خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (17) "عائشة" ترفع الحجاب


الممثلة السويسرية أورسولا أندريس في دور الملكة هي أو عائشة من فيلم يحمل نفس الاسم للسير هنري رايدر هاجارد

(17) "عائشة" ترفع الحجاب

 

 

نهضت وحملقت في الماء، وعندئذٍ رأيته يتحوَّل إلى لوْنٍ قاتم، ولم يلبث أن راق وصفا، فرأيْت زوْرقنا في تلك التُرعة المروِّعة واضحاً جليّاً، وكان "ليو" نائماً في قاعه وقد غطَّى وجهه بسُترةٍ لتمنع عنه أذي البعوض، ثم رأيت شخصي و"جوب" و"محمـداً" ونحن نجذب القارب من فوْق الشاطئ.

تراجعت إلى الخلف خطوةً وأنا مبهوتٌ لرؤية هذا المنظر، وصِحت:

-       إن هو إلّا سحر!!

فابتسمت وأجابت:

-       لا .. لا يا "هولي" .. ليس هو بسحر .. فالسحر نوْعٌ من الجهل وليس في الدنيا شيءٌ اسمه السحر .. ولو أن هناك ما نُطلِق عليه اسم "معرفة طُرُق الطبيعـة السِريّة" .. إن هذا الماء مرآتي التي أستطيع أن أعرف بواسطتها ما يخفى على البشر .. ففي استطاعتي أن أُريك على صفحة هذا الماء ما تريد أن تراه من حوادث الماضي .. ويكفي لذلك أن تُفكِّر في ذلك الشيء لترى صورته منعكسةً على صفحته .. إنني لم أقف بعد على جميع الأسرار .. وليس في استطاعتي معرفة المُستقبَل .. وأمّا هذا الذي أعرفه فسِرٌّ قديمٌ عرفته الساحرات في "مِصر" وبلاد العرب منذ أجيال .. وقد اتُفِقَ ذات يوْمٍ أن فكَّرت في القناة القديمة التي مرَّ على مروري فيها نحو عشرين جيلاً .. وعوَّلت على أن أراها مرّةً أُخرى .. فنظرت إلى الماء .. وعندئذٍ رأيت زوْرقاً وثلاثة رجالٍ يسيرون على الشاطئ .. بينا كان شابٌ - لم أستطِع أن أتبيَّن وجهه - مُـمَـدَّداً في الزوْرق .. فأرسلت مَن أنقذكم .. والآن حدِّثني عن هذا الشاب الذي يُسمّيه الشيْخ "بلال" "الأسد" .. فإنني أتوق إلى رؤيته .. ولكنك تقول أنه مريضٌ بالحُـمّى ومصابٌ بجُرح.

فقُلت بحزن:

-       نعم .. إنه مريضٌ جداً .. أفلا تستطيعين أن تفعلي شيئاً من أجله أيتهـا الملكة؟ .. يا مَن أُحِطتِ من العِلم والمعرفة بما لم نُحِط به؟

-       نعم أستطيع أن أُبرِئه .. ولكن لِـمَ أنت شـديد الحُزن .. هل تحب الشاب؟ .. أظنه ابنك.

-       لقد تبنيْته أيتها الملكة .. هل تسمحين بنقله إلى هُنا؟

-       كلا .. متى أصابته الحُـمّى؟

-       منذ ثلاثة أيّام.

-       إذن دعه يوْماً آخر .. فربما تغلَّب على الحُمّى بقوّته .. فهذا خيْرٌ من علاجه بعقاري الذي يهز الروح في مكانها .. فإذا لم تتحسَّن حاله حتى مثل هذه الساعة من الغد فسآتي لأُشفيه .. لكن من يتولَّى العناية به؟

-       خادمنا الأبيض ويُدعى "جوب" .. وامرأةٌ تُدعى "أوستين" .. وهي فتاةٌ جميلةٌ من أهل هذه البلاد جاءت وعانقته عندما وقع بصرها عليه .. ثم لازمته حتى الآن حسب عادة شعبكِ أيتها الملكة.

فهتفت:

-       شعبي! .. لا تقُل شيئاً عن شعبي .. فقد مللت البقاء بين هذه الوحوش .. ومـجَّت أُذُناي الألقاب وألفاظ التملُّق .. فنادِني باسم "عائشة" .. وأما "أوستين" هذه فلا أعلم شيئاً عنها .. ولا أدرى إن كانت هي التي حذرت منها . هل لها .... قِف .. سأری.

ومالت فوق وعاء الماء ومرَّت فوقه بيديْها، ولم تلبث أن قالت:

-       انظر .. هل هذه هي المرأة؟

فنظرتُ إلى الماء وعندئذٍ رأيت وجه "أوستين" الجميل مُنعَكِساً فوق صفحته اللامعة، وكانت الفتاة تنحني إلى الأمام وتُرَتِّب شيئاً أمامها، استوْلى عليَّ الاضطراب لرؤية هذا المنظر الغريب وقُلتُ بصوْتٍ خافت:

-       نعم .. إنها هي ولا ريْب .. إنها تراقب "ليو" وهو نائم.

فقالت "عائشةٌ" بلهجةٍ مُضطرِبة:

-       ليو؟! .. هذا الاسم معناه "الأسد" باللاتينيّة .. لقد نطق الشيْخ "بلالٌ" بهذا الاسم عن حِكمة.

وناجت نفسها قائلة:

-       يا له من أمرٍ غريب! .. غريب جِدّاً! .. إنه لكذلك .. ولكن هذا مستحيل.

ومرَّت بيدها فوق سطح الماء مرة أخرى فاختفى المنظر في التوْ، وأطرقت "عائشةٌ" هُنيْهة، ثم رفعت رأسها وقالت:

-       هل لديك ما تُريد أن تقوله يا "هولي"؟

فقلت بجرأةٍ لم أعهدها في نفسي من قبل:

-       نعم .. أريد أن أُلقي نظرةً واحدةً على وجهكِ.

فضحكت ضحكةً عذبةً ثم قالت:

-       فكِّر فيما تقول یا "هولي" .. إذ أخشى أن يصرعك جمال وجهي .. ثم اعلم أيضاً أنني لست لك .. وإنما لرجلٍ مُعيِّنٍ لم يأتِ بعد.

فهززت کتفيَّ استخفافاً وقلت:

-       لست أخشى جمالك يا "عائشة" .. فقد صرفت قلبي عن هذه الأمور الزائلة التي تُسمّونها "الجمال النسوي" .. وهو الذي لا يلبث أن يذبُل كما تذبُل الزهور.

-       لا .. إنك مخطىءٌ یا "هولي" .. فإن جمالي لن يذبُل .. وسيبقى مادُمْتُ على قيْد الحيـاة .. لكن على رِسْلك با صاحبي .. إذا كنت تُصِر على رؤية وجهي فسأجيبك إلى طلبك.

-       نعم .. نعم.

فرفعت "هي" ذراعيْها البيضاويْن الملفوفتيْن، وحلَّت ببطءٍ مشبكاً مُلتَصِقاً بشعرها، وسرعان ما سقط وشـاحـهـا الرقيق فوْق الأرض، وعندئذٍ جالت عيْناي في قوامهـا البديع الذي لم يعُد يستره الآن غير ثوْبٍ أبيض شفاف يكشِف عن قوامها المعتدل ورشاقتها الدالَّة على حياةٍ أعظم من الحياة العاديّة وجمالٍ يتضاءل أمامه الجمال البشري، وكانت تلبس في قدميْها الدقيقتيْن حذاءً مكشوفاً (صندلاً) صُنِعَت أربطته من الخيوط الذهبيّة، بينا أحـاط بخصرها وحوْل صديريّتها منطقةٌ (حزامٌ عريض) على شكل ثعبانٍ مزدوج الرأس مصنوعةٌ من الذهب الخالص يتماوج فوْقهـا قوامها البديع إلى أن تنتهي الصديريّة فوْق صدرهـا العاجي الناصع البياض.

ورفعت عيْني إلى ما فوْق صدرها، إلى وجهها، ولم ألبث أن جمدتُ في مكاني مبهوراً مسلوب اللُب، لقد سمعت عن الجمال الملائكي؛ فهأنذا الآن أراه مُجسَّماً أمامي.

ومن المشكوك فيه أن يستطيع إنسانٌ أن يُصوِّر جمال "عائشة"، ذلك الجمال القاهر الجبّار ذا التأثير السحري النفّاذ.

ومع أن وجه "عائشةٍ" كان وجه امرأةٍ لا تتجاوز الثلاثين من عُمرها إلّا أن الأحزان العميقة والتجارُب المؤلمة والغرام المُلتهب كانت قد رسمت عليه خطوطها وتركت فوْق صفحته أثراً لا يُمحَى، فلم تستطِع تلك الابتسامة الرقيقة التى افتر عنها ثغرها أن تُخفي تلك الأحزان الدفينة التى انعكس أثرها في عيْنيْها النجلاويْن.

شعرتُ بقوّةٍ سحريّةٍ لم أستطِع مقاومتها تجذب عيْنيَّ للنظر إليها، فالتقتا عيْناي بعيْنيْها اللامعتيْن اللتيْن خُيِّل إليَّ كأن تيّاراً كهربائيّاً ينبعث منهما بهر عيْنيَّ وكاد يعميهما.

وضحكت "عائشةٌ" ضحكةً عذبةً ثم أحنت رأسها إليَّ بدلالٍ وقالت:

-       أيها الرجل العنيد .. لقد نِلت بغيتك فاحذر أن يقتلك الحُب .. واعلَم يا "هولي" أنني بمأمنٍ من الوقوع فى حُب أى رجلٍ عدا واحداً .. وهو ليس أنت وإنما ذلك الذي لم يأتِ بعد .. والآن: هل أنت قانعٌ بما رأيْت؟

فأجبت بصوْتٍ أجش وقد رفعتُ يدي لأحجب عيْنى:

-       لقد نظرتُ إلى الجمال فصرعني.

-       أحقٌّ ما تقول؟ .. ماذا قلت لك؟ .. أن الجمال يا "هولي" كالبرق يخطف الأبصار .. ولكنه بديع المنظر .. ثم إنه يُتلِف الأشياء يا "هولي" .. ولا سيّما الأشجار.

وأطرقت ثم ضحكت، وأخذت أراقبها من خلال أصابعي فاذا بوجهها يتغيَّر فجأة، فتبرق عيناها وتتقلَّص عضلات وجهها بشكلٍ مروِّعٍ حتى لقد خُيِّل إليَّ أن اضطراباً شديداً يناضل أملاً كبيراً تولَّد في قلبها المُحطَّم، ولم ألبث أن رأيْتُها وقد رفعت صدرها كالحيّة حين تتأهَّب للقتال، وهتفتْ بصوْتٍ أجش:

-       أيّها الرجل: من أين أتيْتَ بهذا الرمز الذى تضعه فى إصبعك؟ .. تكلَّم .. وإلّا بحق "روح الحياة" لقضيْتُ عليك حيث أنت.

وتقدَمت نحوي خُطوةً وعيْناها ترسلان شرراً مُخيفاً، فلم أتمالك أن ترنَّحت هوْلاً وجزعاً، ثم سقطتُ فوق الأرض، وسرعان ما تغيَّر حالها فجاة .. وقالت بصوْتها الرقيق المُعتاد:

-       كُن مُطمئِناً .. لقد أخفتك .. فاصفح عني يا "هولي" .. والحقيقة أن عقلي يمل أحياناً الركود الذى لا نهاية له فأُضطَّر إلى استخدام قوّتي للترويح عن نفسي .. ولذا أرجو معذرتك .. والآن أخبرني: أيْن وجدت هذا الرمز؟

فتهضتُ وأنا أرتجف، ثم قُلتُ مُتلَعثِماً:

-       لقد عثرت عليه.

والواقع أنني كنت فى حالةٍ عقليّة سيئةٍ وفِكْرٍ مُشوَّشٍ فلم أتذكَّر شيئاً عن الخاتم إلّا أنني وجدته فى كهف "ليو"، ونسيت تماماً أنه خاتم "ليو" الذي سقط من إصبعه على أرضيّة الكهف حيث يرقد محموماً.  

زاد اضطراب "عائشة" وغضبها حين سمعت إجابتي، وقالت :

-       هذا غريبٌ جِدّاً .. إني أعرف رمزاً كهذا الذي في الخاتم تماماً كان يتدلَّى من عُنُق شخصٍ أحببته.

ثم تنهَّدتْ واستطردتْ:

-       فلابد إذن أن هذا الرمز يماثل ذلك الذى أعرفه .. ومع ذلك فإنني لم أرَ له مثيلاً من قبل لأن له تاريخاً مشهوداً .. ثم إن الرمز الذى أعرفه لم يكن موْضوعاً فى خاتمٍ من الذهب كهذا .. اذهب الآن يا "هولي" واتركني وحدي .. وحاوِل أن تنسى أن جهلك قد جرَّك إلى رؤية جمال "عائشة".

وتحوَّلتْ عني ثم تهالكت فوْق الأريكة ودفنتْ وجهها بيْن يديْها، وأمّا أنا فغادرت الغُرفة وأنا أتعثَّر فى سيْري،‏ ولا أدري كيف بلغت كهفي.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent