خبر
أخبار ملهلبة

المنقبة (الميزة) الرابعة: الكَرَمُ وإِجارَةُ المَلْهوف | سخصية مصر



الشَيْخُ "حاتِم"

 

 

كانَتْ الساعَةُ تَقْتَرِبُ مِنَ الرابِعَةِ فَجْرَ آخِرِ أَيَّامِ شَهْرِ يونيو 1996 حينَ اجْتازَ المُعارِضُ السياسي الليبي "مُساعِدُ الهُوني" الحُدودَ الليبيَّةَ - المِصْريَّةَ نازِحاً مِنْ مَدينَةِ "طَرابْلُس" الليبيَّةِ خَوْفاً مِنْ مُلاحَقَةِ رِجالِ "عَبْدِ اللهِ السنوسي" - قائِدِ الأَمْنِ الداخِلي والاسْتِخْباراتِ الليبيَّةِ وزَوْجِ أُخْتِ العَقيدِ "القَذَّافي" - الذينَ كانوا يَبْحثونَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ هَرَبَ مِنْ سِجْنِ "أَبو سَليم" مُسْتَغِلاً حالَةَ الإنْفِلاتِ الأَمْني عَقِبَ تَمَرُّدِ السُجَناءِ السياسيّينَ لِسوءِ أَوْضاعِهِم بالسِجْنِ والذي قابَلَهُ حُرَّاسُ القُوَّاتِ الخاصَّةِ بفَتْحِ النارِ عَلَيْهِم مِمَّا أَوْدَى بِحَياةِ ما يَزيدُ عَنِ الأَلْفِ ومَائَتي مُعْتَقَلٍ تَمَّ دَفْنُهُم في مَقْبَرَةٍ جَماعِيَّةٍ في باحَةِ السِجْن.

ورَغْمَ أَنَّ "مُساعِدَ" كانَ آنَذاكَ شابَّاً في أَواخِرِ العِشْرينيَّاتِ مِنْ عُمْرِهِ إلّا أَنَّ الأَهْوالَ التي مَرَّ بِها مُنْذُ اعْتِقالِهِ حَتَّى هُروبِهِ كانَتْ قَدْ تَرَكَتْ ذِكْرَياتِها السَوْدَاءَ في باطِنِ أَعْماقِهِ وآثارَها البَيْضاءَ عَلَى ظاهِرِ شَعْرِهِ فَبَدا وكَأنَّهُ كَهْلٌ فاقَ الأَرْبعينَ عاماً.

وكانَ "مُساعِدٌ" واجِماً يَسْرَحُ بِتَفْكِيرِهِ فيما يُخَبِّئُهُ لَهُ القَدَرُ حينَ أَفاقَ عَلَى صَوْتِ سائِقِ المَقْطورَةِ التي أَقَلَّتْهُ عِنْدَما سَأَلَه :

- إيه يا عَمْ.. سَرْحان فِ إيه؟.. بُكْرَه تُفْرَج إنْ شاءَ الله.

- إنْ شاءَ الله.. وين نِحْنا ها الحين؟

- إحْنَا وَصَلْنا "السَـــلّوم".. حَمْــد لله عَ السَــــلامَة.. إنْتَ دَه الوَقْت فِ أَمان.

- الله يسَلِّم عُمْرَك.. واللهِ أَنِّي ما بادْري كيف أَتْشَكَّر لَك.. أَنْقَذْت حَياتي وأَخْفَيْتَني بسَيَّارْتَك وأَطْعَمْتَني وسَقَيْتَني وعَرَّضْت حالِك للخَطَر بِدون أَيْ مُقابِل.. كان بإمْكانَك لَمَّا لَجَأْت لَك وأَوْقَفْتَك بالطَريق ورَوَيْت لَك عَنْ ظُروفي إنَّك تسَلَّمْني لِرِجال الأَمْن الليبيّين في نُقْطَة التَفْتيش وتِقْبَض مَصاري كَتير مِنْهُم.. لَكِنَّك.....

- بَسْ ما تكَمِّلْش.. إيه يا عَمْ انْتَ ما تِعْرَفْش المَصْريّين ولّا إيه.. إيش حال بَقَى احْنَا عايْشين معاكُم مِنْ سِنين ولَحْم كتافْنا مِنْ خيرْكُم.. يا راجِل دَه احْنَا عَدَدْنا أكْتَر مِنْكُم فِ "ليبيا".. ها ها ها.. اللي عَمَلْتُه دَه أَقَل مِ الواجِب.. وبَعْدين سيبَك مِ الكَلام دَه.. إنْتَ ناوِي تِعْمِل إيه؟

- وإيش أَسَوِّي ها الحين برَأْيَك.. الله غالِب.

- بُصْ.. أَنا عَنْدي نَقْلَة تانيَة مِنْ "سيدي بَرَّاني" ولازِم ارْجَع "ليبيا" أَوَدِّي البِضاعَة.. أَحْسَن حَاجَة إنِّي أَعَرَّفَك عَلَى كبير عيلِة "آلْ منِفَة" فِ "السَلّوم" الشِيخ "حاتِم نيفَة".. دَه راجِل مِيَّه مِيَّه.. وهوَّ اللي حَ يســاعْدَك.. إحْنَا نروح لُه الجــــامِع حَالاً.. زَمانُه راح يصَلِّي الفَجْر.. ورَبِّنَا يقَدِّم اللي فيه الخير.. بَسْ خُدْ الأَوِّل القِرْشين دول خَلّيهُم مَعاك عَلَشَان لَوْ احْتَجْت حَاجَة كِدَه ولّا كِدَه.. مِد إيدَك ما تِنْكِسِفْش إحْنَا إخْوات.

- كَتَّرْ خيرَك يا خوي.. رَبِّنَا يقَدَّرْني وارُد مَعْروفَك مَعي.

وذَهَبَا مِنْ فَوْرِهِما ليَلْحَقا بالشَيْخِ "حاتِمِ" في المَسْجِدِ فَأَدْرَكوهُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِف، وانْفَرَدَ السائِقُ بالشَيْخِ وحَكَى لَهُ في عُـجالَةٍ عَنْ ظُروفِ "مُساعِدٍ" الذي انْزَوَى بَعيداً في خَجَلٍ وحَياءْ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهِ الشَيْخُ مُرَحِّباً مُحْتَفياً في حينَ وَدَّعَهُ السائَقُ وذَهَبَ لِحالِ سَبيلِه.

واصْطَحَبَ الشَيْخُ ضَيْفَهُ إلى المَرْبوعَةِ في مَنْزِلِهِ وهُناكَ تَجاذَبا أَطْرافَ الحَديث :

- يا هَلا يا مَراحِب يا "مْساعِد" يا وَلَدي.

- أَهْلاً بَك يا حاج.. أَرْجو إنِّي ما أكون ضيف ثَقيل عَليك.

- لا يا رَجُل ما تقول هيك.. إنْتَ نَوَّرْتْنا اليوم.. ولاجْل لا تُشْعُر بإنَّك ثَقيل عَلَى حَدا عِنْدي إقْتِراح زين.. نِحْنا نِفْطَر الأَوِّل ونِشْرَب كوبين حِلْبَة باللَبَن والعَسَل ثُمَّ نِتْوَكَّل عَلَى الله نِذْهَب لدار صِغيرَة أَمْلِكْها في الحارَة اللي في الخَلْف ما حَدا بيُسْكُن فيها.. واعْتِبِرْها دارَك مِنْ ها الحِين وسَــــوِّي فيها كيف ما بَدَّك.. بَسْ فَكِّرْني اعْطيك شوَيْ ثِياب مِنْ عِنْدي حَتَّى اشْتَري لَك ثِياب جَديدَة.. وخُذْ هايْدي المَصارِي يمْكِن تِحْتاجْها.. خُذْ يا وِلْد مِنِّي.. إعْتِبِرْهُم مِنْ تَحْت حِساب راتْبَك مِنْ عَمَلَك مَعي.. أَنا تاجِر مَواد غِذائيَّة بالجُمْلَة وبَدِّي حَدا يساعِدْني في تجارْتي.. أَنا ما عِنْدي غير "زينَة" بُنَيَّتي اللي تَرَكِتْها لي زُوجْتي قَبْل ما تِقابِل رَبَّها.. وحَ اعْتِبْرَك ابْني مِنْ اليوم.

- هَدا شَرَف لي يا شيخ.. إنْتَ في مَقام والْدي رَحِمَهُ الله.. ورَحِمَ أُمِّي واخْوَتي جَميعاً اللي قَتَلْهُم "القَذَّافي" الكَلْب ابو شَرْشوبَة.. يا ريتُه قَتَلْني مَعَهُم غادي.. لَكِنُّه بيْريدْنا أَحْياء لاجْل ما يِشْبِع رَغَباتُه بتَعْذيبْنا.

- كَفَى يا وَلَدي.. إنْسَى ما فات وانْظُر لمُسْتَقْبَلَك.. ودير بالَك إنّي حَ اتْرِكَك تِرْتاح اليوم لَكِنْ العَمَل حَ يصير مِنْ باكِر.

- باهي.. باهي يا.. يا.. بوي.

ومَرَّتُ الأَيّامُ مُتَلاحِقَةً كالأَمْواجِ واسْتَطاعَ "مُساعِدٌ" أَنْ يُثْبِتَ للشَيْخِ "حاتِمِ" أَنَّهُ جَديرٌ بأَنْ يَكونَ ابْنَهُ الذي لَمْ يُنْجِبُهُ فَأَصْبَحَ ذِراعَهُ اليُمْنَى وساهَمَ في رَواجِ تِجارَتِهِ وازْدِهارِ أَحْوالِهِ مِمَّا حَدا بالشَيْخِ لِيُوافِقَ عَلَى تَزْويجِ ابْنَتِهِ مِنْ "مُساعِدٍ" بَعْدَما رَأَى الكَثيرَ مِنْ خِصالِهِ الحَميدَةِ وأَخْلاقِهِ العالِيَة.

وبَعْدَ خَمْسَةِ عَشَرَ عاماً مِنَ الحَياةِ في "مِصْرَ" كانَ "مُساعِدٌ" يُوَدِّعُ الشَيْخَ "حاتِمَ" الذي أَجارَهُ وأكْرَمَ وِفادَتِهِ وكَفَلَهُ وعَامَلَهُ كَابْنِهِ قَبْلَ أَنْ يُوَدِّعَ زَوْجَتَهُ وأَوْلادَهُ ويَعودُ إلى "ليبيا" ليُشارِكَ إخْوانَهُ هُناكَ ثَوْرَتَهُم ضِدُّ الطاغِيَةِ وأَزْلامِهِ عَلَى أَمَلِ الرُجوعِ إلَيْهِم يَوْماً إنْ أَمَدَّ اللهُ في عُمْرِهُ وأَنْجاه.

وما إنْ آبَ "مُساعِدٌ" إلى وَطَنِهِ حَتَّى انْضَمَّ إلى كَتيبَةِ "شُهَداءِ 17 فِبْراير" بجَيْشِ التَحْريرِ الوَطَني الليبي ثُمَّ كَتيبَةِ الصاعِقَةِ وأَظْهَرَ بُطولاتٍ عَظَيمَةٍ مَعَ رِفاقِهِ إلى أَنْ أُصيبَ بِشَظايا قُنْبِلَةٍ خِلالَ مَعارِكِ تَحْريرِ مَدينَةِ "سِرْت" قُبَيْلَ مَقْتَلِ "القَذَّافي" بعِدَّةِ أيَّام، وقامَ الأَطِبَّاءُ بِعِلاجِهِ بَعْدَ أَنْ اضْطُرَّوا إلى بَتْرِ ساقِهِ اليُسْرَى والتي كانَتْ ثَمَناً قَليلاً نَظيرَ تَطْهيرِ بِلادِهِ مِنَ الظُلْمِ والطُغْيان.

وبَعْدَ عامٍ آخَرٍ كانَتْ الأمورُ قَدْ اسْتَتَبَّتْ في "ليبيا" وكانَ أَفْرادُ أُسْرَتِهِ يَشْهَدونَ حَفْلَ تَنْصيبِ "مُساعدِ الهوني" كَأَوَّلِ وَزيرٍ لِشُئُونِ أُسَرِ الشُهَداءِ والجَرْحَى والمُقاتِلينَ والمَفْقودين، وعَقِبُ تَأْدِيَتِهِ اليَمينَ القانونيَّةَ اتَّجَهَ "مُساعِدٌ" وهوَ يَسيرُ عَلَى ساقَيْنٍ - إحْداهُما خَشَبيَّةٍ - نَحْوَ حَميهِ الشَيْخِ "حاتِمِ نيفَة" وانْكَّبَّ عَلَى يَدِهِ يُقَبِّلُهَا كَأَحْسَنِ ما تَكونُ مَشَاعِرُ الابْنِ نَحْوَ أَبيهِ عِرْفاناً بِجَميلِهِ عَلَيْهِ وتَقْديراً لِمَعْروفِهِ تِجاهِه.

google-playkhamsatmostaqltradent