خبر
أخبار ملهلبة

المعذبون في الأرض (7) | صفاء | طه حسين


قطار سكة حديد قديم يعمل بالبخار يجتاز الريف

المعذبون في الأرض (7) | صفاء

 

 

"كان ذلك ممكنًا في تلك الأيام السود، فأما الآن فقد يسَّرَ الله الأمور، وأتاح لنا أن نخرج من ظلمة البؤس والشقاء، إلى نور النعيم والرخاء، فلستُ أحب أن أخوض، ولا أن تخوضي في هذا الحديث". وهمَّتْ حنينة أن تتكلم ولكنَّ ابنها نصيفًا أعرض عنها بوجهه، ونأى عنها بجانبه، وأشعل سيجارته في شيء من أنفة، ونهض في شيء من كبرياء ومضى أمامه، فترك الحجارة وترك الدار كأنه لم يخلف فيهما أحدًا. وظلت حنينة صامتةً مبهوتةً، ثم كفكفت دموعًا كانت تريد أن تسيل، ثم حزمت أمرها وقدَّرت في نفسها أنها ستراجع ابنها في هذا الحديث، ونهضت فأقبلت على أعمال الدار كأن لم يكن بينها وبين ابنها شيء.

وقد استوفيتُ فيما أظن ما ينبغي أن يستوفيه الكاتب حين يريد أن يستأنف قصةً خطيرة أو يسيرة، فألقيت إلى القرَّاء هذه الجملة الغامضة التي لا يُذكَر فيها الفاعل ولا المبتدأ إلا متأخرًا، لأثير في نفوسهم هذه الغرابة التي تدعو إلى الاستطلاع، ثم ذكرت بعدَ هذه الجملةِ اسمَ حنينة وابنها نصيف لتزداد حاجة القراء إلى هذا الاستطلاع، ثم فرَّقْتُ بين الأم وابنها على هذا النحو الغريب المريب، فبينهما حديث لا يريد الفتى أن يتصل وتحرص الأم على أن يتصل، وهذا الحديث يمس الماضي المنكر الذي خرجت منه الأسرة، ويريد الفتى أن تنساه، وتريد الأم أن تفي له وتحرص عليه، وآية ذلك أنها تكفكف الدمع وتقدِّر في نفسها أنها ستعود إلى الخوض فيه متى لقيت ابنها حين يقبل المساء، أو حين يسفر الصباح، وأكبر الظن أنها تؤثر أن تتحدث إلى ابنها في أول النهار حين يجلس إلى فطوره هادئ النفس، مستريح الجسم، فارغ البال، لم يتكلف من أعمال يومه الجديد شيئًا، ولم يُتَحْ له بعدُ أن يذكر من أعمال أمسه القديمة شيئًا، ذلك خير من التحدُّث إليه في المساء، فهي قلما تخلو إليه في المساء لأنه يروح إلى داره عجلًا، فيصيب شيئًا من طعام مع الأسرة كلها، ثم ينصرف عنها عجلًا ليلقى أترابه وأصحابه، فيسمر معهم شطرًا من الليل، ويعود وقد بسط النوم جناحيه على الأسرة كلها فأغرقها في سبات عميق.

ومن حق القارئ بعد هذا كله أن يعرف حنينة ونصيفًا، وأسرة حنينة ونصيف، وهذا الماضي القاتم الذي يكره الفتى أن يستبقي منه شيئًا، وتحرص الأم على أن تستبقي منه بعض الأشياء.

ولستُ أكره أن أؤدِّي للقارئ حقَّه في هذا إن قبل أن ينتقل معي في الزمان والمكان جميعًا، وما أطلب إليه أن ينتقل معي إلى زمان مسرف في القِدَم، أو إلى مكان مسرف في البُعْد، وإنما نريد أن نعود إلى أول هذا القرن، وأن نترك القاهرة إلى مدينة من مدن الأقاليم في مصر الوسطى؛ فقد ينبغي لكل قصة أن يكون لأحداثها زمان ومكان يختارهما الكاتب أو تختارهما الأحداثُ نفسها. والشيء الذي أؤكِّده للقارئ هو أني لم أختَرْ ولم أكن أستطيع أن أختار زمان هذه القصة ومكانها، كما أني لم أختَرْ ولم أكن أستطيع أن أختار أشخاص هذه القصة وأحداثها، وإنما اختارت طبيعة الأشياء هؤلاء الأشخاص، وأجرت طبيعة الأشياء عليهم ما أجرت من الأحداث، وأرادت أن يكون هذا في آخِر القرن الماضي وأول هذا القرن، وأن أشهد القصة وأتأثَّر بها أشد التأثُّر وأعمقه، وأن أدَّخِرها في نفسي لشيء لم أكن أعرفه حين شهدت القصة وادَّخَرْتُها، وقد أخذت أعرفه الآن حين بدأت أُملِي هذا الحديث؛ فأنا إنما شهدت القصة وادخرتها لأتحدَّث بها إلى قراء هذا السِّفْر، بعد أن مضى على أحداثها ما يقرب من نصف قرن.

بل أكاد أقطع بأني لم أختر، ولم أكن أستطيع أن أختار، أن أتخذ هذه القصة موضوعًا لهذا الحديث، وإنما هي التي اختارتني لتصل من طريقي إلى القرَّاء، ولستُ أستطيع أن أبين لذلك سببًا؛ لأني لا أستطيع — والقارئ نفسه لا يستطيع — أن أسأل القصةَ عن السبب الذي من أجله اختارَتْ أن تُذَاع في هذه الأيام، والذي من أجله اختارَتْ أن تُذَاع من طريقي أنا، ومن طريق هذه المجلة التي أكتب فيها.

وإنما أرى أني قد فرغت أيامًا وأيامًا، لموضوع من موضوعات الأدب الفرنسي، وجعلت أدرسه وأستقصيه لأتخذه موضوعًا لهذا الحديث، وبلغت من ذلك أكثر ما كنتُ أريد، إن لم أكن بلغت كل ما كنتُ أريد، وجلست إلى صاحبي لأُملِي عليه ما قدرت إملاءه، ولكن صاحبي لا يسمع مني حديثًا عن شيء يتصل بالأدب الفرنسي من قريب أو بعيد، وإنما يسمع مني بدء هذا الحديث، ويهم أن يراجعني، كما همَّت حنينة أن تراجع نصيفًا. ولكني أعرض عنه بوجهي، وأنأى عنه بجانبي، أشعل سيجارتي في شيء من حزم، وأمضي في الإملاء، فيمضي هو في الكتابة، ويظهر أمامي أشخاص هذه القصة مزدحمين أشد الازدحام، مُلِحِّين أعظم الإلحاح، كلهم يريد أن يسبق إلى مكانه من هذا الحديث، كأنما طال عليهم النوم حتى سَئِموه، وثقل عليهم النسيان حتى ضاقوا به، فهم يريدون أن يستيقظوا، وهم يريدون أن أذكرهم أنا، وأن يذكرهم القراء، وأن يستردوا بذلك شيئًا من حياة، وإن كانت حياتهم تلك الأولى لَأهون وأشقى مِن أن يفكِّر فيها أصحابها، ومن أن يحرصوا على أن يستردوا منها نصيبًا قليلًا أو كثيرًا.

وهؤلاء الأشخاص كثيرون بعض الكثرة، فلا بد من أن أصطنع شيئًا من النظام الحازم لأردَّهم إلى بعض القصد، ولأُظهِرهم في أماكنهم المقسومة لهم من هذا الحديث. وأماكنهم هذه لم أقسمها أنا لهم، وإنما قسمتها لهم حياتهم الأولى نفسها، فهم يؤلفون أسرتين قبطيَّتَيْن من أسر الريف، كانتا تعيشان متجاورتين قد أنشأ الجوار بينهما ما يُنشِئ عادةً بين الجيران من المودة والألفة، ومن العِشْرة المتصلة والاختلاط الدائم في غير تكليف ولا عناء، ومن هذا الاشتراك في لذات الحياة وآلامها، وفي مسرات الحياة ومساءاتها، وفي هذه الأحداث التي تحدث، والخطوب التي تلمُّ، والنوائب التي تنوب.

وكانت أسرة المقدس ميخائيل تادرس في دار ليست بالمسرفة في السعة، وليست بالمسرفة في الضيق، وإنما هي دار متوسطة، تألفت من حجرات قليلة، لا يظهر عليها الثراء، ولا يظهر عليها الضر، ولا يظهر عليها ما يلفت إليها أحدًا. كانت دارًا متواضعة وإن لم تكن حقيرة، وكانت تقوم في أول الشارع مما يلي القناة على نحو منحدر يسير يكلِّف الساعي إليها قليلًا من الجهد، فينحدر إليها إن جاء من هذه الناحية، ويصعد إليها إن جاء من تلك الناحية، ولا يسعى إليها سعيًا هيِّنًا على كل حال، وكان المقدس ميخائيل صاحب تجارة يسيرة هيِّنَة قد اتخذ له حانوتًا يبعد عن داره بعض البُعْد، يبيع فيه سقط المتاع من هذا الخرز الذي يتخذ الفقراء منه عقودًا يتحلَّى بها النساء والفتيات، ومن هذا الزجاج الملوَّن الذي يتخذ النساء منه أساور أو دوائر مفرغة يُدخِلن فيها سواعدهن، أو يدخلنها في سواعدهن، ويبهرن أنفسهن كما يبهرن الرجال بألوانها الزاهية ورنينها الحلو، وشيئًا من الأقمشة الرخيصة التي يتخذ منها نساء الريف ثيابهن حين يتفضلن، وزينتهن حين يتبرجن.

وكانت لحانوته شهرة خاصة بهذه العصابات المطرزة التي كان النساء يدرنها حول رءوسهم، فيفتِنَّ بها الرجال، ويسحرن بها عيون الشباب، وكان المقدس ميخائيل يفيد من تجارته هذه اليسيرة ما يتيح له أن يكفل لأهله حياةً إنْ لم تكن رخية كل الرخاء، فلم تكن ضيقة كل الضيق، وإنما كانت شيئًا بين ذلك، يسمح لهذه الأسرة أن ترى نفسها من الطبقة المتوسطة، وأن تطمح إلى ما تطمح إليه هذه الطبقة من الآمال التي كانت في ذلك الوقت متواضعة أشد التواضع.

ولم تكن هذه الأسرة ضخمة ولا كثيرة العدد، وإنما كانت تأتلف من ميخائيل، وزوجه حنينة، وابنهما نصيف، وابنتهما صفاء، وواضح أن هذا الاسم لم يكن يُنطَق على هذا النحو الفصيح، وإنما كان يُنطَق به مقصور الألف لا ممدودها، وكان النطق به يثير في نفوس السامعين أنه مستعار من تلك الغدائر المعدنية التي كان النساء يصلنها بشعورهن ويرسلنها على ظهورهن، ويُسمَع لها حين يقمن ويقعدن ويسعين صليلٌ يعجب الآذان.

وقد طمع ميخائيل أن يرفع ابنه عن المنزلة التي كُتِبت له هو في الحياة، فلم يُنشِئه في التجارة ليخلفه في الحانوت حين تقعد به السن، وإنما أرسله إلى المدرسة المدنية، بعد أن اختلف إلى الكتَّاب القبطي عامًا وبعض عام، وأضمر فيما بينه وبين نفسه ألَّا يكتفي بالمدرسة الابتدائية، وأنه يرسله إذا استطاع إلى القاهرة ليتعلم في بعض مدارسها، وليكون موظَّفًا من موظَّفِي الحكومة، وليسلك بنفسه طريقًا جديدة غير الطريق التي سلكها هو، وسلكها أبوه من قبله.

وطمعت حنينة في أن ترفع ابنتها عن المنزلة التي قسمت لها هي في الحياة، فأرسلتها إلى «المعلمة» كما كانت الأمهات في الطبقة المتوسطة يرسلن إليها بناتهن؛ ليتعلمن عندها فنونًا من التطريز والتدبيج، والتأنُّق في التفصيل وصناعة الأزياء.

وقد اختلف الصبي إلى المدرسة، واختلفت الصبية إلى المعلمة، ورضيت الأسرة عن نفسها وعن تربيتها لابنيها أعوامًا. وظفر الصبي بالشهادة الابتدائية بعد جهد، وأخذ الصبِيَّة من فنون المعلمة ما استطاعت أن تأخذ، ونظرت الأسرة فإذا هي مضطرة أن ترسل الصبيَّ إلى القاهرة، وإلى أن تمسك الصبية في الدار. والله يعلم ما تكلَّف المقدس ميخائيل من الجهد ليدبِّر ما يحتاج الفتى إليه من النفقات، وما احتملت حنينة من الحزن لفراق ابنها الوحيد. وقد أُلحِقَ الفتى بمدرسة ثانوية، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، عامًا وعامًا وعامًا دون أن يصيب فيها نجحًا، وإنما هي السنة الأولى يقيم فيها العام بعد العام، ثم تضطر المدرسة إلى فَصْله لكثرة ما أخفق، فيلحق بالمدرسة القبطية الكبرى التي كانت في ذلك الوقت تتلقَّى مَن تفصلهم المدارس الحكومية من الشباب المخفقين، أو مَن تَحُول السنُّ بينهم وبين الالتحاق بالمدارس الحكومية، أو مَن تقصر أيدي آبائهم عن أجور التعليم في مدارس الدولة، وتطول مع ذلك آمال آبائهم، فيأبون ألَّا أن يتعلم أبناؤهم حتى يبلغوا الشهادة الثانوية، لعلهم أن يجدوا لأنفسهم مكانًا في مدرسة من المدارس العالية، أو عملًا في ديوان من الدواوين. وقد أقام نصيف في المدرسة الحرة عامًا وعامًا ولكنه لم يُصِبْ فيها نَجْحًا كما لم يُصِبْ في المدرسة الحكومية نَجْحًا، وثقلت النفقة على أبيه، وثقل الحزن على أمه، وضاق الفتى بأبيه وأمه ونفسه أيضًا، وإذا هو يقترح على أبويه ذات عام أن يتحوَّل عن التعليم الثانوي الذي لم يُخلَق له، إلى تعليم آخَر يسير قريب، لا يحتاج إلى كثير من ثقافة، ولا إلى إلحاح في عمل، ولا إلى فضل من جهد، ولا إلى طويل من قوت، وإنما هو عام أو بعض عام، ثم يتقدَّمُ الطالب إلى الامتحان ويظفر بالدبلوم، ويشغل منصبًا من مناصب الدولة. وكذلك التحق الفتى بمدرسة التلغراف، وما هي إلا أن ينفق فيها الفتى عامًا أو أقل من عام، ثم يتقدَّم للامتحان فيصيب ما أراد من نَجْح، ويعود إلى أهله ومعه الدبلوم قد لفَّه لفًّا أنيقًا، ووضعه في حرز أنيق اتُّخِذَ من الصفيح.

وجعل الأب ينظر إلى الدبلوم يحاول أن يقرأ ما فيه، وجعلت الأم تنظر إلى الدبلوم تعجب بزينته، واختصم الأبوان بعض الاختصام أيهما يحتفظ بهذه العلبة من الصفيح، أتدسها الأم بين ثيابها، أم يخفيها الأب في درج من أدراج مكتبه القديم، ولكن المهم هو أن المقدس ميخائيل كان قد بلغ من الجهد أقصاه، فأنفق أكثر مما كانت تجارته تغل عليه، واحتمل من المشقة أكثر مما كانت سنُّه تستطيع أن تحتمل، وباع في سبيل هذا الفتى ما كان عند زوجه من الحلي المتواضعة، واضطر الأسرة إلى شيء من الفقر الضيق البغيض الثقيل الذي لا يُطَاق، لولا شيء من فسحة الأمل. ولم يدرك الفتى ما أدرك من نَجْح حتى كان المقدس الشيخ مضطرًّا إلى أن يقعد في داره، وينتظر الرزق من هذا المرتب الضئيل الذي كانت الدولة تُجرِيه حينئذٍ على الموظفين في البرق أولَ ما ينهضون بأعمالهم.

وكانت الدولة بخيلةً حقًّا في تلك الأيام؛ فقد كان حامل الدبلوم يُلحَق بمكتب من مكاتب البرق على سبيل التجربة والتمرين، ويؤجر في أثناء ذلك ثلاثة جنيهات في الشهر، لا تُحسَب له جملة، وإنما تُحسَب له مياومة أثناء التمرين، عشرة قروش في اليوم لا تزيد. ولم يكن حامل الدبلوم حرًّا في اختيار مكتب البرق الذي يعمل فيه، ومتى كان عمَّال الدولة وموظَّفوها أحرارًا في اختيار المكاتب التي يعملون فيها؟ إنما كانت الدولة ترسل هؤلاء الموظفين والعمَّال حيث تشاء، وحيث يقتضي النظام أن يرسلوا، فأُرسِل الفتى إلى أقصى الصعيد، وأقامت أسرته في أدناه، وجعل الفتى يقبض أجره آخِر الشهر، فيرسل نصفه إلى أسرته لتعيش، وينفق نصفه الآخَر على نفسه. وعلم الفتى وعلمت أسرته أن الآمال لا تصدق أصحابها دائمًا، وإنما تكذبهم في كثير من الأحيان؛ فقد ظفر الفتى بالدبلوم وشغل منصبًا من مناصب الدولة، وأصبح فردًا ممتازًا من هذه الطبقة الممتازة، طبقة الموظفين، ولكنه ما زال فقيرًا بائسًا محتاجًا، وما زالت أسرته متوسطة تُرَدُّ إلى الفقر يومًا بعد يوم، وتُدفَع إلى الضيق عامًا بعد عام، والفتى بعد ذلك فرد ممتاز من طبقة ممتازة، والامتياز يكلِّف أصحابه كثيرًا من المال، فلا بد من أن يعيش الفتى بين أترابه عيشة ملائمة، ومن أن يتخذ من الزينة ما يلائم طبقته، ومن أن يحيا حياةً لا ينظر إليها أترابه في شيء من الاستخفاف به أو الإشفاق عليه، وكان هذا كله يرهق الفتى من أمره عُسْرًا، وربما اضطره بين حين وحين إلى ألَّا يرسل إلى أبويه ما تعوَّدَ أن يرسل إليهما من النقد، أو أن يرسله إليهما منقوصًا؛ فكان هذا يحفظ الأسرة ويغيظها ويضنيها، فلم تكن حاجتها إلى الحياة الملائمة بأقل من حاجة الفتى، والفتى وحيد، وهي أسرة مؤلَّفَة من أشخاص ثلاثة، فحقها أن يرسل إليها أكثر المرتب، وأن يكتفي الفتى بأقله، فكيف إذا لم يرسل إليها إلا أقله؟! وكيف إذا لم يرسل إليها شيئًا؟! وهي بعد ذلك قد أفنت عمرها وجهدها وكل ما ملكت في سبيل هذا الفتى، فانظر إلى الأبناء كيف يجحدون حقوق الآباء، وانظر إلى الشباب كيف يكفرون بنعمة الشيوخ، وانظر إلى هؤلاء الفتيان الناشئين كيف يؤثرون أنفسهم بالخير ويختصونها باللذات، ويتركون آباءهم وأمهاتهم وأخواتهم يشقون بالنقص في الأموال والثمرات، بل يشقون بالبؤس والجوع والحرمان. وكذلك أنفقت الأسرة بعد نَجْح ابنها في الامتحان وظَفْره بالمنصب، أعوامًا ذاقت فيها من البؤس المادي والمعنوي ما لم تذقه حين كان الفتى صبيًّا يختلف إلى المدرسة الابتدائية، أو غلامًا يختلف إلى المدارس في القاهرة.

أما الأسرة الأخرى فأسرة المعلم يونان، كان زعيمها كاتبًا متواضعًا في دائرة من دوائر الترك، ينفق نهاره عاكفًا على دفاتره، أو محاسبًا للناظر، أو مراقبًا للمعاون، ويعود إلى أهله آخِر النهار راضيًا عن نفسه ولكنه متعَب مكدود، فلا يكاد يصيب معهم شيئًا من الطعام ويسمر مع جاره شيئًا من سمر، حتى يأوِي إلى مضجعه وقد بلغ الإعياء به أقصاه، ثم لا يكاد الصبح يتنفس حتى يراه في الطريق العامة غاديًا على عمله في الدائرة أو في الحقول. وكان الأجرُ الذي يصيبه من هذا العناء قليلًا ضئيلًا لا يكاد يقيم الأود لأسرة تألَّفَتْ من ثلاثة أشخاص، هم المعلم يونان، وزوجته مرجانة، وابنهما عبد السيد.

وكان المعلم يونان رجلًا متواضعًا، لا يرفع نفسه عن طبقته، ولا يحاول أن يرفع ابنه عن هذه الطبقة، وإنما حاول أن يعلِّم ابنه مهنته هو؛ ليكون كاتبًا في الدائرة كما كان هو كاتبًا في الدائرة، وكما كان أبوه من قبلُ كاتبًا فيها أيضًا. وكان أقصى همه أن يحسن الصبي الأخذ عنه والاقتداء به، حتى إذا أدرك أول الشباب استطاع أن يعينه على عمله، وأن يلتفت إليه المأمور لعله أن يرضى عنه ويعطف عليه، فيأجره قرشين أو قروشًا في اليوم تعين الأسرة على احتمال أعباء الحياة. ولكن الصبي لم يكن ذكي القلب، ولا محبًّا للعمل، وإنما كان كلًّا خامدًا، يؤثر اللعب حين تسنح له فرصة اللعب، فإن لم تسنح له آثَرَ حياةً هادئةً هي إلى الذهول أقرب منها إلى أي شيء آخَر، وكان ذلك يغيظ أباه ويُحفِظه ويدفعه أن يقسو عليه أحيانًا، ولكنه كان وحيد أبويه، فكان المعلم لا يعنف به إلا ليرق له، ولا يشق عليه إلا ليرفق به.

والسن تتقدم بالمعلم حتى يحس الضعف عن النهوض بأعبائه، والفتى يتقدم في العلم بمهنة أبيه متباطئًا متثاقلًا، حتى إذا اضطر الشيخ إلى القعود في داره كان الفتى أجهل وأكسل مِن أن يقوم مقامه، فلم تستبقه الدائرة إلا رعاية لحق أبيه ورفقًا بأسرته، ولم تمنحه من أجل ذلك إلا نصف ما كانت تمنح أباه من الأجر.

واضطرت مرجانة أن تبرح الدار، وتسعى بعض السعي على شيخها القاعد لترزقه، وعلى ابنها الخامد لتعينه، فجعلت تسعى إلى القرى القريبة تشتري من أهلها ما يريدون أن يبيعوا من جبنهم وزبدهم، تحمل في ذلك قصعة ضخمة، وتغطيه بشيء من العشب الأخضر الرطب يحفظ عليه رطوبته، ويجذب إليه العيون، وتطوف بذلك على بعض البيوت، فتبيعه فيها بما يتيح لها شيئًا من ربح يتم لزوجها وابنها ما يحتاجان إليه.

وقد سعت الأسرتان المتجاورتان في طريق واحدة إلى الضيق، ثم إلى الضيق الشديد، ثم إلى الإعدام والحرمان، فازدادت الصلات بينهما قوةً، وفرغ الشيخان القاعدان للبطالة والحديث. وجعلت مرجانة وحنينة تلتقيان حين يسفر الصبح، وحين يتقدم النهار، تتقارضان المنافع وتتعاونان على أثقال الحياة، وتتجاذبان أطراف الحديث كما يقال، وجعلت صفاء — بألفها الممدودة أو المقصورة — تلقى عبد السيد يغدو إلى عمله في الدائرة، وحين يروح من عمله إلى الدار، فيكون بينهما ما يكون بين الفتيان من هذه الأحاديث الفارغة، التي لا تؤدي شيئًا ولا تدل على شيء، وإنما تشغل أصحابها عن أنفسهم، وتلهيهم عن آمالهم.

ولكن الشاب ماكر ماهر، ينتهز الفرص، ويختلس الوسائل اختلاسًا، فهو يشيع في هذه الأحاديث الفارغة بين حين وحين ما يريد أن يملأها، فيعجزه ذلك في أول الأمر، ولكنه لا يعرف العجز ولا اليأس ولا الإخفاق، وإنما هو مُلِحٌّ دوءب، يُخطِئه النَّجْح هذه المرة فلا يرده ذلك عن استئناف المحاولة، وهو يسلك إلى غايته طرقًا مختلفة ملتوية، لا يحسن العِلْم بها إلا الذين محَّصَتْهم الحياة وعلَّمَتْهم التجارب. وأين الفتيان الفارون من تمحيص الحياة وتعليم التجارب! كلمة تنطق بها صفاء، فإذا الشباب يُجرِي فيها عذوبة غير مألوفة، ويوقعها من أذن عبد السيد وقلبه موقعًا غير مألوف؛ وحركة يأتي بها عبد السيد، فإذا الشباب يُجرِي فيها رشاقة غير مألوفة، ويوقعها من عين صفاء وقلبها موقعًا غير مألوف، وإذا الفتى مشغول بهذه الكلمة العذبة، يريد أن تتكرر وأن يضاف إليها أمثالها، وإذا الفتاة مشغولة بهذه الحركة الرشيقة، تريد أن تتكرر وأن يضاف إليها أمثالها. وإذا كلاهما مشغول بصاحبه حين يلقاه، ومشغول بصاحبه حين ينأى عنه، ومشغول بصاحبه حين يُقبِل الليل، ومشغول بصاحبه حين يُسفِر النهار، وإذا اللقاء الذي كاد يكون بينهما على غير موعد وعلى غير نية، قد جعل يصبح شيئًا تُدبَّر له الخطط وتُبتغَى إليه الوسائل، وإذا الحديث الذي كاد يكون بينهما فارغًا ليس وراءه شيء، قد جعل يصبح مليئًا وراءه كثير من الأشياء، وإذا الأسرتان تلحظان أن لهذين الفتيين شأنًا، فلا تنكران ولا تعرفان أول الأمر، ثم تبتسم قلوب الشيوخ لهذه الصلة الناشئة بين هذين القلبين الشابين، ثم يتحدَّث المقدس ميخائيل إلى حنينة، ويتحدث المعلم يونان إلى مرجانة، ولا تقول إحدى الأسرتين للأخرى شيئًا، وإنما تنتظر كلتاهما أن تكون الأخرى هي التي تبدأ الحديث. والشباب لا يحفل بما يثور في نفوس الشيوخ من خواطر، ولا بما يضطرب في عقولهم من تفكير، وإنما هو ماضٍ لغايته لا ينظر إلى وراء، وإنما ينظر إلى أمام، وإلى أمام دائمًا، حتى لا يلفت الأسرتين وحدهما إلى نفسه وإلى ما أحدث من صلات، وإنما يلفت أسرًا أخرى من الجيران. وهناك يتنبه الشيوخ، فتتحدث مرجانة إلى حنينة، ويتحدث المعلم إلى المقدس، وتصبح الخطبة شيئًا مقرَّرًا متفَّقًا عليه.

ونصيف مقيم في غربته تتقاذفه المدن في أعلى الأرض وفي أسفلها، قد ثبت في منصبه فلم يقبض أجره مياومة، وإنما أصبح موظفًا بالمعنى الصحيح الدقيق، وزِيدَ مرتبه حتى بلغ أربعة جنيهات ونصف جنيه، يحسم منها المعاش آخِر الشهر، ولكن مرتبه قد زيد على كل حال، إلا أنه لم يزد وحده، وإنما زادت معه نفقات الفتى وتكاليف حياته بعد أن أصبح موظَّفًا مثبتًا. زاد مرتب الفتى، ولكن نصيب أبويه من هذا المرتب لم يزد، وإنما ظل كما كان؛ يصل إليهما أحيانًا كاملًا، وأحيانًا منقوصًا، ويتخلف عنهما بين حين وحين.

ويُقبِل الفتى ذات يوم في إجازة من إجازات الموظفين ليرى أسرته، فترى المدينة منه شابًّا رشيقًا أنيقًا لم تعرفه من قبلُ، وترى زينةً ورواءً لا عهد لها بهما عند أمثال هذا الفتى من شبابها بين أبناء الزرَّاع والتجار، ويرتفع رأس المقدس حين يرى إعجاب الناس بابنه واحتفاءهم به، واحتشاد النسوة والصِّبْيَة لرؤيته حين يمر بهذا الشارع أو ذاك، وبهذه الحارة أو تلك، ويمتلئ الفتى بنفسه تيهًا وإعجابًا حين يرى تهافُتَ الناس عليه وسعيهم إليه، يحييه بعضهم من قريب، ويحييه بعضهم من بعيد، ويعجب به أولئك وهؤلاء، ويرى فيه مع ذلك أولئك وهؤلاء شيئًا من الكبرياء، فينكره بعض الناس في قلوبهم، وينكره بعض الناس بألسنتهم. ويشفق الأب والأم على ابنهما من حسد الحاسدين، ويتمنى الأب والأم أن يقيم ابنهما فيطيل المقام ليستمتعا به ولينعما بمحضره، ويتمنيان مع ذلك أن يعجِّلَ السفر ليأمن كيد الكائدين وحسد الحاسدين. ويعود الفتى بعد أيام إلى عمله، وقد رضي عن نفسه ورضي عنه أبواه، ورضي عنه أكثر أهل المدينة، وضاق به أقلهم. وكأنما ألمَّ الفتى بهذه المدينة إلمامته القصيرة تلك ليودِّع أباه ويراه للمرة الأخيرة، فما يكاد الفتى يسافر، وتمضي على سفره أيام حتى يحس المقدس من الضعف ما يحس الشيوخ، فلا يكاد يحفل بذلك ولا يلتفت إليه، ولكن الضعف يزداد ويلح، والشيخ يثقل ويضطر إلى لزوم داره، ثم إلى لزوم فراشه، ثم إلى فراق هذه الدنيا. ويعود الفتى مرة أخرى إلى المدينة حزينًا كئيبًا، ولكن الحزن والكآبة لم يزيداه إلا رشاقة وأناقة واستهواء لقلوب الناس، واستجلابًا لحبهم له وعطفهم عليه؛ فقد ذهبا بكثير من فرحه ومرحه واعتداده بنفسه واستخفافه بغيره، وردَّاه إلى شيء من الدَّعَة والاتزان واعتدال المزاج.

ومهما يكن من شيء فقد ألقى في روع الفتى أنه أصبح بعد موت أبيه رجلًا يحتمل التبعات، وينهض بأعمال الأسرة. وقد واجه التَّبِعَات والأعباء مواجهة حسنة، فشمل أمه وأخته بكثير من العطف والرعاية، وجدَّ واجتهد وسعى، ووسَّط غيره في السعي حتى استطاع أن ينقل نفسه من مدينته تلك البعيدة التي كان يعمل فيها، إلى مدينته هذه التي تقيم فيها أسرته، وإذا هو موظَّف في مكتب البرق بالمدينة يقيم في أسرته ويرعاها، ويقوم منها مقام أبيه.

وتمضي أمور الأسرة كما تستطيع، أو على خير ما تستطيع، فقد أقام الفتى في داره وعاش مع أهله، ودبَّرَ أمره خيرًا مما كان يدبِّره أثناء الغربة، فاستقامت له ولأهله حياةٌ لم تكن تستقيم لهم من قبلُ. وكم تمَنَّتْ حنينة — لو كان ينفع التمني — أن يعود المقدس فيشارك في هذه الحياة، وينعم بها، ويسعد برؤية ابنه غاديًا على العمل أو رائحًا إلى الدار، في زيِّه ذاك الجميل، وشكله ذاك الوسيم، ومنظره الذي يملأ القلوب روعة ورضًا.

وتتصل أسباب الفتى بزملائه الذين يعملون معه في مكتب البرق، وبزملاء آخرين يعملون في المحطة، وبجماعات أخرى من الموظفين يعملون في المحكمة أو في مكتب البريد، وإذا هو يرقى بأسرته حقًّا إلى هذه الطبقة الممتازة التي طالما ودَّ أبوه لو يرقى بها إليها، وإذا هو ممتاز بين هؤلاء الموظفين الممتازين حين يلتقون من آخِر النهار أو من أول الليل في قهوة ذلك الرومي التي كانت تقوم على شاطئ القناة قريبًا من المحطة، والتي كان الموظفون — ولا سيما الشباب منهم — يسعون إليها حين يدنو الأصيل، فيقيمون فيها فرحين لاعبين مداعبين حتى يتقدم الليل.

وفي ذات صباح يجلس الفتى إلى فطوره وأمه إلى جانبه تنظر إليه وتعجب به، وأخته صفاء قائمة بين يديه تخدمه، تذهب وتجيء مقدمة هذا اللون رافعة هذا الإناء، وإذا الفتى يحتل حتى يُبعِد أخته، ويخلو إلى أمه فيلقي إليها في همس سريع أو سرعة هامسة، أن زميله فلانًا يخطب إليه أخته، وأنه سعيد بهذه الخطبة، يرى فيها مزيدًا من رقي وفضلًا من رخاء؛ فهذا الزميل فتى كريم من أسرة كريمة، قد فقد أبويه، فهو إذن سيد نفسه، وهو يقبض في آخِر الشهر مرتبًا كالذي يقبضه هو، وهو يريد أن يكون له أخًا، وإذا قبلت خطبته وتم زواجه فسيعيش في الدار، وسيكون لأمه ابنًا ثانيًا، وسيجتمع المرتبان، وستغرق الأسرة في نعيم ورخاء لم تكن لترجوهما أو تفكِّر فيهما. وتسمع الأم هذا الحديث فيقع من قلبها موقعًا غريبًا فيه كثير من الإغراء، ولكنه يثير كثيرًا من الحزن والخوف والأسى، فابنتها مخطوبة أو كالمخطوبة لجارها الفتى؛ قد ذهب زوجها إلى الدار الآخرة وهو مُقِرٌّ لهذه الخطة راضٍ عنها مغتبطٌ بها، وفي نفس ابنتها شيء من هذا الفتى الجار، ليس في ذلك شك. ثم تثوب الشيخة إلى نفسها بعد أن شكت غير طويل، وتقول لابنها في صوت هادئ رزين: وددت لو كان ذلك يا بني، ولكن أختك مخطوبة أو كالمخطوبة، قد أحَبَّها جارنا عبد السيد، وكأنها تحبه، وقد تحدَّثْنَا في خطبتهما وقبلها أبوك. ولا يكاد الفتى يسمع حديث أمه حتى تأخذه الكبرياء، ويعادوه الاعتداد بالنفس، ويقول لأمه في صوت المغضب الذي كادت تخرجه الموجدة عن طوره: «كان هذا في تلك الأيام السود، فأما الآن فما أحب أن أخوض ولا أن تخوضي في هذا الحديث.» ثم يشعل سيجارته في أنفة، وينهض في كبرياء متثاقلة، وينصرف عن الحجرة، ثم ينصرف عن الدار وكأنه لم يخلف فيهما أحدًا.

وقد صبرت حنينة نفسها عن هذا المكروه، فلم تتحدث فيه إلى ابنتها، وأزمعت أن تراجع فيه ابنها، وراجعته مرة ومرة، ولكنها لم تظفر منه بشيء ولم تَلْقَ منه إلا ازورارًا وإعراضًا، حتى أنذرها ذات يوم بأنها إن لم تذعن له فسينتقل من هذه المدينة كما انتقل إليها، وسيستأنف حياته تلك الغريبة المشردة، وسيتركها تعيش مع ابنتها في ظل هذا الفتى الغافل الذي لا غناء فيه، وسيرسل إليها ما يستطيع أن يرسل إليها من المال ليعينها على العيش كما كان يفعل في حياة أبيه.

ولم تتعود الأمهات في مثل هذه البيئة مقاومة أبنائهن، وإنما تعوَّدْنَ الإذعانَ لهم والاستجابةَ إلى ما يريدون. والفتى يقوم مقام أبيه، فهو سيد الأسرة وصاحب الأمر والنهي فيها، لا ينبغي أن يلقى منها مقاومة ولا اعتراضًا، فما أيسر ما تذعن حنينة لابنها، وما أسرع ما تحاول أن تحمل صفاء على الإذعان، وصفاء ليست في حاجة إلى أن تُحمَل على الإذعان، فهي مذعنة بطبعها لما يريد أخوها ولما تحب أمها. ومتى استطاعت الفتيات أن يخالِفْنَ عن أمر الإخوة والأمهات!

هي إذن مذعنة الإرادة، ولكنها ثائرة القلب، وقد بذلت حنينة جهدًا غير قليل لتغري ابنتها بمثل ما أغراها به ابنها من الرخاء والنعيم، وارتفاع المنزلة، وامتياز الطبقة، وبما سيتاح لها من زينة وترف لم تكن لتظفر بهما لو اقترنت إلى هذا الفتى المتواضع الفقير الذي لا يكسب قوته إلا بالجهد والمشقة وسَعْي أمِّه لتعينه على تحصيل ما تحتاج الأسرة إليه. وكانت صفاء تسمع لهذه الأحاديث، فتذعن إرادتها ويثور قلبها، وتحاول أن تُظهِر الرضا فلا تجد إلى إظهاره سبيلًا.

ثم يخرج نبأ هذه الخطبة من دار حنينة إلى دار مرجانة، ثم على غيرها من الدور، ويصبح حديث أهل الشوارع، ثم حديث مَن يعرف الأسرة من الناس. فأما مرجانة فتسمع ولا تقول شيئًا، وأما المعلم يونان فيسمع ويبتسم ولا يزيد على أن يقول: وأين يكون ابننا من هذا الفتى، وابننا كاتب لا يكاد يكسب قوته، وهذا الفتى موظَّف ممتاز! وأما الناس فأقلهم يغبط صفاء وأكثرهم يحسدها، وأما عبد السيد فيثور ويثور وينذر مرة باقتراف الجريمة، ومرة أخرى بقتل نفسه، ثم يُرَدُّ إلى هدوء منكر من ورائه شر عظيم.

فهو يغدو ويروح بين أهله وعمله قد انطوى على نفسه، وانطوت نفسه على ما فيها، فهو لا يتحدث إلى أحد في هذه الخطبة المعلَنة، وفي هذا الزواج المنتظَر، ولا يحب أن يتحدث إليه أحد فيهما، وإذا تحدَّث الناس إليه في شيء من ذلك أعرض عن الحديث ولم يُلْقِ إليه بالًا، كأنه غريب عن هذه البيئة التي يعيش فيها، لا يعنيه شيء مما يفعل الناس حوله أو يقولون.

وقد كانت مرجانة تهيِّئ نفسها لتفيض على ابنها شيئًا من عطف، وفضلًا من حنانٍ، تريد أن تعزيه عن محنته، وتواسيه في هذه المُلِمَّة التي نزلت به فبغَّضَتْ إليه الحياة، وألقت بينه وبين الأمل حجبًا صفاقًا، وأستارًا كثافًا، ولكنها لم تَرَ من ابنها حزنًا، ولم تسمع من شكاة، وحاولت أن تنفذ إلى ذات نفسه فلم تبلغ مما حاولت شيئًا، وظنَّتْ آخِر الأمر أنها أكبرت من هذا الأمر صغيرًا، وعظَّمَتْ منه حقيرًا، وأسرفت في حُسْن الظن بابنها، فقدَّرَتْ أنه كان يحب ويسعد بالحب، وأن هذه الخطبة قد ردَّتْه من الكآبة والحزن واليأس إلى ما لا يطاق، ولكنها تنظر فترى ابنها ساهيًا لاهيًا، لا يحفل بأحد، ولا يحفل بشيء، ولا يظهر عليه ما يدل أنه حزين أو يائس أو كئيب؛ فقد كان الفتى عابثًا في حبه إذن، وهو الآن غافل بعد أن تقطعت الأسباب بينه وبين هذا الحب، ينتظر أن تتاح له فرصة أخرى لعبَثٍ آخَر مع فتاة غير هذه الفتاة.

وليس من شك في أن مرجانة لم تنعم بما لاحظت من سهو ابنها ولهوه وغفلته، وإنما آذاها ذلك في نفسها، وأضاف إلى حزنها القديم حزنًا جديدًا، وإلى ما ألفت من خيبة الأمل في فتاها الذي لم يكن يحسن العمل كما كان يحسنه أبوه، ويكسب من المال كما كان يكسب أبوه، خيبة أمل جديد في فتاها الذي لا يحسن أن يحب، ولا يحسن أن يأسى حين تنقطع به أسباب الحب، ويحال بينه وبين مَن يهوى، وهي ترد عطفها وحنانها ورحمتها وإشفاقها إلى نفسها البائسة الكئيبة، التي كانت تريد أن تجد شيئًا من الروح في إظهار ما تكنُّه نفوس الأمهات من العطف والحنان والرحمة والإشفاق.

ولست أدري بأي الأمرين كانت مرجانة أشد تأذيًا: بخيبة أملها المجددة في ابنها الوحيد، أم بما اضطرت إليه من كبت عواطفهما وردِّ نفسها إلى الإجداب بعد أن كادت تخصب، وإلى الفقر بعد أن كادت تغنى، وإلى الموت بعد أن همت بالحياة. وليس شيء أدفع لنفوس الأمهات إلى اليأس القاتل من هذا الحرمان الذي تُرَدُّ إليه ردًّا وتُكرَه عليه إكراهًا، فما نفس الأم إذا لم تجد العطفَ على ابنها، والرحمةَ له حين يألم أو يتعرض للألم؟ وما نفس الأم إذا لم تجد الرضا والغبطة والإعجاب حين يأتي ابنها بما يدعو إلى الرضا والغبطة والإعجاب؟ وهذه مرجانة قد حيل بينها وبين الرضا عن ابنها والإعجاب به منذ وقت طويل، وهي ترى جارتها حنينة ترضى على ابنها نصيف كل الرضا وتعجب به كل الإعجاب، ويزيد رضاها وإعجابها أن الناس من حولها يكبرون الفتى ويقدرونه ويثنون عليه، ولا يدعونها باسمها كما كانوا يفعلون في بعض ما مضى من الوقت، ولا يدعونها بأم نصيف كما كانوا يفعلون بعد أن وُلِد ابنها، وحين كان صبيًّا أو شابًّا يختلف إلى المدارس، وحين كان موظَّفًا غائبًا لا تراه العيون ولا تحقق النفوس ما يمتاز به من الرشاقة والأناقة وجمال الزي وروعة المنظر، وإنما يدعونها أم الأفندي. يلغون الهمزة، ويلقون فتحها على اللام فيقولون «أُم لَفَنْدِي».

حيل بين مرجانة وبين الرضا عن ابنها والإعجاب به منذ تبيَّنَتْ أنه خامل خامد، لا يغني غناء أبيه، ويحال بينها الآن وبين ما بقي لها من أن تشمل ابنها بالعطف والرحمة والحنان حين يلم به الخطب، أو يلح عليه الهم، أو ينزل به المكروه؛ فابنها لا يحس خطبًا ولا همًّا ولا مكروهًا، ولا يجد حاجة إلى عطف أو رحمة أو حنان، ولو قد شملته أمه بشيء من ذلك لما أحسه ولا ذاقه ولا التفت إليه. هي إذن شقية بخيبة الأمل، شقية بكبت العاطفة، وهي تحاول أن تتحدث إلى زوجها الشيخ في بعض ذلك، فلا تسمع منه إلا هذا الجواب يرده عليها في ابتسامة حزينة ساخرة: وأين يقع ابننا الخامل الخامد البائس اليائس، من هذا الفتى الجميل الوسيم الذي تبتسم له الحياة!

وهمَّتْ مرجانة أن تتحدث ذات يوم إلى ابنها في بعض ذلك، فقال لها متضاحكًا: «ما نحن وذاك! إن المال أقوى قوةً، وأعظم بأسًا، وأوسع سلطانًا، وأشد إغراء في الحب، وما ينبغي للفقراء أن يحبوا.» وهمَّتْ أن تمضي في حديثها فكفَّها عن ذلك بإغراقه في ضحك طويل، وبانتقاله إلى أحاديث الحقل والعاملين فيه، وإلى أحاديث الدائرة وموظَّفيها، حتى قال أبوه الشيخ: «دعي هذا الفتى، فإنه لم يُخلَق لفرح ولا لحزن، كما لم يُخلَق لجد ولا لعمل.» وسمع الفتى مقالة أبيه، فازداد إغراقًا في الضحك، ثم انصرف عن الدار كأنه مجنون. وكان من وراء هذا الجنون مع ذلك خاطر قد طوى عليه نفسه طيًّا، وهو أن المال أقوى من الحب، ولكن الطريق بينه وبين الحب قريبة كل القرب، ممهَّدَة كل التمهيد؛ فليس بينه وبين صفاء إلا جدار واحد يفصل بينهما، فإذا ارتقى إلى سقف الدار، فليس بينه وبين صفاء جدار ولا ستار ولا حائل رقيق أو صفيق، فالأسوار بينه وبين الخطبة، والأسوار بينه وبين الزواج، كثيفة منيعة لا سبيل إلى اقتحامها ولا إلى النفوذ منها، ومتى استطاع الفقير المعدم أن ينفذ من أسوار المال والثراء! ولكن الأسوار بينه وبين الحب لا وجود لها، وإنما هي حيلة واسعة أولًا، وجراءة جريئة ثانيًا، وصبر للنفس على ما تكره بعد ذلك. وقد جعل هذا الخاطر يتردَّد في ضمير الفتى يقظان، ويتردد في أحلامه نائمًا، والفتى يملك أمره ويضبط نفسه ويمسك لسانه، فلا يُظهِر شيئًا ولا يقول شيئًا ولا يخلي بين الناس وبين ما أخفى في ضميره من هذا السر المكتوم. ولم تكن حال صفاء خيرًا من حاله، ولكنها كانت أدنى منه إلى الصراحة، وأسرع منه إلى الإذعان. لم تكن نفسها عسيرة ولا مقعدة، ولم يكن لها حظ من مهارة أو مكر، وإنما كانت ساذجة غافلة لا تحسن حقدًا ولا كيدًا ولا استخفاء، وهي من أجل ذلك لم تنطوِ على نفسها ولم تستخف بما في ضميرها، وإنما أذعنت خاضعة الإرادة ثائرة القلب كما قلتُ، فلما اشتد عليها الإلحاح، وكثر حولها الإغراء، وجعلت ألوان الطرف وفنون الهدايا تستبق إلى الدار، رضيت بنصف نفسها وسخطت بنصفها الآخَر، فكانت تمنح الخطبة والزواج ابتسامًا ظاهرًا ورضًا يكاد يشرق له وجهها أحيانًا، وكانت تمنح الحب حزنًا دخيلًا، وأملًا دفينًا، ودموعًا لعلها أن تنهلَّ حين تخلو إلى نفسها في ساعة من ساعات النهار، أو في ساعة من ساعات الليل، وهي بعدُ لم تَرَ خِطْبها ولم تسمع له، وإنما رأت آثاره وسمعت ما كان يُروَى عنه من الأحاديث، فكان خِطْبها ظلًّا يرسل الطرف والهدايا والزينة، ويتحدث الناس عنه بما يشاءون، وكان حبها شخصًا رأته من قرب، واستمعت له وتحدَّثَتْ إليه، وتمثلته في نفسها، واستحضرته في ضميرها، وقد جعلت منذ حين لا تراه إلا مخالسة، ولكنها تراه على كل حال، وهي تستطيع إن شاءت أن تبتغي الوسائل للقائه، ولو فعلت لأتيح لها هذا اللقاء، ولو فعلت لاستأنفت التحدُّث إليه والاستماع له، ولمتعته من حديثها ونظراتها بما كانت تمتِّعه من قبلُ، ولاستمتعت من حديثه ونظراته بما كانت تستمتع به من قبلُ.

خواطر تتردد في نفس الفتاة، وهي مشبهة شبهًا قويًّا أو ضعيفًا لخواطر تتردد في نفس الفتى، وربما خطر لصفاء أن لو كان جارها ميسَّرَ الحال موفور الكسب لما استطاع أحد أن يصدها عنه أو يردها عن حبه، ولكنه خامل خامد لا يكسب ما يقيم أوده وأود أبَوَيْه، فما اجتماع الفقر إلى الفقر، وما اقتران البؤس إلى البؤس، وما التباس الإعدام بالإعدام! أحقٌّ إذن أن الحب لم يُخلَق للفقراء، وأن الفقراء لم يُخلَقوا ليحبوا، وإنما خُلِقوا ليكدُّوا ويجدُّوا ويعملوا ويكسبوا القوت، فإن بلغوا من ذلك ما يريدون فهو خير لهم، وإن لم يبلغوه فإن في الشقاء لهم سعة، وفي الموت لهم راحة وروحًا؟

وكذلك كانت نفس الفتاة تضطرب بمثل ما كانت تضطرب به نفس الفتى من الألم والحزن واليأس، وكان قلب الفتاة يجد ما كان قلب الفتى يجد من اللوعة والحسرة والأسى، وكان أحب شيء إليها أن تفضي إلى الفتى بذات نفسها، وأحب شيء إلى الفتى أن يفضي إليها بذات نفسه، ولم يكن إلى ذلك سبيل بمشهد من الناس أو على غيب منهم، فقد حيل بينهما وبين اللقاء، وليس يفصل بينهما مع ذلك إلا حائط واحد رقيق، ولو قد صعد كلاهما إلى سقف داره مخالسة لأتيح لهما اللقاء والحديث.

والأيام تمضي على ذلك وتتبعها الليالي، فازداد المعلم يونان اتصالًا بمصطبته ولزومًا لها، وازدادت مرجانة تطويفًا في الأرض بقصعتها تلك التي تغطيها الأعشاب، ومضى الفتى في حياته الكسلة العاملة ويقظته الغافلة الذاهلة، واتصل النشاط واشتدت الحركة في دار صفاء، وأحس الناس أن يوم الزواج يدنو قليلًا قليلًا. وقد أطل هذا اليوم، واستقبلته صفاء باسمة الثغر، عابسة النفس، تُظهِر الرضا وتضمر السخط، وأقبل القسس مع المساء على دار فرحة مبتهجة قد امتلأت بقوم فرحين مبتهجين. وقد أحيا القسس مراسمهم فرتلوا، وكللوا وقرعوا الأجراس والنواقيس، وعقدوا تلك العقدة التي لا يفصمها إلا الموت. وكان المعلم يونان مستلقيًا على مصطبته في الجانب الأيمن من داره، وكانت مرجانة قد جلست منه غير بعيدة واجمة ساهمة، تجري على وجهها دموع صامتة، يقول المعلم: «أين ابنك يا مرجانة؟» فتقول مرجانة بصوت مبتل: «لعلك كنتَ تريد أن يشارك في هذا الفرح

فيعود الشيخ إلى صمته، وتمضي الشيخة في وجومها الباكي أو بكائها الواجم، ولم تُشعَل في دار مرجانة لذلك اليوم نار، ولم تَرَ دار مرجانة في تلك الليلة نورًا، وإنما كانت النار ذاكية والنور متألقًا في دار حنينة. ويتقدم الليل حتى يبلغ نصفه، ثم يتقدم حتى يوشك أن يبلغ ثلثيه، والمحتفلون في فرحهم ومرحهم، قد أخذوا يتشوفون ويتشوقون إلى مثل ما تعودوا أن يشهدوا في تلك الليالي، ولكنهم ينصرفون لما يروا شيئًا، ولم يسمعوا شيئًا، وقد شملهم فتور غريب بغيض. وترى أعقاب الليل المنهزم فتى ينسل من دار حنينة مستخفيًا فيما بقي من ظلام، ويسفر الصبح شاحبًا كئيبًا، وتشرق الشمس بنور ربها، ولكنها ترسل على ذلك الشعاع أشعة فاترة خائرة متهالكة، لا تكاد تُخرِجه من سكونه إلى الحركة، ولا تكاد تُخرِج أهله من صمتهم إلى الكلام، وهؤلاء نفر من الناس قد أقبلوا يسايرون شاطئ القناة، حتى إذا بلغوا المنحدر هبطوا إلى دار مرجانة فأدخلوا فيها جثةً قد احتزَّ القطار رأسها احتزازًا، ويرتفع صوت مرجانة مولولًا، فلا يكاد يتجاوز دارها حتى يجيبه من دار حنينة صوتٌ آخَر مولول قد ارتفع بالإعوال. ويعلم الناس قبل أن ينتصف النهار أن الفتى قد نام ينتظر الموت حتى جاءه به قطار الصعيد، وأن صفاء قد أصبحت مزوَّجَة كالمطلَّقَة، ففصمت تلك العقدة التي عقدها القسس والتي لا يفصمها إلا الموت.

تقول حنينة في نحيبها: «يا ليتنا لم نعرف المال!» وتقول مرجانة في نحيبها: «يا ليتنا لم نعرف الحب!» ويقول المعلم يونان في صوته الهادئ المتقطع: "قد عرفنا الموت الذي هو أقوى قوةً من المال والحب جميعًا".

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent