خبر
أخبار ملهلبة

الخيميائي | باولو كويلو | الجزء الخامس عشر والأخير


الخيميائي وسنتياجو يسيران أثناء رحلتهما في الصحراء ضمن أحداث رواية الخيميائي لباولو كويلهو

الجزء الخامس عشر

 

 

ساروا طيلة النهار، وعندما حل الليْل صرف الخيميائي الحرس، وكانا قد وصلا بالقُرب من أحد الأديرة، ترجَّل الخيميائي عن حصانه وقال للشاب:

-       بدءاً من هُنا ستمضي وحـدك .. لا تفصلك عن الأهرام سوى مسيرة ثلاث ساعات.

-       شُكراً لك .. لقد علَّمتني لُغة العالَم.

-       لم أفعل سوى أني ذكَّرتُك بما كنتَ تعرفه بالفعل.

طرق الخيـمـيـائي باب الدير فـفـتـحـه راهبٌ يرتـدي السـواد، تفـاهـم الخيميائي معه لحظةً ثم أدخل الشاب وهو يقول:

-       طلبتُ منه أن يأذن لي باستخدام المطبخ لبعض الوقت.

دخلا إلى مطبخ الدير وأوْقد الخيميائي ناراً، وأحضر الراهب بعضاً من الرصاص راح الخـيـمـيـائـي يُصـهِـره في وعاءٍ من الحـديد، وعنـدمـا ذاب الرصاص أخرج الخيميائي من حقيبته تلك البيْضة الزُجاجيّة الصفراء الغريبة، وكشط منها شذرةً في سُمك الشَعرة غلَّفها في شمعٍ ورمى بها في الوعاء الذي يحوي الرصاص المُذاب، فاصطبغ المزيج بحُمرةٍ قانية، عندها سحب الخيميائي الوعاء من فوْق النار وتركه يبرد، وفي انتظار ذلك أخذ يتحدَّث إلى الراهب عن حرب العشائر:

-       يبدو أنها حربٌ ستطول.

شعر الراهب بالضيق، فمنذ وقتٍ طويل والقوافل المُجمَّدة في "الجيزة" تنتظر نهاية الحرب، ثم قال: وقال بعد فترة :

-       ولكن فلتكن مشيئة الرب.

وردَّ الخيميائي:

-       نعم فتلكن مشيئته.

وعندما برد المزيج تطلَّع إليه الراهب والشاب في انبهار، كان المعدن قد تجمَّد في باطن الوعاء، ولكنه لم يعد رصاصاً، كان ذهباً، سأل الشاب:

-       هل بوسعي أن أتعلَّم ذات يوْمٍ أن أصنع مثل هذا؟

رد الخيميائي:

-       تلك هي أُسطورتي الذاتيّة لا أسطورتك .. ولكني أردتُ أن أُبرهِن لك أن هذا مُمكِن.

رجعوا إلى باب الدير وقسَّم الخيميائي القُرص إلى أربعة أجزاء، قدَّم جُزءاً منها للراهب قائلاً:

-       هذا من أجل كرمك للغُرباء.

فردَّ الراهب:

-       هذا شُكرٌ يتجاوز کرمي بكثير.

وقال الخيميائي:

-       لا تقُل هذا .. فقد تستمع الحياة إلى ما تقوله فتُعطيك في مرّةٍ أُخرى ما هو أقل.

ثم اقترب من الشاب وقال:

-       وهذا لك .. لكي يعوِّض الذهب الذي استوْلى عليه قادة الحرب.

أوشك الشاب أن يقول إن هذا أكثر بكثيرٍ ممّا فقده، ولكنه سكت حين تذكَّر ما قاله الخيميائي للراهب، ثم قال الخيميائي:

-       أمّا هذا الجُزء فلي .. لأني يجب أن أعود مُخترِقاً الصحراء من جديد .. والحرب ما زالت دائرةً بين القبائل.

ثم أخذ الجُزء الرابع وأعطاه للراهب وهو يقول:

-       وهذا الجُزء لهذا الفتى إن احتاج إليه.

قال الشاب:

-       ولكني سأعثُر على كَنزي .. وأنا الآن قريبٌ منه جدّاً.

فقال الخيميائي:

-       أنا واثقٌ تماماً أنك ستعثُر عليه.

-       وإذن فلِـمَ هذا الجُزء الإضافي؟

-       لأنك حتى الآن فقدتَ مرّتيْن ما كسبت من مالٍ خلال رحلتك .. مرّةٌ مع اللص ومرّةٌ مع القائد الحربي .. وأنا أعرابيٌّ عجوزٌ مُتطيِّرٌ أؤمن بأمثلة قومي .. ومنها مثلٌ يقول: "كل ما يحدُث مرّةً واحدةً قد لا يتكرَّر أبداً .. ولكن ما يحدُث مرّتيْن لا بُد له من ثالثة".

وبعد أن امتطيا صهوتيْ جواديْهما قال الخيميائي للفتى:

-       أود أن أحكي لك قِصّةً بمُناسبة الأحلام.

فاقترب منه الشاب بحصانه، فتابع الخيميائي:

-       كان في "روما" القديمة في عهد الإمبراطور "تابیریوس" رجلٌ طيّبٌ جدّاً له ولدان: أحدهما جُنِّد في الجيْش وأُرسل إلى أبعد مُقاطَعات الإمبراطوريّة، أمّا الابن الثاني فكان شاعراً فتن "روما" بجمال القصائد التي كان يكتبها، وذات ليْلةٍ رأى الأب حُلماً: أتاه ملاكٌ ليقول له إن كلمات أحد ولديْه سيذيع أمرها وستُردِّدها كل الأجيال اللاحقة في العالم أجمع، صحا الرجُل وهو يبكي من الفرحة لأن الحياة أسبغت عليه هذا الكرم ولأن الرُؤيا واتته بما يملأ بالفخر جوانح أي أب، وبعد وقتٍ قصيرٍ مات الأب وهو يُحاوِل أن يُنقِذ حياة طفلٍ أوْشكت أن تدهسـه عـجـلات إحـدى العربات، وبما أنه كان يسلُك طول حياته مسلكاً صالحاً ومُستقيماً فقد ذهب إلى الجنّة مُباشَرةً والتقى هناك بالملاك الذي أتاه في الحُلم والذي قال له: "لقد كنتَ رجلاً صالحاً عِشتَ مُحبّاً ومتَّ شهماً واليوْم أستطيع أن أُحقِّق لك أيّاً من رغباتك"، فردَّ العجوز: "لقد كانت الحياة كريمةً معي فعندما أتيْتَني في الحُلم أدركتُ أني جوزيتُ خيْراً على ما عملتُ في الحياة لأن أشعار ولدي ستعيش في ذاكرة البشر طوال القرون المُقبِلة .. ليس لديَّ ما أطلبه لنفسي لكن كل أبٍ يزهو فخراً بأن يرى شُهرة ذلك الذي رعاه طِفلاً وأدَّبه صبيّاً وعلَّمه شابّاً .. أود أن أرى كلمات ولدي وهي تتردَّد في المُستقبَلٍ البعيد".

ربَّت الملاك على كتف العجوز، وانطلقا معاً إلى المُستقبل البعيد، ظهر أمامهما ميْدانٌ واسعٌ يتكلَّم فيه آلاف البشر لُغةً غريبة، اغرورقت عيْنا العجوز بدموع الفرح وقال للملاك: "كنتُ أعرف أن أشعار ولدي جميلةٌ وخالدة .. أتستطيع أن تُخبِرني أيّاً من قصائده يُردِّدها هؤلاء الناس؟"، عندئذٍ أمسك به الملاك برِقّةٍ بالغة، وجلسا معاً على دِكّةٍ في ذلك الميْدان الواسع وقال له: "لقد كانت قصائد ابنك الشاعر رائجةً جدّاً في "روما" .. أحبّها الناس جميعاً واستمتعوا بها .. لكنهم بعد أن انتهى عصر "تابيريوس" نسوها .. أمّا الكلمات التي يُردِّدها هؤلاء الناس فهي لابنك الآخر: الجُندي".

نظر العجوز في دهشةٍ إلى الملاك الذي استمر: "لقد ذهب ابنك للخدمة في مُقاطعةٍ نائيةٍ وأصبح قائداً على مائة جندي .. وهو أيضاً كان رجُلاً صالحاً ومُستقيماً .. وذات ليْلةٍ أصاب المرض واحداً من خدمه وأوْشك على الموْت .. وسـمع ابنك عندئذٍ عن رجُلٍ ربّانيٍّ يـشـفي المرضى .. فقضى أيّاماً مُتتابِعةً يبحث عنه .. وخلال رحلة بحثه اكتشف أن الرجُل الذي يبحث عنه هو المسيح .. قابل أشخاصاً آخرين كُتِبَ لهم الشفاء على يديْه .. فآمن به وبرسالته .. ومع كوْنه قائد مائةٍ في جيْش "رومانيا" فقد غيَّر ديانته .. وذات يوْمٍ وصل أخيراً إلى حـضـرة المسيح وأخبره أن واحـداً مـن خـدمـه مـريض .. فـقـال المسيح إنه مُستَعِدٌّ لمُصاحبته حتى بيْته .. ولكن قائد المائة كان رجلاً مؤمِناً وعندما أمعن النظر في عيني المسيح أدرك أنه حقّاً وصِدقاً أمام رسولٍ من الله".

ثم أكمل الملاك قـوْله للرجل العجـوز: "وتلك هي كلمات ولدك .. الكلمات التي قالها للرباني في تلك اللحظة والتي لم يغيِّبها النسيان أبداً: أيُّها المسيح أنا لستُ أهلاً لأن تدخُل تحت سقف بيْتي لكن قُل كلمةً واحدةً فقط فيبرأ بها خادمي.

وتقدَّم الخيميائي بحصانه قليلاً وهو يقول للشاب:

-       لكل إنسـانٍ على سطح هذه الأرض - أيّاً كـان - دوْرٌ رئيسيٌّ في تاريخ العالم .. وفي العادة فهو لا يُدرِك ذلك.

ابتسم الشاب فهو لم يكُن يتخيَّل أبداً أن الحياة يُمكِن أن تولي مثل هذه الأهميّة إلى راعٍ، قال الخيميائي:

-       وداعاً.

فردَّ عليه "سنتياجو":

-       وداعاً .

*****

ظلَّ "سنتياجو" يتقدَّم في الصحراء قُرابة الساعتيْن مُحاوِلاً أن يصغى بانتباهٍ إلى ما يقوله قلبه، فهو الذي سيكشف له بدِقّةٍ عن المكان الذي اختفى فيه كَنزه، ألم يقُل له الخيميائي: "سيكون كَنزك حيث يكون قلبك"؟، لكن قلبه كان يتحدَّث عن أشياءٍ أُخرى، ظلَّ يحكي مزهوّاً حكاية راعٍ ترك غنمه ليتبع حُلماً رآه مرّتيْن، وتحدَّث عن الأسطورة الذاتيّة وعن كل هؤلاء الرجال الذين فعلوا الشيء نفسه، الذين رحلوا بحثاً عن أراضٍ بعيدةٍ أو عن نساءٍ جميلاتٍ وهم يُجـابهـون آراء أُناس عـصـرهـم بأفكارهم وأحكامـهم الجامدة، وطوال تلك المسافة ظلَّ القلب يتحدَّث عن الاكتشافات وعن الكُتُب وعن الانقلابات، ولكن بينما كان يستعد لأن يتسلَّق تلّاً - وفي تلك اللحظة فحسب - همس قلبه في أذنه: "انتبه جيّداً إلى المكان الذي ستبكي فيه لأني هناك أكون وهناك يكون كَنزك".

بدأ يتسلَّق ببطء، واستضاءت السماء - التي كانت مُزدحِمةً بالنجـوم - ببدرٍ كاملٍ من جديد، لقد سار شهراً كاملاً في الصحراء، أضاء القمر التل أيضاً وهو يُلقي ظِلالاً أعطت الصحراء مظهر بحـرٍ فـائر الأمواج، ذكَّر ذلك الشاب بتلك الليْلة التي أرخى فيها لحـصـانه العنان وأعطى فيها للخيميائي العلامة التي طلبها، وأخيرا فقد غلَّف نور القمر صمت الصحراء وغلَّف أيضاً تلك الرحلة الطويلة التي يقطعها الرجال بحثاً عن الكنوز .

وعندما وصل بعد لحظاتٍ إلى قِـمّة التل راح قلبـه يخفق في صدره، فهُناك كانت تنتصب أمام ناظريْه أهرامات "مِصر" بكل عظمتها وجلالها وهي مُضاءةٌ بنور البدر وسط الصحراء البيْضاء، حينئذٍ ركع على رُكبتيْه وبكي حـمـدا لله لأنه صدَّق أُسطورته الذاتيّة ولأنه قابل ذات يوْمٍ ملكاً ثم تاجراً  ثم إنجليزيّاً ثم خيميائيّاً، وحمده قبل كل شيءٍ لأنه قابل امرأةً من الصحراء جعلته يفهم أن الحُب لا يُمكن أن ينأى بإنسانٍ أبداً عن أُسطورته الذاتيّة.

على مدى القرون ظلَّت الأهرام تتأمَّل من عليائها ما يرقد تحت سفحها، ولو أنه أراد الآن فبوسعه أن يرجع إلى الواحة وأن يتزوَّج "فاطمة" ويعيش كراعٍ بسيطٍ للغنم، فالخيميائي يعيش في الصحراء رغم أنه يفهم لُغة العالم ورغم أنه يعرف كيف يُحوِّل الرصاص ذهباً، لم يكن بحاجةٍ إلى أن يُظهِر لكائنٍ مَن كان عِلمه وفنّه، وقد تعلَّم أثناء مسيرته صوْب أُسطورته الذاتيّة كل ما كان بحاجةٍ إلى أن يتعلَّمه وعاش كل ما كان يحلم أن يعيشه، لكنه قد وصل إلى كنزه، وما من عملٍ يتم إلّا ببلوغ غايته.

وهنا؛ عند قَـمّة هذا التل حيث بكى؛ نظر إلى الأرض في الموْضع الذي سقطت فيه دموعه فوجد جُعراناً يتحرَّك، وكان قد علم خلال تجواله في الصحراء أن الجُعران في مصر رمزٌ مُقدَّس، ها هي ذي إذن علامةٌ أُخرى، وهكذا فقد شرع يحفُر، وتذكَّر ما قاله له تاجر الكريستال: "حتى ولو قضى الإنسان حياته بأكملها يُكدِّس الأحجار فلن يصل أبداً إلى أن يبني هرماً في حديقة منزله"، ظلَّ يحـفُـر طول الليْل في الموْضع المُحدَّد دون أن يجد شيئاً.

ومن فوق الأهرام بدا وكأن التاريخ يُراقِبه في صمت، لكنه لم يتراجع، أخذ يحفُر ويحفُر دون كلل، مُكافِـحـاً الرياح التي كانت تُعيد - أكثر من مرّةٍ – الرمال إلى حُفرته، وكلَّت يداه وانتشرت فيها الجروح، لكنه ظلَّ يُصدِّق قلبه، وقد قال له قلبه أن يحفُر حيث تسقُط دموعه.

وفجأةً - بينما كان يُحاوِل أن ينتزع بعض الأحجار التي زحزحها في باطن الأرض استمع إلى صوْت أقدام، اقترب منه بعض الرجال، وكانوا في عكس اتجاه ضوء القمر فلم يستطِع أن يرى عيونهم ولا وجوههم، سأله أحد الوافدين:

-       ماذا تفعل هُنا؟

لم يرُد ولكنه كان خائفاً، فأمامه الآن كَنزٌ يكاد أن يستخرجه من باطن الأرض، ولهذا فقد كان خائفاً، قال آخر:

-       نحن لاجئون من الحرب .. ولا بُد أن نعرف ما الذي تُخفيه هنا .. نحن بحاجةٍ إلى مال.

ردَّ الشاب:

-       أنا لا أُخفي شيئاً.

لكن أحد الرجال انتزعه من الحُفرة وشرع آخرٌ يُفتِّشه فوجدوا قطعة الذهب في أحد جيوبه، قال أحد المُهاجمين:

-       معه ذهب.

أضاء نور القمر وجه مَن كان يُفتِّشه ورأي في عيْنيْه الموْت، وقال آخر:

-       لا بُد أنه يُخفي المزيد من الذهب في الأرض.

أرغموه على أن يواصل الحَفْر، ولمّا لم يجدوا شيئاً بدأوا ينهالوا عليه بالضرب وقتاً طويلاً حتى ظهرت أوّل أشعةٍ للشمس، تمزَّقت ثيابه وشعر بدنو أجله وتذكَّر كلام الخيميائي: "ما فائدة المال إن كان على الإنسان أن يموت؟ .. نادراً ما ينجح المال في أن يُنقِذ إنساناً من الموْت"، وبالرغم من الجروح التي أصابت فمه الذي تورَّم من وقع اللكمات عليه فقد روى لمُهاجميه أنه حلم مرّتيْن بكَنزٍ مطمورٍ بالقُرب من أهرام "مِصر".

وكسر الصمت أحدهم - الذي كان يبدو عليه أنه زعيمهم - عندما خاطَب أحد أتباعه:

-       يُمكِن أن نترُكه لحاله .. فليس معه شيءٌ آخر .. ولا بُد أنه قد سرق هذا الذهب.

تركه الرجل الذي كان يمسكه فهوى الفتي على الأرض ووجهه في الرمال، وكانت هناك عيْنان تُفتِّشان عن عيْنيْه، كانتا عيْنا زعيم العصابة، ولكن الفتي كان مُعلِّقاً بصره على الأهرام، قال الزعيم لرفاقه:

-       فلننصرف من هنا.

لكنه رجع إلى الشاب وقال له:

-       لن تموت .. ستعيش وستتعلَّم أن الإنسان يجب ألّا يكون غبيّا إلى هذا الحد .. فمنذ قُرابة عاميْن وهنا بالضبط حيث ترقُد أنت الآن حلمت حُلما وتكرَّر .. رأيْتُ أنني يجب أن أذهب إلى "إسبانيا" وأن أُفتِّش في الريف عن كنيسةٍ مُحطَّمةٍ كثيرا ما يذهب الرُعاة للمبيت فيها مع أغنامهم حيث تنمو في موْضع هيْكلها شجرة جمّيز .. وحلمتُ أنني سأجد كَنزاً مطموراً هُناك .. لكني لستُ من الغباء حتى أعبر الصحراء لمُجرَّد أني رأيْتُ الحُلم نفسه مرّتيْن.

ثم انصرف.

نهض الشاب بمشقّةٍ ونظر مرّةً أُخرى إلى الأهرام، بدا وكأن الأهرام كانت تبتسم له فبادلها الابتسام وقلبه مُفعَمٌ بالغِبطة، لقد وجد كنزه.

*****

خاتمة:

كان اسمه "سنتياجو"، وصل إلى الكنيسة الصغيرة المهجورة بينما كان الليْل على وشك أن يحل، كانت شجرة الجِمّيز تترعرع في موْضع الهيْكل، وكـان بالإمكان مُشاهَدة النجـوم مـن خـلال السقف نصف المحطم، وتذكَّر أنه جاء هنا ذات مرّةٍ مع شياهه وقضى ليْلةً هادئة، باستثناء حُلمٍ راوده، وها هو الآن دون قطيع الغنم ولكن معه جاروفاً.

ظلَّ لمُدّةٍ طويلةٍ يتأمَّل السماء، ثم أخرج من جرابه زُجاجة نبيذٍ وشرب منها، تذكَّر تلك اليْلة التي قضاها في الصحراء يتأمَّل النجوم وهو يشرب النبيذ مع الخيميائي، وفكَّر في كل تلك المسافات والدروب الذي قطعها، وفي الطريقة الغريبة التي دلَّته بها السماء على كَنزه، فلو أنه لم يُصدِّق الأحلام التي تتكرَّر لَـما قابل الغجريّة ولا الملك ولا اللِّص ولا .. ولا..، وقال في نفسه:

-       ولكن القائمة طويلةٌ جداً .. هذا صحيح .. ولكن الطريق كـان مرسوماً بالعلامات، ولم يكُن بوِسعي أن أُضل السبيل.

استغرق في النعاس دون أن يشعُر، وعندما استيْقظ كانت الشمس قد أشرقت مُنذ مُدّةٍ فشرع يحفُر تحت شجرة الجِـمّيز، وقال لنفسه:

-       أيها الخيميائي الساحر العجوز .. لقد كُنتَ تعرف كل شيء .. بل وتركتَ لي الجُزء الرابع من الذهب - الذي حوَّلتَه من الرصاص – أمانةً مع راهب الدير لأتمكَّن من العوْدة إلى هذا المكان .. لقد ضـحك الراهب بالفعل حين رجعت من الأهرام وظهرتُ أمامه بثيابي المُهلهلة .. ألم يكُن بوِسعك أن تُجنِّبني هذا كلّه؟!

سمع الريح تُجيبه:

-       لا .. فلو أني أخبرتُك لَـما رأيْتَ الأهرام وهي آيةٌ في الروْعة ألَا ترى ذلك؟

كان ذلك صوْت الخيميائي، فابتسم واستأنف الحَفْر، وبعد نصف ساعةٍ اصطدم الجاروف بشيءٍ صلب، وبعد ساعةٍ كان أمامه صندوقٌ مُمتلئٌ حتى حافّته بعملاتٍ ذهبيّةٍ إسبانيّةٍ قديمة، وكانت هُناك أيضاً أحجارٌ كريمةٌ وأقنعةٌ ذهبيّةٌ مرشوقٌ فيها ريشٌ أبيض وأحمر وتماثيلُ حجريّةٌ صغيرةٌ مُرصَّعةٌ بالماس وبقايا حملة غزوٍ منذ زمنٍ طويلٍ تم نسيانها في هذا المكان وأهمل الغُزاة أن يحكوا عنها لأحفادهم.

أخرج من جرابه حجريْ "أوريم" و"توميم"، لم يستخدم هذيْن الحجريْن سوى مرّةٍ واحدةٍ في السوق ذات صباح يوْمٍ ما، بعدها كانت الحياة ومسيرته عامرتيْن بالعلاما، وضع "أوريم" و"توميم" داخل صندوق الذهب، فقد كان هذان الحـجـران أيضاً جُزءاً من كنزه لأنهـمـا يُسـجِّـلان ذكـري ذلك الملك العـجـوز الذي لن يلتقيه أبداً، وردَّد في سِرّه:

-       أن الحياة سخيّةٌ حقّاً لمَن يعيش أُسطورته الذاتيّة.

ثم تذكَّر أنه يجب أن يذهب إلى "تاريفا" (أو "طريفة") وأن يُعطي العُشر من ذلك كـلّه للغجريّة، وقال لنفسه:

-       ما أشد دهاء الغَجَر .. ربما كان ذلك لأنهم يرحلون كثيراً.

ولكن الريح بدأت تهب، كانت هي الريح الشرقيّة القادمة من "أفريقيا"، لم تكُن تحمل رائحة الصحراء ولا التهديد بغزوٍ مغربي، كانت تحمل بدلاً من ذلك أريج عِطرٍ يعرفه جيداً، وهي قُبلةٌ تهادت برِقّة، بمُنتهى الرِقّة، حتى لمست شفتيْه، فابتسم لأنها كانت تِلك هي قُبلتها الأولى، وقال:

-       ها أنذا يا "فاطمة" .. إني قادمٌ إليكِ.

 

 

(تــمَّــــــــــــت)

google-playkhamsatmostaqltradent