خبر
أخبار ملهلبة

"أرواح بلا قبور" | المظلة السوداء (3)


يدان ترتفعان بالدعاء أمام قبر أحد المتوفين في المقابر أو المدافن

"أرواح بلا قبور" | المظلّة السوْداء (3)

 

 

وعندما آن الأوان حلّ الحاج "عبد الغني" ضيْفاً كريماً على الحاج "نادر" بشركته، وما إن مرّ الأوّل ببوّابة الشركة الخارجيّة وأفصح عن شخصيته لأفراد الأمن حتّى نزل الأخير من مكتبه مسرعاً ليكون في شرف استقبال مَن أكرمه وأنقذ مستقبله ومستقبل شركته، ثمّ رافقه حتّى مكتبه وسط عبارات الترحيب والاحتفاء، وبمجرّد أن جلس الحاج "عبد الغني" على كرسيه حتّى فتح فاه مبهوتاً من وقع المفاجأة ؛ فقد شاهد صورة الشيْخ العجوز الذي أنقذ حياته في إطارٍ من الخشب الأسود على الحائط المواجه له فأمعن النظر مليّاً في الصورة ممّا لفت نظر الحاج "نادر" فسأله عن سبب ذلك فقصّ عليه القصّة بحذافيرها، فضحك الحاج "نادر" مِلْء شِدْقَيْه وقال :

- ها ها ها.. يخلق م الشبه اربعين يا حاج.. دي صورة الحاج "شحته".. والدي الله يرحمه.. اللي أسّس المصنع وأنشأه.. ده مات من أكتر من تلاتين سنة.. بس سيبك من الحكاية دي.. سيادتك إزّاي تروح تشتري أرض ف "العزّازي" من غير ما تاخدني معاك؟.. أنا أصلاً من عزبة "الجلاهمة" اللي بعدها على طول وانت رايح ع "الصالحيّة القديمة".. إنت لوْ كنت قلت لي كنت وقّعت لك الأرض دي برخص التراب.. الناس كلّها هناك حبايبي وبيعملوا لي خاطر ويتمنّوا يخدموني.. أقول لك.. طب ما احنا فيها.. لو لسّه عايز تشتري الأرض دي نروح بكره نتّفق مع الناس.. وألف مبروك عليك مقدّماً.

وتقابل الرجلان في صباح اليوْم التالي وسافرا معاً بسيّارة الحاج "نادر" الذي توسط بين الحاج "عبد الغني" وصاحب الأرض الذي يعرفه جيّداً منذ زمن وتمّ  الاتفاق على كل شئ ووُقِّعَت العقود بعد أن دفع الحاج "عبد الغني"  ثمناً مناسباً لها وسط فرحته الجمّة ومباركة الحاضرين.

وبعد أن انتصف النهار استضاف الحاج "نادر" ضيْفه الحاج "عبد الغني" في منزل عائلته الريفي بعزبة "الجلاهمة" وتشاركا وليمة الغداء وهما يتجاذبان أطراف الحديث ويتبادلان حلو الكلام، وعندما أُذِّن لصلاة العصر قاما وصلّياه وتجهّزا للسفر حتّى يصلا العاصمة قبل حلول الظلام، ولكن المضيف استأذن الضيْف قبل الانصراف من العزبة في أن يعرجا على مقابرها ليقرآ الفاتحة على روح والده الحاج "شحته جلهوم" فرحّب الضيْف بذلك أيّما ترحيب ولم يسعه أن يرفض خاصّةً بعد الكرم الذي لاقاه من مضيفه.

وعندما دخلا ساحة المقابر توجها بالسلام على ساكنيها من أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وترحّما عليْهم وهما في غاية الخشوع الذي تفرضه رهبة المقابر وهيْبة الموت على الأحياء، ولفت نظر الحاج "عبدالغني" ما رآه عند مدخل المقابر فقد رأى درّاجةً قديمةً صدِئة مسنودةً على الجدار تشبه تلك الدرّاجة التي كان يركبها الشيْخ المسن الذي أنجاه من محنته فسأل عن صاحبها فعرف أنه خفير المقابر وحارسها فبحث عنه مع الحاج "نادر" حتّى وجده ينظّف إحدى أحواش المقابر ولكنه وجده رجلاً في أواسط العمر ؛ سميناً إلى حد البدانة ؛ أسمر البشرة ؛ ذو عينيْن ضيّقتيّن ؛ أفطس الأنف ؛ غليظ الشفتيْن ؛ كث اللحية ؛ كأبعد ما يكون عن صفات وملامح ذلك الشيْخ العجوز، فحاول الحاج "عبد الغني" أن يتناسى أمر الشيْخ ويستبعد التفكير فيه قبل أن يستحيل وسواساً يطارده وشبحاً يسكن مخيّلته.

وسار الحاج "عبد الغني" وراء الحاج "نادر" إلى حيث قبر أبيه وقرآ له الفاتحة وما تيسّر حفظه من سورة "يس"، وقبل أن ينصرفا لاحظ الحاج "نادر" أن فناء المقبرة غير نظيف وقد تناثرت على أرضه بقايا الأوراق والأكياس التي تذروها الرياح فنادى على الخفير وأمره أن يلملم هذه المهملات ويرش بعضاً من المياه على الأرض الرمليّة لتسكين الأتربة وتلبيدها كما هي العادة، واستجاب الخفير للأمر ونفّذ ما طُلِب منه ولكنّه عندما اقترب من البناء الأمامي للقبر أبصر شيْئاً من قماشٍ أسود غير واضح المعالِم قد أهيل عليه التراب أسفل شاهِد القبر مباشرةً فنبّه الحاج "نادر" لهذا الشيء فأمره أن ينبش التراب بيديْه ويستخرج هذا الشيء، وعندما كان الخفير يزيح الأتربة والرمال من فوق هذا القماش الأسود بدأ يظهر كنهه وحقيقته جزءاً فجزءاً فإذا بها مظلّة الحاج "عبد الغني" السوداء ذات اليد الخشبيّة المطعّمة بالأصداف. 



 (تمّت)

google-playkhamsatmostaqltradent