خبر
أخبار ملهلبة

الفصل الثامن (1) | نهاية العالم


امرأة ساجدة ترفع يديها وتقوم بالدعاء إلى الله

الفصل الثامن
الخميس 8 / 10 / 2020
باقي ثلاثة أيّامٍ على النهاية (1)



ظلّ "باسم" يتململ ويتقلّب ويتلوّى في نومه قبيل الفجر وكأنّ فراشه قد قُدّ من جمر وعندما أعيته جميع الحيل ليستكمل نعاسه فتّح عينيْه فوجد الغرفة تغرق في ظلامٍ حالك، وتحسّس بيده مكان زوجته "أسماء" بجواره فألفاه شاغراً بارداً فاستنتج أنّها قد استيقظت منذ فترة فهبّ واقفاً وارتدى روبه وبابوجه (شبشبه) وطفق يستطلع أحوالها، فمرّ على غرفة ابنيْه فوجدهما يغطّان في نوْمٍ سحيق غير عابئيْن بما حولهما من همومٍ ومشاكل وكوارث ستقضي على الجميع في غضون أيّامٍ قلائل فاقترب منهما وقد اشتعلت مشاعر الأبوّة لديْه فجأةً فأحكم غطائهما وقبّلهما، وعندما اجتاز الردهة (الصالة) الفسيحة وجد أخته "نشوى" نائمةً على الأريكة في هدوء وقد تدثّرت بلحافٍ من صوف (بطّانيّة) بعد أن أمرها وأخاهما "عادل" بالسكن والمبيت عنده ليجتمع شمل الأسرة في هذه الأيّام الثلاثة العصيبة فاستجابت هيّ في حين اعتذر "عادل" وفضّل المكوث في منزله متعللاً بأنّه يرتاح أكثر هنالك، ولمّا وصل لحجرة استقبال الضيوف (الصالون) شعر بنسيم هواءٍ بارد يصفع وجهه متسلّلاً من النافذة المفتوحة والتي وضعت ستارتها جانباً فظهرت السماء وتجلّى فيها منظر المذنّب "الماحي" واضحاً وقد زاد حجمه واشتد بريقه، كما شاهد زوجته وقد بسطت سجّادة الصلاة وجلست رافعةً يديْها في الهواء تدعو وتتضرّع إلى ربّها بصوت خفيض هادئ وبقلب خاضع خاشع وبعيْنيْن دامعتيْن شاخصتيْن نحو السماء، فاقترب "باسم" أكثر وهو يسير على أطراف أصابعه حثيثاً لكي لا يقطع عليْها وحدتها واسترق النظر إليْها خِلسةً وأصاخ السمع إلى ابتهالاتها فسمعها تقول:

- اللهمّ أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت.. أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.. استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأسأله التوْبة والمغفرة.. استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه توبة عبدٍ ظالمٍ لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موْتاً ولا حياةً ولا نشورا.. اللهمّ مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجى عندي من عملي.. سبحانك لا إله غيرك اغفر لي ذنبي واصلِح لي عملي إنّك تغفر الذنوب لمن تشاء وأنت الغفور الرحيم.. يا غفّار اغفر لي يا توّاب تُب عليّ يا رحمن ارحمني يا عفو اعفُ عني يا رؤوف ارأف بي.. اللهمّ إني استغفرك من كل سيئةٍ ارتكبتُها في وضح النهار أو سواد الليل في ملأٍ أو خلوة في سرٍ أو علانية فلم استحِ منك وأنت ناظرٌ إليّ.. اللهمّ إني استغفرك من كل فريضةٍ أوجبتَها عليّ في الليْل أو النهار تركتُها خطأً أو عمداً أو نسياناً أو جهلاً.. واستغفرك من كل سُنّةٍ من سنن خاتم النبيّين "محمّد" صلى الله عليه وسلم تركتُها غفلةً أو سهواً أو نسياناً أو تهاوناً أو جهلا.. استغفر الله وأتوب إليه ممّا يكره عملاً وقولاً وفعلا.. اللهمّ إنّى استغفرك وأتوب إليْك.. اللهم إني استغفرك لكل ذنبٍ خطوْت إليه برجلي أو مددت إليه يدي أو تأمّلتُه ببصري أو أصغيت إليه بأذني أو نطق به لساني.

وبالرغم من عدم تمالُك "باسم" لنفسه من فرط التأثّر إلّا أن الدموع تحجّرت في عيْنيْه نتيجة تحجّر قلبه قبلهما فقد تسبّب طول بعده عن الله وكثرة ارتكابه للمعاصي في قسوة جنانه وغلظة شعوره وتبلُّد أحاسيسه، ولكنّه تعجّب من مبالغة زوْجته- العابدة الناسكة الحريصة على آداء فروض ربّها ونوافل رسوله- في خوْفها ورهبتها من عقاب الله وجزائه فقد ظنّ واهماً أنّها أمنت مكر الله وضمنت لها مكاناً في جنّته- عزّ وجل- وأنّها من هؤلاء القوْم الغافلين الذين اعتمدوا على رحمة الله تعالي وركنوا إلى كرمه وتواكلوا على عفوه فألهتهم أماني المغفرة عن طاعة الله وذكره وضيّعوا أمره ونهيه ونسوا أنّه سبحانه شديد العقاب فباتوا على ذنوبهم لا يرجون حساباً فعاقبهم الله بجهنّم التي كانت مرصاداً جزاءً وفاقاً لما ارتكبوه من آثام، ولم يفطن عقل "باسم" القاصر حينها أنّه خيْرٌ للعبد أن يخاف الله حتّى يدرك أمنه من أن يأمن مكر الله فتلحقه المخاوف.

ولكن لا بأس؛ فقد بدأ يلين قلب "باسم" الفظ الخشن ويذعن لفطرته السليمة ويخضع لصوت ضميره الذي قارن بين حال زوْجته وحاله، وتساءل في نفسه: "إذا كان موْقف زوْجتي هكذا فما بال موْقفي تجاه الله؟ وهل سيمحو الله أخطائي وخطاياي بمجرّد نيّتي التوْبة؟ وهل طاعة ثلاثة أيّام فقط ستزيح معصية سنين طويلة"، ولكنّه تذكّر أخيراً اللوحة الملوّنة ذات الإطار المذهّب التي أهداه إيّاها أحد أقاربه قديماً بمناسبة ترقّيه في العمل فعلّقها على الحائط المقابل لمكتبه في الجريدة والتي كان مكتوباً فيها بالخط العربي الثُلُث المزخرف الجميل عبارة "لا تيْأسوا من روح الله"، ولكنه- ولشدّة جهله بالقرآن العظيم- لم يكن ليعرف نداء الله الربّاني لمن هم على شاكلته: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ".

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent