خبر
أخبار ملهلبة

"أرواح بلا قبور" | الغابة الميتة (3)


حفرة عميقة في حديقة يستقر في قاعها تابوت خشبي به ميت لدفنه

"أرواح بلا قبور" | الغابة الميّـتـة (3)

 

 

وظلّ "باراك" على هذا المنوال يتصيّد ضحاياه كل فترةٍ حتّى صباح اليوْم حين انتهى من دفن البرميل الخاص بالضحيّة الثالثة عشر والتي أنهى تجاربه العلميّة على أنسجة عيْنيْها وأصبح دواؤه جاهزاً لتجربته على المرضى الأحياء المصابين "بالميلانوما" قبل أن يلاقوا مصير زوْجته والتي كان يجلس إلى قبرها من حينٍ لآخر يترحّم عليْها ويطلب منها الصفح عن خطأه بحقّها. |||||

وأفاق "باراك" من ذكرياته على صوْت رنين الهاتف ومكالمة من رئيسه في مركز الأبحاث يبشّره فيها أنه استطاع الحصول على موافقة عددٍ من المرضى المصابين "بالميلانوما" بشأن إجراء تجارب الدواء الجديد عليْهم والذي ركّبه "باراك" على هيْئة قطرةٍ للعيْن، فسُرّ الأخير سروراً عظيماً وأقبل على إنجاز عمله بحماسٍ شديد دون أن يشعر بأي ذنبٍ تجاه من قتلهم وأنهى حياتهم بكل تلك الوحشيّة.

وجاء وقت حصاد "باراك" لما زرعه طوال هذه السنين الطويلة عندما أثبت الدواء فعّاليّته ونجوعه فتلقّفته إحدى شركات الدواء الكبيرة وقامت بشراء حق استغلاله بملايين الدولارات من "باراك" وحدّدت موْعداً لتقديمه للعلماء والمختصّين في مؤتمرٍ مهيب بجامعة "ملبورن"، وبدأ المؤتمر بنبذةٍ عن مركز أبحاث مكافحة السرطان "بملبورن" وأهم إسهاماته في مجال الطب الحديث ومستهدفاته على المدى القريب والبعيد أعقبتها محاضرةٌ قدّمها بروفيسور طب أورام العين بالجامعة عن مرض "ميلانوما" مشيمة العين والقزحيّة، ثم أتت محاضرة "باراك" عن دوائه فاستهلّ كلامه بطلب وقوف الحاضرين دقيقة حداداً على روح زوْجته "إيفيت" التي أهداها ثمرة عمله وخلاصة مجهوده ثمّ شرح أهميّة عقاره ومزاياه العديدة وكشف عن شخصيّة المرضى - وعددهم ثلاثة عشر - الذين تم شفاؤهم تماماً من المرض بفعل العقار الذي توصّل إليه وأفصح للجميع عن أن دواءه بلا أيّة آثارٍ جانبيّة حتّى للأشخاص العاديّين الذين لا يعانون من أيّة أمراضٍ بالعيْن، ولكي يضع لمسةً من الفكاهة على محاضرته الجافّة طلب من أي شخصٍ من الحاضرين التبرّع بالصعود حيث منصّة المحاضرة بالقاعة كي يجرّب عليْه قطرة العيْن الجديدة متقمّصاً دور الساحر الذي يعرض سحره على المشاهدين، وبالرغم من ضحك الحاضرين لهذه اللفتة الكوميديّة إلّا أنّهم أحجموا عن ذلك بعد تردّدٍ قصير فما كان من "باراك" إلّا أن يضع بنفسه لنفسه بضعاً من قطرات دوائه الجديد في كلتا عيْنيْه في ثقةٍ متناهية وسط تصفيق الموْجودين وتضاحكهم، وما هي إلّا ثوانٍ معدودة حتّى أطلق "باراك" صرخاتٍ متتالية ممسكاً بعيْنيْه اللتيْن انبعثت منهما أبخرةٌ كثيفةٌ جرّاء تآكل أنسجتهما نتيجة سائل القطرة الجديد الذي عُرِف فيما بعد أنّه قد تمّ تبديله من قِبَل مجهول بحامض الهيدروكلوريك المركّز، وقام زملاء "باراك" بنقله فوْراً إلى مستشفى الجامعة وسط تأوّهاته وصيْحاته المتكرّرة : "إنقذوني.. إنقذوني"، ودخل "باراك" غرفة العمليّات الطارئة فتمّ استئصال كرتيْ عيْنيْه ولكن بعد ذلك مباشرةً أشارت شاشة متابعة العلامات الحيويّة ورسم القلب الموصَّلة بجسده إلى أن قلبه ينبض مرّةً واحدةً أو مرّتيْن كل دقيقة فحاول الأطبّاء إعادته للعمل بصورة طبيعيّة عن طريق الصدمات الكهربيّة فلم يستجِب ممّا اضطرهم إلى شق صدره والكشف عن قلبه لإجراء تدليكٍ مباشر له إلّا أنّ جميع محاولاتهم باءت بالفشل الذريع فسلّموا بالأمر الواقع وأوقفوا أجهزة التنفّس والإنعاش وأعلنوا موت "باراك" الذي ماتت أسراره معه وضاعت مجهوداته أيْضاً بعد أن فُقِدَت بطريقةٍ غريبة أوْراقه ومذكّراته التي دوّن فيها تفاصيل أبحاثه وتجاربه وكذلك مُحِيَت جميع الملفات الخاصّة بدوائه الجديد من الحواسب الإلكترونيّة (الكمبيوترز) التابعة له في منزله وعمله وشركة الأدويّة التي اشترت الدواء الجديد الذي اندثر سر تركيبته للأبد فعاد مرض "ميلانوما" العيْن وحشاً كاسراً يقض مضجع كل من يصاب به.

وتمّت مراسم الجنازة في هدوء ونقل المقرّبين من "باراك" جثمان قريبهم وزميلهم إلى منزله الريفي حيث قرّروا أن يُدفَن بجوار زوْجته التي أحبّها ومات من أجلها، وبعد إنزال جسده في صندوقٍ خشبيٍ ثم إهالة التراب عليْه تفرّق المعزّين كلٌ إلى حال سبيله.

والغريب أن زملاء "باراك" والأطبّاء الذين حاولوا إنقاذه قبل موْته لم يدُر بخلدهم أبداً أنّه ما زال على قيْد الحياة فقد توقّف قلبه تقريباً لمدّة ثلاث عشرة ساعة فقط دون سببٍ طبيٍ معلوم ثمّ عاد إلى العمل مرّةً أخرى وأخيرة بعد أن تمّ دفنه فوجد نفسه - برغم فقدانه للبصر - غارقاً داخل ظلامٍ مطبق في صندوقٍ ضيّق محاطاً بثلاثة عشر زوْجاً من العيون تحاصره من كل جانب وتحدق فيه بغضبٍ عارم فظلّ يصرخ مرعوباً ويضرب بيديْه وقدميْه جدران الصندوق من الداخل محاولاً الفكاك من مطاردة هذه العيون دون أن يجد من ينقذه ويخرجه من العالم السفلي الموحِش إلى سطح الأرض العامر حتّى أُغشي عليه.

وعلى عكس المنطق والمعقول مضت سنينٌ طوال ظلّ خلالها صراخ "باراك" يتردّد عالياً بيْن الفينة والأخرى في جنبات "الغابة الميّتة": "إنقذوني.. إنقذوني".  

 

 

(تمّت)

google-playkhamsatmostaqltradent