خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (32) قفزة من أجل الحياة


جثة امرأة عجوز ملقاة على الأرض ومغطاة بملاءة بيضاء

(32) قفزةٌ من أجل الحياة

 

 

لستُ أدري کم بقينا على هذه الحال، ولو أني أظن أننا مكثنا ساعاتٍ طويلة، وعندما عدتُ إلى رُشـدي ألفيْتُ "جوب" و"ليو" لا يزالان غائبيْن عن الوعي.

وكان الضوْء الوردي لا يزال يُضيء كالفجر وصوْت "ينبوع الحياة" لا يزال يدوّي كما كان .. ووقع بصري على ذلك الجسم المُفزِع المُنكمِش المغشي بجلدٍ أصفر مجعَّدٍ كالرَّق، وهو نفس الجسم الذي كان منذ ساعاتٍ قليلةٍ جسم "هي" الرائع.

تُرى؛ ماذا حدث حتى وقع هذا التطوُّر المُخيف؟!، هل تغيَّرت طبيعة النار فأصبحت تُنذِر بالفَناء بدلاً من أن تمنح الحياة؟!، أو هل لا يستطيع الإنسـان أن يتحمَّل تأثيرها مرَّتيْن؟

إن هـذا التفسير الأخير هو التعليل الوحيد المعقول لهذا التغيير الفُجائي المُخيف الذي أصاب "عائشة" فقضى عليها بعد أن عاشت أكثر من ألفيْ عام.

ولكن هل هُناك مَن يستطيع أن يقول ماذا حدث؟، إن الحقيقة موجودةٌ وهي أن يد الله تدخَّلت في الأمر، ربما لأن "عائشةٌ" لم تُحدِث تأثيراً يُذكَر في نظام العـالم وهي قابعةٌ في مقصورتها المُنعزِلة في كهوف "خور" تنتظر من جيلٍ إلى آخر مجيء حبيبها، ولكن كان من المحتمل أن تُثير "عائشة" - وهي في أوْج جمالها وعنفوان قوّتها - الفِتَن في المجتمع الإنساني فتُغيِّر مصائر الشعوب، لقد سخرت "عائشة" من القانون الأبـدي ولـكنه اكتسحها في النهاية برغم سطوتها وجبروتها.

أدركتُ أنه من العبث أن أتمادى في التفكير ورفيقاي غائبان عن الوعي، فنهضتُ وأنا أترنَّح، وغطيْتُ الجُثّة المُخيفة بذلك الإزار الأبيض الذي كانت ترتديه "هي" وهي في عُنفوان مجدها وبهائها، ثم تقدَّمتُ من "جوب" - وكان مُنبطِحاً على وجهه - وقلبته إلى جانبه، بیْد أنني حين رفعتُ ذراعه سقطتْ من يدي كقطعةٍ من الخشب فاقشعرَّ جسمي، وتفرَّستُ في وجهه وعندئذٍ أدركتُ كل شيء، كان "جوب" قد فارق الحياة ولا ريْب أن أعصابه لم تحتمل تلك الصدمات المتتالية التي تعرَّضنا لها في الفترة الاخيرة، ثم جاء الحـادث الأخير - مصرع "هي" - فقضى عليه من فرط الذُعر، أو بسبب نوْبةٍ قلبيّةٍ مُفاجِئةٍ نتجت عن الحادِث نفسه.

و تركتُ "جوب" التَعِس وأوْليتُ عنایتي "لیو"، فاستطعتُ أن أُعيده إلى رُشده بعد نحو عشر دقائق، وإذ أخبرته بموْت "جوب" تأوَّه من قلبٍ مكلوم وسكت، وكانت آهته أبلغ من مُجلَّداتٍ في التعبير عن الأسى لفَقْد هذا الخادم الأمين المُخلِص.

وقد حانت مني التفاتةً إلى شعر "ليو" وشدَّ ما كان ذهولي ودهشتي حين رأيْتُ ذلك الشَعر الذهبي الجميل وقد استحال إلى شَعرٍ أشيب له لوْن الثلج، وسأل "ليو" بصوْتٍ خافت:

-        ماذا سنفعل الآن أيُّها الصديق؟

فأجبتُ بحـزن:

-        أُظن أن علينا أن نحاول الخروج من هـذا المكان .. اللهم إلّا إذا كنتَ تريد الذهاب إليه.

وأشرتُ إلى عامود "نار الحياة" الذي كان مُقبِلاً في تلك اللحظة، فابتسم "ليو" وقـال:

-        بوِدّي ذلك لو كنتُ مُتيَقِّناً من أنه سيقضي عليَّ .. إن تردُّدي المَشئوم هو الذي أدّى إلى كل ذلك .. إذ لوْلا ريْبتي لما حاولتْ "هي" أن تُرشِدني إلى الطريق .. بیْد أنني لستُ واثقاً من أنه ليس للنار تأثيرٌ مضـادٌّ فتجعلني أبديا وهو ما لا أبغيه أو أريده .. فأنا أُفضِّل الموْت متى حانت منيّتي لأنطلِق باحثاً عنها بدل انتظارها آلاف الأعوام .. جَرِّب أنت إذا شِئت.

فهززتُ رأسي استياءً .. وقد امتعضتْ نفسي من فكرة طول العُمر، وأخيراً قُلت:

-        خيْرٌ لنا أن نُعجِّل بالذهاب خشية أن يعدو علينا عادي الردى (هلاك الموْت) كما عدا على هاتيْن الجُثّتيْن.

وملأتُ المصباحيْن زيْتاً، ثم أشعلتهما بعودٍ مـن الثقاب كان معي، وتحوَّلتُ إلى "ليو" أدعوه للرحيل، وتناول كِلانا يد "جوب" وهزَّها كوداعٍ أخير، ولكننا لم نستطِع رفع الغطاء عن جُثّة "عائشة"، فقد زهدت نفوسنا شهود ذلك المنظر الرهيب مرَّةً أُخرى، بيْد أننا لم نشَأ الرحيل دون أن نتزوَّد من تلك المرأة بما يُذَكِّرنا بها فأخذ كلٌ مِنّا خُصلةً من شَعرها، ووضع "ليو" خُصلة الشَعر المُعطَّرة على شفتيْه، وقال بصوْتٍ أجش:

-        لقد نادتني ألّا أنساها .. وأقسمتُ أننا سنلتقي مرَّةً أُخرى .. فبحق السماء لن أنساكِ يا "عائشة" .. أُقسِم أن أظل وفيّاً على العهد فلا أصغى إلى صوْت امرأةٍ غيركِ ألى يوْم نلتقى.

وعلى أثر ذلك غادرنا الكهف.

اجتزنا الكهوف الأولى بسهولة، ولكننا لم نكَد نصل إلى منحدر القُمع الصخري حتى واجهتنا عقبتان: الأولى صعوبة التسلُّق والثانية جهلنا بالطريق، وأمّا العقبة الأولى فقد ذللناها بقوّة الإرادة والصبر، وأمّا الثانية فكادت توردنا موارد التهلُكة ولوْلا ما انطبع في ذهني من رسم الطريق لفقدنا أنفسنا وسط هذه الكهوف والدهاليز المُتشعِّبة، وقد حدث أن رُحنا نضرب في هذه الكهوف نحو أربع ساعاتٍ حتى خُيِّل إليَّ أننا ضللنا الطريق، وبينا أنا غارِقٌ في هواجسي إذ رأيْتُ صخرةً هائلةً كنتُ قد رأيْتُها بعد هبوطنا من وكر الناسك "نوت" بمُدّةٍ وجيزة، ولم أفطن إليها إلّا بعد أن تجاوزنا الطريق الصحيحة وبدأنا نسير في طريقٍ أُخرى.

عُدتُ أدراجي إلى الصخرة وفحصتها على ضـوْء المصباح، وكانت التفاتتي العارضة إليها سبباً في نجاتنا، فتسلَّقنا الدرج الطبيعي دون كبير عناء، وبعد هُنيْهةٍ ألفيْنا أنفسنا في غُرفة الفيلسوف "نوت"، بيْد أنه اعترضتنا عقبةٌ أُخرى كؤود، وتِلك هي: كيْف نجتاز الهوّة بعد أن أضاع "جوب" اللوْح الخشبي الذي عبرنا فوْقه عند المجيء؟، ولم نجد غيْر حلَّيْن لذلك الموْقِف الدقيق: أوّلهما أن نجتاز الهوّة قفزاً وثانيهما أن نبقى حيث نحن حتى نهلك.

ومع أننا كنا واثقيْن من قوّتنا على تخطِّي المسـافة قفزاً إلا أننا كنا في حالةٍ سيّئةٍ من الإعياء والتعب بحيث لا تخلو المُجازَفة من خطرٍ عظيم.

وقد استقر رأينا على الأخذ بثاني الرأييْن، ولكننا رأيْنا الانتظار حتى يُضيء شُعاع الشمس الذي يخترق أحشاء الظُلمة عند الغروب بالرغم من أننا كُنّـا نجهل متى يصل لنا هذا الشُعاع؟

وعلى الأثر غادرنا الغُرفة وأخذنا نزحف ببطءٍ وحذر حتى بلغنا الصخرة الكُبرى، وعنـدند انطفـأ نور المصباحيْن‘ ومضت الساعات تِباعاً ونحن قابعان في مكاننا وقد غمر الحُزن قلبيْنا، ودفعنا الخوْف إلى التشبُّث بالصخرة كما يتشبَّث الغرقى بحُطام السفينة.

وفيما كنا مُمدَّين فوْق الصخرة - نصغى إلى دوي الرياح وزئيرها - إذ وقع حادثٌ غريبٌ ذو مغزی، ذلك أن الإزار - الذي كانت الرياح قد انتزعته من فوْق كتفيْ "عائشة" وحملته معها في الظلام وغطَّيْتُ أنا جُثّتها به – قد سقط في تلك اللحظة فوْق "ليو" حتى غطّاه تقريباً من الرأس إلى القدم، لم يُدرِك أحدنا ماهيّته في البداية، بيْد أننا سُرعان ما عرفناه من نسيجه، وكان ذلك باعِثاً لـ"ليـو" على الاستسلام للحُزن لأوّل مرّة إذ سمعته يبكي وهو مُعلَّقٌ بيْن السماء والأرض، ولا ريْب في أن الإزار قد تعلَّق بإحدى الصخور البارزة ثم حملته الريح مصادفةً حتى استقر فوق "ليو".

ولم يُنقِذنا من ذلك الموْت الرهيب غير ظهور الضوْء فجأة فغمر الصخرة التي كنا فوقها وانعكس على النتوء المُقابِل لها، فهتف "ليو":

-        لقد حان وقت العمل.

فقلت:

-        مَن مِنّا سيذهب أوّلاً؟

فأجابني "ليو":

-        اقفِز أنت أوّلاً أيُّها الصديق .. وسأجلس على طرف الصخرة من الناحية الأُخرى كي أُثبِّتها في مكانها .. اركض بكل قوَّتك ثم اقفز وليساعدنا الله.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent