خبر
أخبار ملهلبة

الخيميائي | باولو كويلو | الجزء التاسع


بدوي عربي على حصان يحمل بندقية أمام أهرامات مصر

الجزء التاسع

 

 

-       عندما يُسرِع الزمن في إيقاعه؛ تُسرِع القوافل في سيْرها أيضاً.

هكذا فكَّر الخيميائي العربي في قرارة نفسه، وقد كان حينئذٍ يُراقِب وصول القافلة - بما فيها من مئاتٍ من الأشخاص والحيوانات - إلى الواحة، أسرع السُكّان يستقبلون بالصياح والتهليل الوافدين الجُدُد، وثار غبارٌ حجب شمس الصحراء، وأخذ الأطفال يتقافزون من الانفعال لمرأى الأجانب.

لاحظ الخيميائي العربي أن رؤساء القبائل يتجمَّعون لاستقبال رئيس القافلة ثم عقدوا معاً اجتماعاً مُطوَّلاً، ولم يكُن شيءٌ من هذا كلّه يعني ذلك الخيميائي فقد استطاع أن يرى من قبل حشوداً من الناس يصلون ويرحلون وبقيت الواحـة والصحراء على حالهما لا يتغيَّران، رأى ملوكاً وشحّاذين يقطعون تلك الفيافي من الرمال التي يتغيَّر شكلها بفِعل الرياح والتي تظل مع ذلك هي نفسها كما عرفها في طفولته، وبالرغم من ذلك فهو لم يستطع أن يُسيْطِر في أعماق قلبه على قدرٍ من ذلك الحبور الذي يشعُر به كل مُسافرٍ عندما تظهر أمام عيْنيْه خُضرة تلك الغابة من نخيل الواحة بعد أسابيع من ترحاله وسط أرض الصحراء الصفراء وسمائها الزرقاء، وقال لنفسه:

-       ربما تكون الصحراء قد خُلِقت لكي يتمتَّع الإنسان برؤية غابات النخيل!

ثم قرَّر عندئذٍ أن يُركِّز على المسائل العمليّة، فقد كان يعرف أنه سيصل مع تلك القافلة ذلك الشخص الخيميائي الإنجليزي الذي جاء مع القافلة ليتعلَّم منه - كخيميائيٍ عربيٍ شهير - بعضاً من أسراره، وقد علم العربي بقدوم الإنجليزي من تلك العلامات التي بدت له.

ورغم أن العربي لم يكن يعرف ذلك الإنجليزي حتى الآن؛ إلّا أنه كان متأكِّداً أن عيْنيْه المُدرَّبتيْن ستدلّانه عليه في اللحظة التي سيقع فيها عليه بصره، وأَمِلَ أن يكون الإنجليزي في مثل مهارة وموْهبة تلميذه السابق، وفكَّر:

-       أنا لا أعرف لماذا يجب أن تنتقل أمور الخيمياء من فم المُعلِّم إلى أُذُن تلميذه مباشرةً بمثل هذه السرّة كلّها؟! .. أنها ليْست أسراراً حقيقيّة .. فالله يكشف الأسرار بحريّةٍ لكل خَلْقه.

ولم يجد لهذا سوى تفسيرٍ واحد: أن هذه الأمور ينبغى نقلها بهذه الطريقة لأنها - دون شك - من حقائق الحياة الخالِصة، وهذا النمط من الحياة يصعب تجسيده في الصور أو الرسوم أو الكلمات لأن الناس يُفتنون بالصور والرسوم والكلمات فينسون في النهاية لغة العالَم.

*****

جيء بالوافدين الجُدُد على الفوْر أمام رؤساء قبائل "الفيّوم"، ولم يُصدِّق الشاب عيْنيْه؛ فبدلاً من أن يرى بئراً يُحيط بها بعض النخيل (كما قرأ وَصْفاً ذات مرّةٍ في كتابٍ للتاريخ) وجد أن الواحة أكبر بكثيرٍ من بعض القُرى في "إسبانيا"، كانت تضُم ثلاثمائة بئرٍ وخمسين ألفٍ من شجر النخيل وعدداً ضخماً من الخيام المُلوَّنة المُوزَّعة وسط النخيل، وقال الإنجليزي المُتلهِّف على مقابلة الخيميائي العربي في أسرع وقت:

-       كأننا نعيش في ألف ليْلةٍ وليْلة.

وسرعان ما أحاط بهم أطفالٌ راحوا ينظرون بفضولٍ إلى الدواب والجمال وإلى الوافدين، أمّا الرجـال فـأرادوا أن يعرفوا منهم إن كانوا قد رأوا أي علاماتٍ تدُل على حدوث معارك، وتنازعت النساء على الأقمشة والحُلي التي جلبها التُجّار، وبدا سكون الصحراء الآن حُلماً بعيداً، إذ أخذ الجميع يتكلَّمون بلا انقطاع، ويضحكون ويصيحون بأعلى أصواتهم، حتى لكأن المرء قد ترك عالَما من الأرواح الخالصة ليجد نفسه وسط البشر، وكان الناس جميعهم سُعداء يغمرهم الرِضا.

وفي مقابل الاحتياطات التي كانت مُطبَّقةً البارحة شرح حادي الجمال للشاب أن الواحة في الصحراء تُعتَـبَر دائماً أرضاً مُحايدة، لأن معظم مَن يعيشون فيها هم من النساء والأطفال، وبالرغم من وجود واحاتٍ تقف مع جبهةٍ ما أو تُناصِر جبهةً أُخرى إلّا أن المحاربين دائماً ما يخرجون للقتال في الصحراء ويتركون الواحات في أمانٍ باعتبارها أماكن مُحرَّمةٌ عليهم.

جمع رئيس القافلة كل أتباعه - وإن وجد صعوبةً في ذلك - ثم بدأ يُعطيهم تعلمياته: فسيبقون هُنا إلى أن تنتهي الحرب بين العشائر وسيتم إيواء أفراد القافلة باعتبارهم ضيوفاً في خيام سُكّان الواحة الذين سيُقدِّمون لهم أفضل الأماكن فتلك هي شريعة الضيافة التقليديّة، ثم طلب من الجميع - بمَن في ذلك حرسه الخاص - أن يُسلِّموا أسلحتهم إلى الرجال الذين سيُحدِّدهم رؤساء القبائل، وقال لهم شارحاً:

-       تلك هي قواعد الحرب .. حتى لاتصبح الواحات ملجأً للمُحاربين.

ولدهشة الشاب البالغة أخرج الإنجليزي من سُترته مُسدِّساً مُفضَّضاً أعطاه للرجل المُكلَّف بجمع الأسلحة، فسأله رئيس القافلة:

-       لماذا تحمل مُسدِّساً؟

-       لكي يُساعِدني على الوقوف في وجه الآخرين.

وكان الإنجليزي سعيداً لأنه بلغ غاية سعيه، أمّا "سنتياجو" فقد يحلُم بكنزه ولا يُفكِّر بسواه، فكلما ازداد اقتراباً من بلوغ حُلمه ازدادت الأمور صعوبة، ولم يعُد لـ"حظ المُبتدئين" (حسبما وصفه الملك العجوز) أي وجود، فالأمر الآن - وهو يعلم ذلك - هو اختبارٌ للصلابة ولشجاعة مَن يسعى إلى تحقيق أسطورته الذاتيّة، ولا مـجـال للتعجُّل أيضاً ولا لنفاد الصبر، وإلّا فهو يُجازِف بأن تغيب عن بصره العلامات التي وضعها الله في طريقه، وفكَّر وقـد أصابته الدهشة:

-       إن الرب هو الذي وضع العلامات في طریقي.

وكان - حتى تلك اللحظة - يعتبر العلامات شيئاً ينتمي إلى هذا العالَم، مثلها مثل الأكل أو النوْم أو البحث عن الحب أو عن وظيفة، ولكنه لم يُفكِّر أبداً في أنها يمكن أن تكون إرشاداً من الله ليدلَّه على ماينبغى عليه عمله، وكرَّر لنفسه:

-       لاتكُن قليل الصبر .. أَوَلم يقُل حادي الجِمال: كُلْ عندما يحين موْعد الأكل و سِرْ عندما تحين ساعة المسير.

في الليْلة الأُولى استسلم الجميع للنوْم من الإرهاق بمَن في ذلك الإنجليزي، وكان الشاب يُقيم بعيداً عنه في خيْمةٍ يشغلها خمسة فتيان آخرين كلّهم من سِنّه تقريباً، كانوا من سُكّان الصحراء وأرادوا أن يسـمـعـوا قِـصـصـاً عن المُدُن الكبيرة، حدَّثهم الشاب عن حياته في الرعي، وعندما كان يحكي لهم تجربته في محل الكريستال دخل الإنجليزي واصطحبه إلى الخارج وهو يقول:

-       ظللتُ أبحث عنك طوال الصباح .. يجب أن تُساعدني في العثور على المكان الذي يقيم فيه ذلك الخيميائي العربي.

حاولا البحث عنه أوّلاً بوسائلهما الخاصّة، فلابد للخيميائي أن يعيش عيشةً تختلف عن غيْره من سُكّان الواحة، ومن المُرجَّح أن يكون تحت خيْمته فرن مـوقدٍ بلا انقطاع، وبعد أن سارا مسافةً كبيرةً على أقدامهم توصَّلا إلى أن الواحة أكبر بكثيرٍ ممّا تصوَّرا، وأنها تضُم من الخيام مئاتٍ فوق مئات، وقال الإنجليزي وهو يجلس مع صاحبه بالقُرب من إحدى آبار الواحة:

-       ضاع يوْمٌ بأكمله تقريباً.

-       ربما كان من الأفضل أن نسأل.

ولم يكُن الإنجليزي يرغب في الإعلان عن وجوده في الواحة، وأبدى قدرا من التردُّد ولكنه وافق أخيراً، وطلب من الشاب "سنتياجو" الذي يتكلَّم العربية أفضل منه أن يتولّى المهمّة.

اقترب الشاب من امرأةٍ كانت قد جاءت للبئر لتملأ قِربةً من جلد الخروف، وقال لها:

-       مساء الخيْر يا سيدتي .. أُريد أن أعرف: أين يوجد الخيميائي الذي يعيش في هذه الواحة؟

قالت المرأة إنها لم تسمع عنه قط وانصرفت مُسرِعة، ولكن كان لديها مُتَّسَعٌ من الوقت لكي تُحذِّر الشاب من أنه ينبغي ألّا يُخاطِب أبداً النساء المُرتديات السواد لأنهن مُتزوِّجات وعليه أن يحترم التقاليد، شعر الإنجليزي بخيْبة أملٍ بالغة فهو إذن قد قطع كل هذه الرحلة عبثاً، وانتاب صاحبه الحُزن أيضاً فقد كان الإنجليزى يسعى بدوْره وراء أسطورته الذاتيـّة، وعندما تكون هذه هي حـال الإنسان فإن الكوْن كله يُجاهِد لكي يساعده في الحصول على ما يبحث عنه، هكذا قال الملك العجوز ولا يُمكِن أن يكون قد أخطأ، وقال لصاحبه:

-       لم أكُن - حتى وقتٍ قريب - قد سمعت عن الخـيـمـيـائيّين .. ولكني أُحاول أن أُساعدك.

وفجأة؛ أشرقت في ذهن الإنجليزي فكرةٌ فهتف:

-       هذا أمرٌ طبيعي .. فمن المحتمل جداً أن الكثيرين هنا لا يعرفون معنى "خيميائي" .. اسأل إذن عن الرجل الذي يُعالِج كل الأمراض في القرية.

وفدت عِدّة نساءٍ في ثيـابٍ سـوْداء ليـجـلُبن الماء من البئر، ولكن الشاب لم يُخاطب أيّاً منهن رغم إلحاح الإنجليزي عليه، وأخيراً اقـتـرب أحـد الرجـال فـسـأله الشاب:

-       هل تعرف هُنا رجلاً يعالج الأمراض في القرية؟

فرد الرجل:

-       إن الله هو الذي يشفي كل الأمراض.

بدا عليه - بوضوح - الإنزعاج من هذيْن الغريبيْن، وأضاف:

-       أنتما تبحثان عن سحرة .. أليس كذلك؟!

وبعد أن تلا بعض آياتٍ من القرآن مضى في سبيله، ثم ظهر رجلٌ آخر أكبر سِنّاً لم يكُن يحمل سوى دلوٍ صغير، فوجَّه له الشاب السؤال نفسه، ولكن هذا الرجل العربي سأل بدوْره:

-       ولماذا إذن تريد أن تعرف مكان مثل هذا الرجل؟

-       لأن صديقي هذا قطع رحلةً طويلةً استغرقت عِدّة شهورٍ كيما يُقابِله.

فرد العربي العجوز بعد لحظةٍ من التأمُّل:

-       لو أن هذا الرجل يعيش هُنا في الواحة لكان له سلطانٌ كبير .. حتى رؤساء القبائل ما كان يُمكِن لهم أن يروه عند الحاجة حسب مشيئتهم .. بل لابد أن يكون هو الذي يُقرِّر .. انتظرا إذن حتى نهاية الحرب ثم ارحلا مع القافلة .. لا تُحاوِلا التدخل في حياة الواحة.

قال كلمته الأخيرة هذه وهو يبتعد، لكن الإنجليزي شعر بالسعادة فهو على الطريق الصحيح، ولحظتها ظهرت شابّةٌ لم تكُن ترتدي ملابس سوْداء، كانت تحمل جَرّةً تستقر على كتفها ويُحيط برأسها غطاءٌ ولكن وجـهـهـا كان سافراً، تقدَّم الشاب منها ليسألها عن موضوع الخيميائي بيْد أنه تجمَّد وكأن الزمن قد توقَّف به، وكما لو أن روح العالم قد تجلَّت بكل عُنفوانها أمام عيْنيْ الشاب، أدرك - عندما رأى عيْنيْها السوْداويْن وشفتيْها اللتيْن تردَّدتا بين الابتسام والسكون - أعمق جـزءٍ وأحكـمـه من اللُغة التي يتكلَّمها العالم والذي يُمكِن لكل المخلوقات على سطح الأرض أن تصغى إليه بقلبها: ألا وهو الحب، شيءٌ أعمق من البشر ومن الصحراء ذاتها لكنه ينبثق دائماً بالقوّة نفسها حيثما تلتقي نظرتان كما التقت هاتان النظرتان عند البئر، حزمت الشفتان أمرهما أخيراً على الابتسام، وكانت تلك هي العلامة التي طال انتظاره لها عبر حياته والتي ظل يبحث عنها في الكتب وعند الشياه وفي محل الكريستال وفي صمت الصحراء، ها هي إذن لُغة العالَم الخالصة النقيّة دونما أي شرح، لأن الكوْن لا يحتاج إلى شرحٍ لكي يواصل طريقه في الفضاء اللا نهائي، كل ما أدركه في تلك اللحظة هو أنه أمام امرأة حياته كلّها، ودونما أدني حاجةٍ إلى الكلمات فلابد أن تكون هي أيضاً قد فهمت، واتته الثِقة بذلك أكثر من ثِقته بأي شيءٍ آخر في الحياة، رغم أن أبويه وأبوي أبويه قد ظلّوا يقولون دائماً إنه ينبغي أولاً أن يتعرَّف على الفتاة ويتودَّد إليها ثم يخطبها ليختبر كل منهما الآخر على أن يتوافر لديه المال قبل الزواج، لا شك أن مَن قال ذلك لم يعرف قط لُغة العالَم لأنه عندما يتشرَّب الإنسان تلك اللُغة يسهل عليه أن يفهم أن في العالم دائماً شخصاً ينتظر الآخر، سواء كان ذلك في قلب الصحراء أو وسط المُدُن الكبرى، وأنه عندمـا يـتـقـابـل هذان الشخصان وتلتقي نظراتاهما لا يعود للماضي ولا للمستقبل كلّه أي أهمية، لا تبقى سوى اللحظة الراهنة وذلك اليقين الذي لا يتزعزع بأن كل شيءٍ تحت قُبّة السماء قد خطَّته يد القدر الواحدة ذاتها، تلك اليد التي أبدعت والتي خلقت روحاً شقيقةً لكل كائنٍ يعمل ويرتاح ويبحث عن الكنوز تحت نور الشمس، لأنه لو لم يكن هذا هو الحال لما أصبح لأحلام البشر أي معنى، وقال لنفسه بصوْتٍ خفيض:

-       كل شيءٍ مكتوب.

نهض الإنجليزي الذي كان جالساً وهز صاحبه قائلاً:

-       هيّا .. سَلْها.

اقترب الشاب من الفتاة فابتسمت مرّةً أُخرى وابتسم هو أيضا وهو يسألها:

-       ما اسمك؟

فردَّت وهي تُسبِّل عيْنيْها:

-       اسمي "فاطمة".

-       هذا اسمٌ تحمله بعض النساء في البلد الذي جئت منه (يقصد "المغرب").

-       إنه اسم بنت الرسول عليه السلام .. وقد نقله جنودنا إلى هناك.

تحدَّثت الفتاة الرقيقة عن الجنود بفخر، وألحَّ عليه الإنجليزي الواقف جنبـه فـسـأل الفتاة إن كانت تعرف شيئاً عن الرجل الذي يعالج كل الأمراض، فقالت الفتاة:

-       هو رجلٌ يعرف أسرار العالم ويتكلَّم مع الجِن في الصحراء .. والجِن هم مخلوقاتٌ للخيْر ومخلوقاتٌ للشر أيضاً.

وأشارت الفتاة بيدها إلى اتجاه الجنوب حيث تسكن تلك الشـخـصـيـّة الغـريبـة، ثم مـلأت جَـرّتها وانصرفت.

ذهب الإنجليزي بدوْره ليبحث عن الخيميائي العربي، في حين ظل الشاب جالساً لفترةٍ طويلةٍ إلى جانب البئر مُدرِكاً أن الرياح الشرقية لقد لفحت وجهه ذات مرّةً برائحة تلك المرأة وأنه قد أحبّها حتى قبل أن يعلم بوجودها، وأن الحُب الذي يكِّنه لها سيجعله يكتشف كل أسرار العالم.

*****

رجع "سنتياجو" في اليوم التالي إلى البئر لكي ينتظر الفتاة هناك، وأدهشه أن يجد الإنجليزي - الذي راح للمرّة الأولى يتأمَّل الصحراء - يقول له:

-       لقد انتظرت طوال العصر وطوال المساء حتى وصل الخيميائي العربي مع ظهور أوائل النجوم في السماء .. حينئذٍ قُلتُ له عمّا ابحث عنه فسألني إن كنت قد حوَّلتُ الرصاص إلى ذهب بالفعل .. فأجبته بأن ذلك بالضبط هو ما أرغب في أن اتعلَّمه .. فـقـال لي أن أُحاول .. لم يُزِد شيئاً على هذه العبارة: "اذهب وحاول.

ظل الشـاب صـامـتـاً، إذن فـقـد قطع الإنجليزي كل هذه المسافة لكي يستمع إلى ما كان يعرفه بالفعل، ثم تذكَّر أنه هو نفسه قد أعطى للملك العجوز سِتّة خرافٍ لكي يحصل على النتيجة نفسها، فقال للإنجليزي:

-       إذن فلتحاول.

-       هذا هو ما سأفعله وسأشرع على التوْ.

وبعد انصرافه بقليلٍ وصلت "فاطمة" إلى البئر لكي تملأ جَرّتها، فقال لها الشاب:

-       جئتُ لأقول لكِ شيئاً بسيطاً جِدّاً .. أود أن تُصبحي زوْجتي .. فـأنا أُحبّكِ.

تركت الفتاة الماء يفيض من الوعاء، وأكمل هو:

-       سأنتظركِ هُنا كل يوْم .. لقـد عـبـرتُ الصحراء لكي أبحث عن كَنزٍ بالقُرب من الأهرام .. وحلّت عليَّ الحرب كنقمةٍ ولكني أراها الآن نعمة لأنها تُبقيني هُنا بجوارك.

-       ستنتهي الحرب بالتأكيد ذات يوْم.

راح ينظر إلى النخيل في الواحة، لقد كان راعياً وكان يملك عدداً كبيراً من الخِراف ولا شك أن "فاطمة" أهم من الكنز، قالت الفتاة كما لوْ كانت تقرأ أفكاره:

-       المُحاربون يبحثون عن كنوزهم .. ونساء الصحراء يفخرن بمُحاربيهم.

ثم ملأت جَرّتها من جديدٍ وانصرفت.

وظلَّ الشاب يذهب كل يوْمٍ إلى جوار البئر لينتظر مجيء "فاطمة"، حكى لها عن حياته كراعٍ وعن مقابلته للملك العجوز وعمله في محل الكريستال، اصبحا صديقيْن، وباستثناء ربع الساعة الذي كان يقضيه في صُحبتها كان الفتى يشعر بأن الوقت - في بقية النهار طويلاً طويلاً بشكلٍ بشعٍ لا يُحتَمَل.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent