خبر
أخبار ملهلبة

"شيء من الخبث" | الفصل الخامس (1)


واحد من متظاهري ثورة 25 يناير يقف في ميدان التحرير ويحمل لافتة مكتوب عليها: دم الشهداء في رقبتنا

"شيء من الخبث" | الفصل الخامس (1)

 

 

ومرّت الأيام تتوالى كالأمواج تهدر دون أن يحدث أيّ جديد؛ فالفوضى تسود القرية، والأمن هجر البيوت، والناس تبيت لياليها مفتوحة الأعين، والأرض لا تجد من يرعاها فالناس مشغولون عنها، والمصالح معطّلة، والقمامة ومخلّفات البيوت تملأ القرية وأزقّتها دون أن يساهم الناس في رفعها وتنظيفها مما ساعد على انتشار الأمراض، والاجتماعات بين أهل القرية والهجّانة تنعقد وتنفض دون أن تسفر عن أيّ شيء.. فقط كلامٌ ثم كلامٌ ثم كلام ولا فعلٌ على الإطلاق، وتجمّعات أهل القرية على المقهى تبدأ وتنتهي بلا معنى.. فقط نقاشٌ ومجادلةٌ وتناطحٌ وتشابك بالألفأظ وأحياناً بالأيدي ولا اتفاقٌ سوى على عدم الاتفاق حتّى ساحات لعب الحُكْشَة لم تسلم من التخريب واقتحام المتفرجين للمباريات التي كانت تقام بين شباب القرية وشباب القرى المجاورة.

باختصار ساءت جميع أحوال القرية عمّا كانت عليه أيّام "عتريس" وهو ما كان يرمي إليه الأخير، وبدأ الناس يندمون على ما حدث فلم تغيّر الثورة حالهم إلى الأفضل ولو قليلاً بل ما حدث كان على العكس تماماً، ولكن أقليّة من الشباب هم من فطنوا إلى ألاعيب الهجّانة وأسلوبها الخبيث في إدارة الأمور وحاولوا لفت نظر الناس إلى هذه اللعبة الرخيصة لكن دون جدوى، فلم ييْأسوا واجتمعوا سويّاً مع الشيخ "إبراهيم" في داره، وتجاذبوا معه أطراف الحديث:

الشيخ "إبراهيم":

- منوّرين يا شباب.

"شاب 1" :

- النور نورك يا شيخنا.

 الشيخ "إبراهيم":

- واللهِ بتفكّروني بالمرحوم "محمود" ابني.

"شاب 2" :

- الله يرحمه ويسامحه.. ما هو احنا جايين لك علشان كده.

الشيخ "إبراهيم":

- أأمروني.

"شاب 3" :

- الأمر لله وحده.. آديك شايف حال البلد بقى عامل ازّاي.

الشيخ "إبراهيم":

- أي واللهِ يا ابني.. حالها بقى لا يسر عدو ولا حبيب.

"شاب 3" :

- ده حتّى الناس اللي قتلوا "محمود" واصحابه مطلوقين ف البلد عايشين بحريّتهم.. ولا حتّى اترفتوا من الغفارة.

الشيخ "إبراهيم":

- بس احنا ح نعمل إيه؟

"شاب 1" :

- لأ.. ده احنا نعمل كتير وكتير قوي كمان.. يعني نسيب دم الشُهدا يروح هدر.. دول حتّى الناس اللي انصابوا طلّعوهم م الاسبيتاليا من غير مايكمّلوا علاجهم.. ومش لاقيين حق الدوا.

الشيخ "إبراهيم":

- برضه ما فهمتش عايزين إيه؟.. مش الظابط "طهطاوي" قال لنا إنه ح يعمل قعدة رجّالة علشان يحكموا على "عتريس" بما يرضي الله.

"شاب 4" :

- واهي مرت شهور من غير ما الزفت ده يعمل حاجة.

الشيخ "إبراهيم":

- إحفظ لسانك يا ابني.. ده مهما كان راجل أكبر منّك ف السن.. أهو ده بقى عيبكم.. الثورة خلّيتكم تتجرّأوا ع الكبار.

"شاب 4" :

- آسف يا حاج.. ما هو م اللي شفناه.

"شاب 5" :

- "طهطاوي" قال إن قعدة الرجّالة دي ح تتم بعد ما "عتريس" يخّف ويطلع من الاسبيتاليا.. والموضوع طوّل وباين عليهم بينيّمونا.. وتلاقي "عتريس" زي القرد وبيتصلبت فيها.. ومش ح يخّف ف سَنَته.

"شاب 3" :

- ما هو لو سابوه همّ احنا بقى اللي ح نروح الاسبيتاليا ونجيبه من قفاه.. ونموّته بإيدينا علشان ننتقم للشُهدا.

الشيخ "إبراهيم":

- لأ.. لأ.. ما تخلّوش حد يغلّطكوا.. إحنا قلنا ح نمشي بالأصول.. مش عايزين حد يمسك علينا غلطة أو زلّة.

"شاب 6" :

- خلاص.. يبقى تطاوعنا ف اللي ح نقول لك عليه.

الشيخ "إبراهيم":

- قول يا ابني.

"شاب 6":

- إحنا عارفين الناس بتحبك وبتسمع كلامك.. عايزينك وانت ف الجامع بتخطب بكره ف صلاة الجمعة تتكلّم عن ثواب الشهيد ومنزلة الشهيد وحق الشهيد علينا.. وبعد الصلاة تنصح الناس إنها تتلم ف الساحة القدّامانيّة بتاعة دوّار العموديّة علشان نجيب حق الشُهدا.. وبعد كده سيب الباقي علينا.

الشيخ "إبراهيم":

- حاضر.. بس من غير ما تؤذوا نفسكم أو غيركم.. كفاية الدم اللي سال ع الأرض.. عاهدوني على كده.. وإلّا مش ح اقف لكم ف حاجة بعد كده.. وح يبقى قلبي وربي غضبانين عليكم ليوم الدين.

"شاب 3" :

- ما تخافش يا ابا "إبراهيم".. وعهد الله ح نبعد عن المشاكل.

وفي يوم الجمعة تم ما اتفق عليه الشباب مع الشيخ "إبراهيم" وتوافد الناس أفواجاً في الساحة الأماميّة لدوّار العموديّة.. وكان الناس يردّدون وراء الشباب الذين تزعّموا المظاهرة: "يا شهيد نام وارتاح.. إحنا ح نعدم السفّاح"، و"ياشهيد نام واتهني.. هوَّ ف نار وانت ف جنّة"، و"القَصاص القَصاص.. قتلوا ولادنا بالرصاص"، و"يا عتريس فينك فينك.. دم الشهدا بيننا وبينك"، و"يا نجيب حقّهم.. يا نموت زيّهم"، وظلّت هذه الهتافات تتعالى والغضب يزداد في حين اختفى ضبّاط وعساكر الهجّانة من الساحة تماماً وغُلِّقَت أبواب ونوافذ وشرفات الدوّار.

في هذه الأثناء كان "عتريس" ورجاله في فيللا "دره" يتباحثون فيما استجد من أحداث وبادر "عتريس" بالقول :

- وبعدين يا رجّاله.. إيه العمل؟

"طهطاوي" :

- العمل عمل ربّنا يا عمدة.. إحنا لازم نطاطي للريح شويّة لحد ما تعدّي على خير.

"عدنان" :

- يعني ح تعمل إيه يا سي "طهطاوي"؟.. ح تنفّذ اللي همَّ عايزينه؟.. ح تعدم سي "عتريس"؟

"طهطاوي" :

- بس يا واد يا خرفان انت.. أنا قصدي ح نعمل قعدة الرجّالة اللي قلنا عليها اليومين دول.. مننا يبقى نفّذنا كلمتنا ومننا نريّح أهل البلد.. بس زي ما عملنا الاجتماعات معاهم ورسيت على ما فيش برضه ح نعمل قعدة واتنين وعشرة وميّة من غير ما ترسى على أيتها حاجة.. وفي الآخر ح يزهقوا وينسوا الموضوع.

"عتريس" :

- وتفتكر الحكاية دي ح تدخل عليهم؟

"طهطاوي" :

- وتدخل على أبوهم.. ما احنا لسّه ح ننفّذ الترتيبات التانية اللي اتفقنا عليها.. بس عايزين نتكتك صح.. أنا ح اروح لهم قبل الحكاية ما تدخل ف الغميق.

"عتريس" :

- بس أوّل ما تخلّص معاهم تعالى طمّني بسرعة.

"طهطاوي" :

- أمرك يا عمدة.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent