خبر
أخبار ملهلبة

هل يجب علينا "فرمتة" الشعب المصري وإعادته إلى وضع "ضبط المصنع" مرّة أخرى؟


المخ البشري مثل الكمبيوتر الذي يحتاج لوقت التحميل ويمكن ضغط زر إعادة ضبط المصنع لإرجاعه للوضع الطبيعي

هل يجب علينا "فرمتة" الشعب المصري وإعادته إلى وضع "ضبط المصنع" مرّة أخرى؟

 

 

جُبِّل بنو آدم على صفاتٍ حميدةٍ نقيّة منذ خلق الله أباهم آدم وأسكنه الأرض .. ولكن هذه الطباع والسلوكيّات بدأت تتلوّث مع مرور الزمن .. فاختلف الناس وصار منهم الصالح والطالح .. الطاهر والدنِس .. الخيّر والشرير .. ويمكنك أن تجد كل هذه الفوارق في جماعةٍ واحدة .. فأفراد أي مجتمع يتباينون ما بيْن النقيضيْن .. فمَن منّا ينكر أن أي بلدٍ في العالم مثل "أميريكا" أو "كينيا" أو "الهند" تضم أفراداً ذوي نعوتٍ عديدةٍ متضاربة: فمنهم الكريم ومنهم البخيل .. وفيهم الشجاع وفيهم الرعديد .. وضِمْنهم الصادق والكاذب .. ووَسْطهم المتديّن والكافر.

ولكن لكل شعبٍ مآثره ومناقصه الغالبة عليه والمتأصّلة فيه .. ولكل وطنٍ مكارمه التي يفتخر بها وسوْءاته التي يخجل منها: فمثلاً معروفٌ عن الشعب اليهودي أنه متديّن لكنه بخيل .. ويُحكَى عن الألمان تفانيهم في العمل مقابل إغراقهم في الجفاء والغِلظة .. ويشتهر الفرنسيّون بالرومانسيّة الحالمة وأيْضاً بالعربدة المتسيّبة.

وربما يكون الشعب المصري العربي هو الوحيد الذي يضم هذا الكَم الهائل من السمات الكثيرة المتضاربة التي تحكّمت في أفعاله وتصرّفاته .. ويعزو بعض علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا هذا السلوك إلى تأثّر المصريين باحتكاكاتهم الوثيقة مع الشعوب الأخرى الكثيرة التي عَمَرَت واستعمرت "مصر" طوال تاريخها المديد بدايةً من الهكسوس والآشوريين والفرس والإغريق والرومانيين والمقدونيين مروراً بالعرب والصليبيين والعثمانيين ونهايةً بالفرنسيين والإنجليز .. في حين أن بعض هؤلاء العلماء يُرجِعون هذه الحُزمة من الصفات العديدة المتناقضة إلى التنوّع العجيب في الأصول العِرقيّة والبيئيّة والثقافيّة لطوائف الشعب المصري: فمنهم المسلمون والأقباط واليهود .. وفيهم الفلّاحون والصعايدة والبدو والغجر والنوبيّون والبحاروة وساكنو المدن .. ووسطهم المتعلّمون وأنصاف المتعلّمين والجَهَلة.

وإذا كانت الصفات الجسديّة الفيزيقيّة (مثل الملامح والطول ولون البشرة) يتم توارثها جينيّاً من الآباء إلى الأبناء فإن الصفات السلوكيّة الاجتماعيّة (مثل التراث الثقافي والأفكار والخبرات) يتم توريثها أيْضاً – وإن كانت بدرجةٍ أقل – عبر الأجيال .. وقد لاحظنا في السنين الأخيرة تغيّراً كبيراً في أخلاقيّات وسلوكيّات الشعب المصري التي توارثها من أسلافه خلال العقود الماضية.

دعونا أوّلاً نفرّق بين السلوك القانوني السليم والسلوك الأخلاقي المستقيم .. فالانسان يلتزم بالقانون خوفاً من العقاب ولكنه فى نفس الوقت ينتظر الفرصة السانحة لمخالفة ذلك القانون أي أنه يلتزم بالقانون فى النور ويخالفه فى الظلام .. فالقانون إلزامٌ خارجي للإنسان وليس نابعاً من داخله .. أما الأخلاق فهى القيم الصحيحة المغروسة فى الإنسان والتى تربّى عليها وتعلّمها من تعاليم دينه ومن قيم وعادات مجتمعه الإيجابية .. وهى التى تجعله ملتزماً فى النور وفي الظلام أيْضاً لأن الرقابة علي سلوكيّاته نابعةٌ من داخله .. من قلبه وروحه وضميره ومن دينه أيْضاً.

وبالطبع فإن أخلاق الناس – ومنهم المصريين – تتأثّر بعدّة عوامل كالتديّن والتربية والأزمات والمرض والهجرة والقانون الساري وغيرها .. ولكن أهم هذه العوامل على أرض "مصر" المحروسة هي:

1. الجهل:

فمن المعروف أن الجهل يدفع الإنسان للتصرّف بهمجيّة ووحشيّة دونما النظر إلى الأساليب الراقية في التعامل بين البشر ومراعاة شعورهم مثله في ذلك مثل الحيوان البري غير المستأنس

2. الفقر:

فحين يشتد الفقر تشح النفوس وتُمسِك ما بيدها  ظناً منها أن ما يُنفَق يصعب تعويضه (لأن القرش الابيض ينفع في اليوم الاسود) .. فيقِل البذل والعطاء ويبخل الإنسان عن منح بعض ما يملك للآخرين (لأن اللي يعوزه البيت يحرم ع الجامع).

وقد يظن البعض أن الجهل والفقر اللذان يمسكان بخناق الغالبية العظمى من المصريين هما السبب الرئيس فى ندرة الأخلاق أو غيابها وهو قول خاطئ .. إذ أننا منذ فجر التاريخ نصارع الجهل الممنهج والفقر المدقع بسبب سياسات حكّامنا وطمعهم ورغبتهم في تجهيل وإفقار الشعب ليلين لهم مقوده ومع ذلك لم تصل أخلاقنا إلى هذا المستوى من الانحطاط والتردى .. ويبقى الجهل والفقر عاملان أقل أهميّة من العامل الثالث التالي.

3. الزحام:

هو العامل الأهم على الإطلاق .. وللتدليل على ذلك إليك هذه الأمثلة:

o     تجربة عالِم الاجتماع الفرنسي الذي صمم عِشّة فراخ من السلك مساحتها متران مربعان ولها جانب متحرك ووضع بداخلها ٤ دجاجات مع وعاء للأكل وآخر للشرب وبدأ يراقب تصرفاتها داخل العشة فلاحظ أن الدجاج بدأ يأكل ويشرب في راحةٍ تامة ثم ينام في هدوء دون إزعاج .. في اليوم التالي قام العالم بتحريك جانب العشة للداخل بحيث اختصر مساحتها للنصف وبدأ يراقب تصرفات الدجاج فلاحظ بدء حدوث تصادُم وتناحُر بينها وتزاحُم علي أواني الأكل والشرب وبدأ الصياح يعلو والضوضاء تزداد .. وعندما حرّك العالم جانب العشة للداخل حتي أصبحت المساحة ربع الأصلية بدأت الدجاجات تصطدم ببعضها البعض وتتصارع علي أماكن الجلوس والوقوف والنوْم وتتقاتل على أواني الطعام والشراب فزاد الصياح والجلبة وقلّت فترات النوم والهدوء .. وقد قال أديبنا الرائع "أحمد خالد توفيق" في روايته "يوتوبيا": "إنها أخلاقيات الزحام .. ضع ست دجاجات في عِشّةِ ضيّقة وراقب كم تصير مُهذبة .. لو أن دجاجةً واحدة لم تفقأ عين جارتها أو تلتهم أحشاءها فأنا مخطئ".

o     راقب بنفسك سلوك الناس الذين ينتظرون حافلةً (أوتوبيس) حين تأتي متأخّرةً بعد وقتٍ طويل ستجدهم يتصارعون في أنانيّةٍ مفرطة وعدوانيّة شديدة ليفوزوا بدخول الحافلة من بابها الضيّق ليجدوا مكاناً للجلوس أو حتى الوقوف .. وربما خلال هذا التصارع الفج يتم فعص ودهس أحد المسنين أو سرقة ونشل أحد المواطنين أو التحرّش الجنسي والاحتكاك بإحدى الراكبات .. وقد يظهر هذا المثل جليّاً أثناء أداء مناسك الحج أو العمرة (كاستلام وتقبيل الحجر الأسود أو رمي الجمرات أو الطواف) رغم ما فيهما من ارتقاء روحي ونزعة دينيّة يُفترض فيهما السمو بالأخلاق والسلوكيّات.

o     منذ أكثر من ستين عاماً كان عدد سكّان "مصر" حوالى 18 مليوناً أمّا الآن فقد تجاوزنا المائة مليون وفي نفس المساحة تقريباً .. وربما يتجلّى تدهور الأخلاق في المدن الكبرى مثل "القاهرة" (10 مليون) و"الجيزة" (9 مليون) و"الأسكندريّة" (6 مليون) .. خصوصاً في المناطق العشوائيّة التي يجتمع فيها الجهل والفقر مع الزحام.

o     في التجمّعات غير المزدحمة يعرف الناس بعضهم فيتحاشون الوقوع في السلوكيّات البغيضة حتى لا ينتقدهم الآخرون أو يذكرونهم بسوء .. أمّا في الأماكن المزدحمة فالشخص المجهول الذي لا يعرفه الناس يتمادى في سلوكيّاته الخرقاء دون رادع (البلد اللي ما تعرفش حد فيها شلّح واجري فيها).

إذن كيف صارت أخلاقنا بعد الجهل والفقر والزحام؟

لن تجتهد كثيراً حين تلمس تلك الطبائع في المدن المزدحمة:

الأنانيّة وعدم مراعاة الغير وعدم احترام مشاعره، وعدم الإيثار ،والعصبيّة والتعجّل، وعدم الصبر، والعنف والعدوانيّة، والبُخل، وعدم الاستعداد للتفاهم، وعدم التسامح، والتصارع، وفقدان الأمانة والنزاهة، وقطع صلة الأرحام، وعدم مراعاة الجيرة والصداقة، وفقدان التراحم، وعدم فعل الخير لوجه الله إلا بمقابل، وكذلك عدم الاهتمام بالنظافة العامّة والشخصيّة.

والصورة ليست قاتمةً بالكليّة بل ما زال الأمل باقياً في بصيص النور الذي يشع دائماً من معدن المصري الأصيل والذي يتحدّى الزمن عبر الأجيال.

وما هو الحل؟

على ما أعتقد الحل ليس سهلاً على الإطلاق فلو كان البشر كالأجهزة الإلكترونيّة الحديثة لقمنا فوْراً بفرمتة وإلغاء سلوك المصريين الحالي بكبسة زِر وأعدنا الوضع إلى ما كان عليه قديماً .. يكفينا فقط – كخطوة أولى – فضح تلك السلوكيّات وتوعية المجتمع بخطورتها لهدم كل ما يتعلّق بهذه السلوكيّات وإهالة التراب عليها تماماً تمهيداً لتغيير وتقويم أخلاقنا فكما قال تعالى: "ذلك بأن اللهَ لم يكُ مغيّراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم وأنَّ اللهَ سميعٌ عليم" صدق الله العظيم .. وهناك أغنية بديعة تتكلّم عن أهميّة الهدم من أجل البناء وقد غنّاها "محمد قنديل" من نظم "صالح جوْدت":  

{{{{{قول يا مُعين معانا وعِين

يا ابو العزم حديد ما يلين

وقول يا مُعين وقول يا مُعين

يا اللي قديمك واكلُه السوس قوم ارميه... قوم ارميه

زيح الماضي بحالُه ودوس فوق أراضيه... فوق إراضيه

واللي تهدُّه الناس بفلوس ناس تِبنيه

دول نازلين ودول طالعين.. وقول يامُعين وقول يا مُعين

ما يفيد المايل ترميم خلّيك جَد... خلّيك جَد

لاجل ما تبني جديد وسليم إنزل هَد... إنزل هَد

لوْ بيدوم ف الدنيا قديم كان دام حَد

وانت يا بوي سِيد العارفين.. وقول يا مُعين وقول يا مُعين

بالعزم يا بوي هِد اللي فَنى جيلُه

بكره يعود فَرْحِنا و تدور فناجيلُه

يصفى الزمان و الحبيب ع العطفة انا اجيلُه 

غُلب زمان ارميه لبعيد عاد ما يهِم... عاد ما يهِم

بكره نعلّى ونبني جديد قوم وهِم... قوم وهِم

أومّال كيف الخير يزيد ولّا يعِم

يوم نهِد ونبني سنين.. وقول يا مُعين وقول يا مُعين......}}}}}

الحل الناجع يتطلّب وقتاً طويلاً فلن ينصلح الحال إلّا بعد جيلٍ أو اثنيْن شرط أن نشرع من الآن في تنفيذ النقاط التالية:

-       تربية وتنشأة الأطفال على التمسّك بتعاليم الدين الصحيح (الإسلامي والمسيحيّ) فالتديّن في اعتدال هو أوّل وأهم خطوة في الإصلاح .. ويكون ذلك بتدريس الدين بطريقة أساسيّة (وليست هامشيّة كما يحدث الآن) وكذلك استحداث (أو بمعنى أصح عوْدة) تدريس مادة للأخلاق الحميدة والسلوك القويم للتمسّك بالقيم والمبادئ والتقاليد.  

-       التوعية الإعلاميّة الدائمة واللحوحة لإصلاح السلوكيّات المعوَجّة ونشر المبادئ المُثلى.

-       سَن القوانين الرادعة مع الرقابة الجادة لضبط وعقاب الخارجين عن النظام والنظافة والذين يخرقون القواعد المنظَّمة للتغلّب على همجيّة وعشوائيّة الزحام كقواعد المرور مثلاً.

-       التوسّع في إنشاء المجتمعات العمرانيّة الجديدة وتوسيع الحيّز الضيّق الذي يحصر المصريين والاستغلال الأمثل للكثافة السكّانيّة العالية والتي يمكن توظيفها في تقدّم كـ"اليابان" و"الصين" و"كوريا" وغيرها.

-       العمل الجاد والدؤوب لرفع المستوى المادي والاقتصادي للمواطن للتغلّب على الفقر ومشاكله.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

google-playkhamsatmostaqltradent