خبر
أخبار ملهلبة

المَثْلَبَة (الرَذيلَة) السادِسَة: الجُبْنُ والخُنوعُ والخُضوعُ والاسْتِسْلامُ - دونَ مُقاوَمَة - للأَوْضاعِ الخاطِئَةِ بَلْ والتَكَيُّفُ عَلَيْها | سخصية مصر


رسم كاريكاتيري عن نحات ينحت تمثالاً لحاكم ديكتاتوري طاغية ثم ينزوي في ركن الغرفةً خوفاً منه


الكُشَري

 


نَفَذَ "مهاودٌ" داخِلَ دارِهِ الريفيَّةِ المُتواضِعَةِ عابِساً وهوَ يُبَرْطِمُ بِكَلامٍ غَيْرِ مَفْهومٍ ويَضْرِبُ كَفَّاً بكَفٍّ مِمَّا دَعَى زَوْجَتُهُ "حَليمَةُ" إلي سُؤالِهِ :

- مالَك يا "ابو مطاوع"؟.. شايِل طاجِن سِتَّك ليه؟

- أَصْلي بِعْت مَحْصول القُطْن للجَمْعيَّة الزِراعيَّة وقَبَضْت تَمَنُه.

- طَبْ عال.

- عال إيه يا وليّه.. ما هُمَّ بَعْد ما خَصَموا المَديونيَّة اللي عَلَيَّ بتاعَة السِماد والبُذور وبَنْك التَسْليف والضرايِب والذي مِنُّه ما فَضَلْش غير الكام مَلْطوش دول.

- فَضْل وعَدْل.. نِعْمِة.. رَبِّنَا يبارِك فيها.

- يا وليّه يا مَهْبوشَة.. هُمَّ دول حَ يقَضُّوا إيه ولّا إيه.. دول تِلْتُهُم حَ يروح "لعَبْد الجَبَّار الدُكْش".. وتِلْتُهُم التاني حَ ادفَعُه لِبتوع الجَمْعيَّة الزِراعيَّة.. قولي لي بَقَى يا فالْحَة حَ نعيش إزّاي بالتِلْت اللي فاضِل طول السَنَة؟

- وانْتَ تِدِّي فُلوس "لعَبْد الجبَّار" ليه؟.. كاسِر عينَك بإيه؟

- كاسِر عيني وعين البَلَد كُلاّتها.. هوَّ حَدْ يقْدَر يفْتَح حَنَكُه مَعاه.. مِشْ فِتِوَّة البَلَد.. دَه مُمْكِن يسَمِّم البَهايِم ولّا يحْرَق لِنا الدار.. يا سِتّي الجُبْن سَيِّد الأَخْلاق.. خَلِّينا ماشيّين جَنْب الحيط أَحْسَن.. اللي قَبْلِنا قالوا : "الخوف نُصْ الشَطارَة" و"الهَزيمَة - مَعَ السَلامَة - غَنيمَة".. وقالوا كَمان : "اللي ما انْتَش قَدُّه ما تُقَفْش ضِدُّه" و"تَرْبِس بابَك بالضَبَّة ونام واسْتَخَبَّى".. مِشْ أَحْسَن ما يُطِخِّني عِيار يجيبْني الأرْض.. عَلَى رَأي المَثَل : " مِية كِلْمِة جَبَان ولا قولِة الله يرْحَمُه".

- طَبْ وبتوع الجمعيَّة؟.. مِشْ أَخَدوا المَديونيّات اللي عَليك؟

- آيْنَعَمْ.. بَسْ الفلوس دِكْهَه حَ ادِّيها لهُم رَشْوَة لاجْل ما يطَلَّعوني مِ الدَوْرَة الزِراعِيَّة الإجبَاريَّة.. وازْرَع المَحَاصيل اللي تِعْجِبْني بَدَل القُطْن والبَرْسيم اللي بازْرَعْهُم غَصْبٍ عَني وما بيَأكِّلوش عيش حاف.

- ويَعْني انْتَ حَ تِزْرَع إيه بالصَلاةُ عَ النَبي؟.. كاكا؟

- لأَ يا عَبيطَة.. حَ اعْمِل زَيْ "الشوادفي" مِتِّفِق مَعَ محَلات "أَبو حادق" بِتاعْ الكُشَري وبيزْرَع لحسابُه عَدْس ورُز وبَصَل وتوم وطَماطِم وحُمُّص شام.. ناقِص يزْرَع لُه مَكَرونَة.. وزَيْ ما انْتي شايفاه دَه الوَقْت.. بِسْم الله ما شاء الله.. دَه لِسَّه شاري الشَهْر اللي فات جاموسْتين وحُمار حَصاوي.

- عُقْبال ما اشوفك يا رب.

- تشوفيني إيه يا وليّه؟.. حُمار؟

- اسْم الله عَلَى مَقامَك.. قَصْدي اشوفَك زَيْ "الشوادفي".

- يسْمَع مِنْ بُقِّك رَبِّنَا.. طَبْ انا حَ اروح أَشَقَّر عَ الغيط.. مِشْ عايْزَة حَاجَة؟

- أَعوزَك طَيِّب يا خويا.. إلَهي يجعَل لَك فِ كُل خَطْوَة سَلامَة ويُجْبُر بخاطرَك ويجعَل فِ وِشَّك جَوْهًرَة وفِ بُقَّك سُكّرَة ويخَلِّيك شَمْعَة منوَّرَة ويحَبَّب فيك كُل مَنْ تَوَلَّى عَليك يا "مهاوِد" يا ابن "مِسْكينَة".

وغادَرَ "مهاودٌ" دارَهُ قاصِداً حَقْلَهُ وهوِ مَمْلوءٌ بالتَفاؤُل، ولَكِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ لِمَشارِفِ أَرْضِهِ لَمَحَ جَرَّافَةً أَوْ كَـرَّاكَةً ضَخْمَةً مِمَّا تُسْتَخْدَمُ في تَجْريفِ وإزالَةِ ما قَدْ يَسِدُّ القَنَواتِ المائيَّةَ مِنْ زَرْعٍ أَوْ طَميٍ أَوْ تَرَسُّباتٍ أُخْرَى، وما إنْ وَصَلَ حَتَّى فوجِئَ بأَنَّ هَذِهِ الكَرَّاكَةَ العَظيمةَ تَقِفُ مُعَطَّلَةً داخِلَ أَرْضِهِ مُحاطَةُ بنَفَرٍ غيْرِ قَليلٍ مِنَ المُهَندِسينَ والعُمَّال والأَفْراد وقَدْ باءَت مُحاولاتُهُم في إصْلاحِها بالفَشَل، وعِنْدَما سَأَلَ وتسائَلَ "مهاودٌ" عَمّا يجري داخِل أَرْضِهِ رَدَّ عَلَيْهِ أحَدُ المُهَنْدِسينَ بعَجْرَفَةٍ وتَعالٍ :

- إيه.. يَعْني حَ ناكُل أَرْضَك ولّا حَ نحُطَّها فِ جيبنا.. الحِكاية وما فيها إنّنا كُنّا معَدِّيّين مِنْ هِنا بالكرّاكَة عَلَشَان نِشيل بيها وَرْد النيل اللي سَدْ التِرْعَة خَالِص.. بَسْ اتْعَطَّلِت فِ أَرضَك ومِشْ عارفيين نصَلّحْها.. عُموماً إحْنَا حَ نسيبها هِنا لِغاية ما تِتْصَلَّح أَوْ نجيب وِنْش يسْحَبْها.. بَسْ الكَرَّاكَة دي بَقِت فِ عُهْدِتَك ولَوْ حَصَل لَها حَاجَة أَوْ اتْسَرَقِت حَ تِبْقَى انْتَ المَسْئُول.. فاهِم؟

وهاب "مهاودٌ" مِنْ هَذا التَحْذيرِ الوَهْميِ فاضْطُرَّ للمَبيتِ في الحَقْلِ لَيْلاً لحِرَاسِة الكَرَّاكَة، ولَكِنَّ شَيْئاً لَمْ يَحْدُثْ في اليوم التالي؛ فلَمْ يأْتِ مَنْ يُصْلِحُ الكَرَّاكَةَ أَوْ ينْقِلُها خارِجَ أَرْضِهِ، وظَلَّ "مهاودٌ" عَلَى هَذِهِ الحالِ أُسْبوعاً يَقْضي لَيْلَهُ ساهِراً حارِساً ويَشْغَلُ نَهارَه في زِراعَةِ جَميعِ مُكَوِّناتِ الكُشَري ما عَدا الحُمُّصِ الشامي الذي أَجَّل زِراعَتَهُ حَتَّى تَنْزاحَ الكَرَّاكَةُ التي احتَلّتْ مساحَةَ الأَرْضِ التي كانَ يَنْوي أَنْ يزْرَعَهُ فيها، وعِنْدَما أَعْياهُ السَهَرُ بَعْدَ العَمَلِ قَرَّرَ أَنْ يَشْكو حالَهُ للمُخْتَصِّينَ الذين أَعْفوه مَشكورينَ مِنْ حِراسَةِ الكَرَّاكَةِ بنَفْسِهِ وعَيَّنوا بَدَلاً مِنْهُ خَفيراً مُقيماً طوالَ اليَوْمِ بجانِبِ الكَرَّاكَةِ مِمَّا اسْتَدْعَى إقامَةَ كوخٍ مِنَ البوصِ والقَصَبِ وفُروعِ الأَشْـجارِ كَخُصٍّ لإقامَةِ الخَفيرِ مِمَّا جاءَ عَلَى حِسابِ مِساحَةٍ أُخْرَى مِنَ الأَرْضِ كانَ "مهاودٌ" قَدْ بَذَرَ بِها بُذورَ الطماطِمِ فتوقَّفَتْ عَنِ النُمُوِ قَبْلَ أَنْ تَنْبُت، وعِنْدَما طالَتْ إقامَةُ الخَفيرِ اسْتَجْلَبَ زَوْجَتَهُ وأَولادَهُ السَبْعَةَ وبَنى لَهُم بجانِبِ الخُصِّ بَيْتاً مِنَ الطوبِ اللَبِنِ فبارَتْ مِساحَةٌ جَديدَةٌ مِنَ الأَرْضِ كانَ "مهاودٌ" قَدْ خَصَصَها للعَدْس، ساعَتها عَدَلَ "مهاودٌ" عَنْ عَزْمِهِ عَلَى زِراعَةِ كُلِّ مُكَوِّناتِ الكُشَري واكْتَفَى فَقَطْ بِزِراعَةِ بَعْضَها.

ولَكِنْ بَعْدَ شُهورٍ بَدَأَ العُمَّالُ في انْتِزاعِ قِطْعَةً أُخْرَى مِنَ الأَرْضِ ليَتِمَّ تَمْهيدُها وتَعْبيدُها طَريقاً للعَرَبات التي تُقِلُّ المُهَنْدِسينَ والعُمَّالَ الذينَ يتوافَدونَ عَلَى الكَرَّاكَة لإصْلاحِها فاسْتَغْنَى "مهاودٌ" عَنْ زِراعَة الأُرْز، ثُمَّ خُصِّصَ جُزْءٌ آخَر لتَشْييدِ كُشْكٍ لتَشْوينِ الآلاتِ والمُعِدَّاتِ الخاصَّةِ بالكَرَّاكَةِ مِثْلِ الحَديدِ ومَكَنَةِ اللَحامِ وعَدَّةِ التَصْليحِ وخِلافِها عَلَى حِسابِ حَوْضِ زِراعَةِ البَصَل، وأَخــيراً أَنْشَـأَ المُهَنْدِسونَ والعُمَّالُ مَبْنى خاصَّاً لَهُم للمَبيتِ وتَجْهيزِ أكْلِهِم وشُرْبِهِم فجاءَ مَكانَ بَراعِمِ الثَوْم.

وبَعْدَ أَنْ تَبَخَّرَ حُلْمُ زِراعَةِ مُكَوِّناتِ الكُشَري أَفاقَ "مهاودٌ" عَلَى قَرارٍ صادِمٍ بمُصادَرةِ أرْضِهِ بأكْمَلْها مِنْ أَجْلِ المَنْفَعَةِ العامَّةِ مُقابِلِ تَعْويضِهِ بمَبْلَغٍ بَسيطٍ مَكَّنَهُ بالكادِ مِنْ افْتِتاحِ كُشْكٍ يَبيعُ فِيهِ الكُشَري عَلَى ناصيةِ الأَرْضِ التي كانَ يَمْتَلِكُها.

وعِنْدَما انتَقَدَتْهُ زَوْجَتُهُ وقالَت :

- يا راجِل اتْنَحْرَر اعْمِل حَاجَة.. طَبْ كُنّا بنقول الأَوَّل : "مِنْ خَوفُهِ عَلَى عيالُه صابِر عَ اللي يجرَى لُه".. أَهُم العيال إتشَحْطَطوا وبَقينا مِنْ غير أَرْض ولا دَوَّار تلِمِّنا.. خايِف مِنْ إيه تاني؟

ردَّ عَلَيْها قائِلاً في انهِزاميَّة مَريرَة :

- يا سِتّي.. مَنْ خاف سِلِم.. وعَلَى رأْي المَثَل : "عيش جَبان تموت مَسْتور".

google-playkhamsatmostaqltradent