الخيول ويرابضوا في أماكنهم حتّى إشعارٍ آخر.

وسرعان ما ولج "طهطاوي" و"عدنان" إلى داخل الدوّار فوجدا "إسماعيل" أمامهما يقول :

- خشّوا للعمدة بسرعة ف قاعة المسافرين.. أحسن عقله خلاص.. ح يشّت يا ولداه.

فسارعوا بالدخول فلما رآهم "عتريس" بادرهم بقوله :

- شفتوا يا رجّالة اللي حصل آخر المتمّة؟.. أهو ده اللي ما كنّاش عاملين حسابه أبداً.

"إسماعيل":

- صحيح دول كانوا في جرّة وطلعوا برّه.

"عدنان":  

- ولا يهمّك يا عمدة.. إحنا جبنا رجّالتنا ومستعدين نقطّعهم لك نسايل نسايل.

"طهطاوي":

- بس يا وله.. إيه الجنان ده؟.. إنت عايز تعملها مجزرة؟.. ده احنا نروح فيها الأوّل قبل ما نخلّص عليهم.. ما شفتهمش قد إيه؟

"عتريس" :

- يعني إيه يا "طهطاوي"؟.. إيّاكش ناوي تبيعني وتنجد نفسك؟.. الله ف سماه أنا لو وقعت لاجيب رجليكم كلّاتكم معايا.. هوَّ انا يعني كنت باسرق واقسم مع حد غريب؟.. ما كلّكم معايا يا ولاد الهرمة.

"طهطاوي" :

 - ينقطع لساني لو قصدي كده يا سي "عتريس".. أنا باقول بس نحسبها بالعقل شويّة.. سيبك من كلام الواد "عدنان".. ده غشيم ومتعافي.

"عتريس":

- أومّال قصدك إيه بالظبط يا "طهطاوي"؟.. شور عليَّ يا خويا.. أنا لُصت خلاص.. يعني نسيبهم ينطّوا لي جوّه الدوّار وياخدوا "فؤادة" مني؟.. ده لا ممكن أبداً.

"إسماعيل":

- إستنّى بس يا عمدة نشوف "طهطاوي" قصده إيه.

"عتريس" لائماً "إسماعيل":

- والنبي يا خويا انت بالذات تنقّطنا بسكاتك.. أهو كلّه من جرايرك.. قعدت تقول لي: ماتخافش يا عمدة دول شوية عيال ما لهمش ديّة.. واقدر ألمّهم لك ف خمس دقايق.. ونرميهم ف الحجز ونعلّقهم لك ف الفلكة لحد ما يقولوا جاي.. ويبقوا عبرة لغيرهم علشان ما حدّش يعود للعملة دي تاني.. طلع كلامك كلّاته فَنْس.. إزايَّك بقى؟

"طهطاوي":

- يا جماعة مش وقته الكلام ده.. عقلنا ف راسنا نعرف خلاصنا.

"عتريس":

- قول يا فالح انت التاني.. ما انا ناقصك انت راخر.

"طهطاوي":

- يا عمدة ما انت جرّبت القوّة.. وخلّيت الغفر يدوّروا الضرب ف أهل البلد.. ويقتلوا شويّة منهم كمان.. كان إيه اللي جري؟.. أهل البلد اتلّموا اكتر واكتر.. وحطّوا إيديهم ف إيدين بعض وحلفوا ما يروّحوا بيوتهم قبل ما يقتلوك انت ورجّالتك.. ويولّعوا ف الدوّار كله لحد ما يطلّعوا "فؤادة".

"عتريس":

- إيه اللي في دماغك يا "طهطاوي"؟.. خلّص.

"طهطاوي":

- إحنا نهاودهم على قد عقلهم.. ونفهّمهم - كده وكده يعني - إن انا والهجّانة ح نقف معاهم ضدّك.. لغاية ما يهبطوا وينزلوا على فشوش.

"عتريس" فاغراً فمه:

- هه.

"طهطاوي" متشجعاً:

- يعني يا عمدة احنا نشيلك من قدامهم الساعة دي.. وتتنازل عن العموديّة لأي حد لغاية ما الموضوع يتلم.

"عتريس":

- نعم يا عين أمك؟.. أتنازل؟.. هأو.. ده على جتّتي وجتتكم كلكم.. فاهمين.

 


(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent