خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (20) كهوف الموْتى

 

أكوام من عظام وجماجم الموتى مكدسة فوق بعضها

(20) كهوف الموْتى

 

 

وإذ أُجلي المُجرِمون عن الكهف أشارت "عائشةٌ" بيدها فتحوَّل المُتفرِّجون وأخذوا يزحفون على بطونهم إلى الخارج كقطيعٍ من الغنم، ولم يبقَ حاضراً في الكهف غيري وغير الملكة وبعض البُكم وعددٌ قليلٌ من رجال الحَرَس.

خطر لي أن هذه أنسب فرصة، فطلبتُ من "عائشة" أن تأتي لزيارة "ليو"، وحدَّثتها بما وصلتْ إليه حاله من الخطورة، ولكنها أبت أن تأتي، وقالت أنه لن يموت قبل الغروب لأن الذين يصابون بهذه الحُـمّى لا يموتون إلّا ليْلاً أو عند الفجر، وأضافت بأنه خيْر له أن يصل المرض إلى أشد درجات الخطورة قبل أن تُبرِئه، وعندئذٍ هممتُ بالانصراف ولكنها استبقتني قائلةً أنها تُريد أن تُریَني عجائب الكهوف، فأذعنتُ مُتأثِّراً بما أصبح لها عليَّ من سُلطانٍ قاهرٍ لا يُقاوَم.

نهضت "عائشةٌ" من مقعدها، وأشارت إلى الفتيات البكماوات، فتناولت أربعٌ منهن المصابيح، وسـارت اثنتان أمامنا، والأُخريان خلفنا، بينا انصرف الحُرَّاس وبقية الفتيات، وقالت "عائشة":

-       انظر إلى هذا الكهف العظيم .. لقد نحته الشعب الذي كان يسكن مدينة السهل من قبل مع كهوفٍ أُخرى .. ولعَمري إنه لشعبٌ عظيم .. ولكنه كان - كالشعب المصري - يهتم بالأموات أكثر من اهتمامه بالأحياء .. انظر .. هذا آخر كهفٍ من الكهوف التي نحتوها.

وتحوَّلت "هي" إلى صخرةٍ بجانبها، وأشارت إلى البكماوات ليرفعن المصابيح فرأيْتُ تمثال شیخٍ جالسٍ على مقعدٍ وفى يده عصا من العاج، وقد نُقِشَتْ على المقعـد بعض جُملٍ بخطٍ يُشبِه الخط الصيني، وجعلت "عائشةٌ" تفك رموز الكتابة، وكان مضمونها أن هذا الكهف تم نحته في عهد الملك "تسنو" ملك "خور" عام 4259 بعد تأسيس مدينة "خور" الملكيّة، وقد اشتغل الشعب وعبيدهم في نحته مُدَّة ثلاثة أجيالٍ ليكون مقبرةً لمَن سيأتون بعدهم من كبار القوم وعظمائهم.

وقالت "عائشة":

-       ها قد رأيْت يا "هولي" أن هذا الشعب قد أسَّس المدينة التي لا تزال أطلالها باقيةً في السهل منـذ أربعة آلاف سنةٍ قبل أن ينحتوا هذا الكهف الذي لايزال مُحتَفِظاً بروْنقه كما كان يوْم رأيْتُه منذ ألفيْ عام .. والآن هَلُمَّ بنا لأُريك كيف سقط هذا الشعب العظيم.

وتقدَّمتني إلى وسط الكهف، ثم وقفت عند نقطةٍ حيث سَدَّتْ صخرةٌ مستديرةٌ ثغرةً تسع حجم رجل، ثم استطردت:

-       انظر .. سأُترجِم لك الكتابة المنقوشة على الجدار بجانب الصخرة.

وكان مُجـمَل الكتابة يُفيد أن حضارة "خور" قد سقطت، بعد أن فَنَى جميـع أهلها على أثر وباءٍ فتّاكٍ حَلَّ بالمدينة، حتى أنه استحال دفن أبنائها حسب التقاليد القديمة بسبب كثرة الموْتى فکُدِّسَتْ جُـثثهم في الحُفرة العظيمة تحت الكهف الذي كُنّا واقفين فيه، وأمّا تاريخ تحرير هذه النقوش فكان عام 4803 على تأسيس مدينة "خور".

تنهَّدتُ دهشةً واستغراباً، فابتسمت "عائشة" وقالت:

-       ماذا؟ .. يُخَـيَّل إليَّ أنك آسفٌ من أجل هذا الشـعب العريق الذي عرف المدنيّة وبلغ شأواً بعيداً في العِلم والفن لم يبلغه المصريّون الذين جاءوا بعده .. هَلُمَّ معي يا "هولي" لأُريك تلك الحفرة العظيمة التي نحتوها تحت الكهف .. وهي الحُفرة التي ورد ذِكرها في النقوش التي قرأتها لك الآن.

وتقدَّمتني إلى ممرٍّ جانبيٍ يتفرَّع من الكهف الأكبر، ثم هبطت دَرجاً كبيراً، وسِرنا في سردابٍ تحت الأرض لا يقل عن سِتّين قدماً عن سطح الصخرة، ولم ألبث أن وجدتُ الممر قد انتهى حيث وقفتْ "عائشة" التي أمرت الفتيات أن يرفعن المصابيح، وعندئذٍ وقع بصري على منظرٍ لم ولن يُحتَمَل أن أرى له مثيلاً.

ألفيْت نفسي واقفاً على شفا هوّةٍ واسعةٍ تمتـد إلى مسافةٍ بعيدة، وكانت مُغطّاةً بعظام الموْتى المُكدَّسة بعضها فوْق بعض، وكان المنظر يبعث الرهبة في القلوب، فلم أتمالك أن أفلتت شفتاي صرخة ذُعرٍ داويةٍ تردَّد صداها في جوانب هذه المقبرة الموحِشة.

صِحتُ بجزع:

-       دعينا ننصرف من هذا المكان المُفزِع .. لا ريْب أن هذه جُثث الذين راحوا ضحيّة الوباء .. أليس كذلك؟

فأجابت "عائشة" ونحن نتأهَّب لمغادرة المكان:

-       نعم .. إن أبناء "خور" يُحنِّطون موْتاهم كما كان يفعل المصريّون .. ولكنهم كانوا يبزّونهم (يغلبونهم ويفوقونهم) عِلماً .. فالمصريّون نحوا (اتَّجهوا واقتفوا) نحو استخراج المُخ عند التحنيط .. بينا اتبع أهل "خور" حَقْن الأوْردة بسائلٍ يصل إلى جميع أجزاء الجسم .. ولكن مهلاً فسترى بعيْنيْك.

ووقفتْ أمام بابٍ صغيرٍ في الممر، ثم أشارت إلى الفتيات، ومن ثَمَّ نفذنا إلى غرفةٍ صغيرةٍ كتلك التي نِمتُ فيها ليْلة وصولنا إلى "أُمّة حجر"، مع فارقٍ واحدٍ هو أن تلك الغُرفة كانت تضم بين جُدرانهـا منصَّتيْن صخريّتيْن بدلاً من واحدة .. وكانت فوق النضد جُثَثٌ مُدرَجةٌ في قماشٍ من الكِتّان، وعليها طبقةٌ خفيفةٌ من الرماد.

قالت "عائشة":

-       انزع الأكفان یا "هولي".

فخطـوْتُ إلى الأمام لأُنفِّـذ الأمر، ولكن سرعان ما نكستُ على عقبيَّ لهوْل المشهد، فضحكت "هي" هازئةً مني، وتقدَّمت من إحـدى الجُثث وشرعت تفك الأربطة والكَفَن الذي يشملها - أي الجُـثّة - إلى أن ظهر في النهاية وجهٌ جميلٌ مكث محجوباً عن العالم آلافاً من السنين، وكان الوجه وجه امرأةً في ريْعان شبابها لاتزال محتفظةً بطابع الجمال، وملامحها وتقاطيـع وجهها لا تزال أيضاً واضحـة، مـع حاجبيْن دقيقيْن وأهدابٍ طويلة، بينا كان يشمل جسمها البديع التكوين ثوبٌ أبيض يتموَّج فوْقه شعرها الأسود الطويل، وعلى صدر المرأة استقر طفلها الصغير.

كان المنظر رائعاً ومُؤثِّراً معاً، فلم أستطع أن أمسك عبراتي، فأسرعت "هي" بسحب الأكفان فوْق الجثة، ثم تحوَّلت إلى الناحية الأخرى، وكشفت عن الجُـثّة المقابلة فرأيْت وجه رجلٍ طاعنٍ في السن ذي لحيةٍ طويلة، يرندی ثوْباً أبيض، ولا ريْب في أنه كان زوْج السيِّدة جاء أليها أخيراً لينام نوْمته الأبديّة إلى جوارها.

تملَّكتني الرهبة وأحسست بالانقباض، ولكن "هي" لم تشَأ أن تدعني أنصرف دون أن أرى بقية المقابر، على أن المجال لا يسمح لي بذِكر كل ما وقع عليـه بصري، ويكفى أن أقرر أن الموْتى جميعاً لم تُصِب جُثثهم بالتلف، كأنما هم دُفِنوا بالأمس.

قالت "عائشةٌ" بصوْتٍ جهوري ونحن نزور أحـد المقابر:

-       انظر ماذا يصيب الإنسان يا "هولي" .. إن مصيرنا جميعاً إلى القبر .. حتى أنا التي عَمَّرتُ هذه الأعوام الطويلة لن أسلم من هذا المصير ولو عِشت عشرات الألوف من السنين .. فما هي إذن الفائدة التي جنيْتُها من حياتي الطويلة - بعد أن استطعت أن أدرأ الموْت عن نفسي بما وقفت عليه أسرار الطبيعة - ما دمتُ سأُدرَج في أكفاني في النهاية؟ .. ما هي عشرة آلاف سنة .. أو عشرة أضعاف هذه المُدَّة في تاريخ الزمن؟ .. لاشيء! .. إنها كسحابةٍ تحجب ضوْء الشمس هُنيْهةً ثم تقشع .. انظر ماذا يصيب الإنسان يا "هولي" .. لا مفر من أن يُصيبَنا ما أصابهم ويلحقنا النوْم الأبدي .. ولكن لا ريْب أيضاً في أننا سنستيْقِظ ونعيش مرّةً أخرى .. ولكن تُرى هل تكون نهايتنا الموْت أو الحياة؟ .. ليس الموْت إلّا ليْل الحيـاة .. ومن الليْل يتولَّد النهار .. ثم يلحق الليْل النهار .. فماذا - يا ترى - سيكون مصيرنا يا "هولي" عندما ينتهي الليل والنهار والحياة والموت وتتلاشى جميعاً كما جاءت؟ .. مَن يدري؟ .. لا أحد .. حتى ولا أنا.

وغيَّرتْ لهجتها واستطردت:

-       والآن هَلُمَّ بنا يا صديقي .. إذ يُخيَّل إليَّ أنك سئمت النظر إلى هذه المناظر المُفزِعة.

تقدمتنا الفتيات البكماوات وهن يحملن المصابيح، ولم تمضِ بضع دقائق حتى بلغنا دَرجاً صعدناه إلى غرفة "عائشة"، وقد أردت الانصراف ولكنها أبت ذلك وقالت:

-       لا .. ابقَ معي یا "هولي" لأن حديثك يشوِّقني .. دعنا نتناول شيئاً من الفاكهة ونتجاذب أطـراف الحديث وسأكشف لك عن وجهي يا "هولي" .. وربما زاد ذلك في حِدَّة غرامك بي .. ولكن الذنب كان ذنبك من البداية.

ثم نهضتْ وخلعتْ ثوْبها الأبيض فكشفت عن قوامها الممشوق ووجهها الساحر، وراحت تحـدق في وجهي بعيْنيْها النجلاويْن وكأنها استخفها الطرب فضحكت ضحكةً عذبةً رقيقة، وتلاشي من وجهها ذلك الجمود وتلك القسوة التي ارتسمت عليه في قاعة المحاكمة، وغدتْ تمثالاً حيّاً يُعَبـِّر عن الملاحة النسائيّة أبلغ التعبير.

قالت "عائشة" بلهجةٍ رقيقة:

-       اجلس هُنا يا "هولي" حتى تستطيع شهودي .. اجلِس وحدِّثني وأسمِعني إطراءك لجمالي .. إنني امرأةٌ كسائر النساء أُحب المدح والإطراء .. تأمَّلني جيّداً ثم قُل لي بعدئذ: هل رأيْت مَن هي أجمل  مني؟

جثوْتُ أمامها وأنا لا أكاد أتمالك حواسي، ورُحت أُحدِّثها بخليطٍ من اللُغات، قُلت:

-       إنني أُحبّكِ يا "عائشة".

فحدجتني بنظرةٍ تنطوي على الدهشة، ثم انفجرت ضاحكةً وضربت كفاً بكفٍ في طربٍ وقالت:

-       عجباً لك يا "هولي" .. لم يدُر بخلدي أنك ستسقط بمثل هذه السُرعة .. ولطالما تساءلت عن عدد الدقائق التي ينبغي أن تمر قبل أن تركع فوق رُكبتيْك .. إنني لم أرَ رجلاً يجثو أمامي منذ أجيال .. ولعَمري إن المنظــر بديعٌ يستهوي أي امرأة .. وأنا ما زِلتُ أتمتَّع بنعمة الأنوثة .. لكن يا "هولي": ألم أقُل لك أنني لست لك؟ .. إنني أحب رجلاً معيَّناً .. ولستَ أنت هذا الرجل .. إنك ترتكب شططاً یا "هولي" بالسيْر في ذلك الطريق الذي يدل على الحماقة .. آه .. إنك تريد النظر في عيْنيَّ وتبغي تقبیلي .. حسناً على رسلك.

ومالت نحوي وحدقت بعيْنيْها السوداويْن في عيْنيَّ واستطردت:

-       نعم .. قَبِّلني إذا شِئت .. فإن القُبُلات لا تُدمي القلوب .. ولكن ثِق أن هذه القُبلة ستُزيد اشتعال نيران الحب في قلبك وينتهي بك الأمر إلى هلاكٍ مُـحَـقَّق.

ثم دنت مني إلى أن لمس شعرها الناعم جبيني ولفحت أنفاسها العِطريّة وجهي، فتملَّكني الضعف والتخاذُل ومددت ذراعي نحوها، ولكنها ارتدَّت عني فجأة وقد تبدَّلت هيئتها، ثم وضعت يدها فوْق رأسي فخُيِّل إليَّ كأن شيئاً ينبعث منه أرسل البرودة إلى جسمى وأعاد إليَّ صوابي، فأدركتُ ما تقتضيه واجبات اللياقة والضيافة، واستطردتْ "عائشةٌ" بلهجةٍ رزينة:

-       كفى حماقةً يا "هولي" .. اصغِ إليَّ .. إنك رجلٌ طيّب القلب وأمين .. وأنا لا أريدك أن تتمادى .. فتذكَّر دائماً أننى لست لك .. ولا تحاول أن تسلك مسلكاً طائشاً .. وإلّا أسدلت القناع على وجهي فلا تراه إلى الأبد.

فنهضتُ واقفاً وتهالكت بجانبها فوق الأريكة وأنا أنتفض من شِدَّة الانفعال، وعادت فقالت:

-       عليك بشيءٍ من هذه الفاكهة يا "هولي" فهي الغذاء الصالح للإنسان .. والآن حدِّثني عن فلسفة "المسيح" الذي جاء بعدي ويحكم الآن - كما تقول - "روما" و"اليونان" و"مِصر" وشعوب البرابرة .. لا ريْب في أن فلسفته غربية .. لأن الشعوب كانت تتنكَّر لفلسفتنا .. ولا دين لها غير حُب الشهوات وشُرب الخمر والقتال.

كنتُ قد استعدتُ شيئاً من رباطة جأشي في تلك اللحظة، فأخذت أشرح لها التعاليم المسيحيّة ولكنها لم تكترث لها كثيراً .. وإنما أصغت بانتباهٍ شديدٍ حين حدَّثتها عن نظريتنا عن السماء والنار، وإذ ذكرتُ لها أن نبيّاً آخر اسمه "محمد" قد ظهر بين شعبها - العرب - منذ قرون .. وأنه نادى بتعاليم جديدة ودينٍ جديدٍ يعتنقه الآن ملايين من البشر.

قالت:  

-       آه .. إذن فهناك الآن دينان جديدان .. لقد عرفت أدياناً كثيرة .. ولا ريْب أنه كانت هناك أديانٌ أُخرى عديدة إذ أني احتجبتُ عن العالَم على أثر قدومي إلی "خور".

وتنهَّدتْ ثم استطردتْ عندما ألفتني مُلتزِماً الصمت من تأثير الصدمة التي هدَّت قواي وهدمت أعصابي:

-       ما لي أراك صامتاً یا "هولي"؟! .. هل مللت حدیثي عن الفلسفة؟ .. لن أُحدِّثك عنها إذن .. ولنطرق باباً آخر للحديث .. ما الذي ينبغي أن نفعله الآن؟ .. آه .. هَلُمَّ بنا لزيارة "الأسد" .. أعني صديقك الشاب الذي وقع فريسةً للحُمّى .. فلا ريْب أن المرض قد بلغ حَدَّه الآن وأن الموْت يتهدَّده ما بين لحظةٍ وأخرى .. انصرف الآن وسألحق بك بعد إعداد العقار .

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent