خبر
أخبار ملهلبة

مزرعة الحيوانات | الفصل التاسع | جورج أورويل


من مقولات الأديب جورج أورويل عن العلاقة بين ثورة الشعب ووعي الشعب

الفصل التاسع

 

 

كان حافر "بوكسر" بطيئاً في التئامه، وقد ابتدأت الحيوانات في إعادة بناء الطاحونة بعد أن انتهت مهرجانات الاحتفال بالنصر مباشرةً، ولم يكن "بوكسر" ليقبل أن يتوقّف عن العمل يوْماً واحداً برغم ما يعانيه من بالغ الألم.

وكان اعتزازه بكرامته يأبى عليه أن يُطلِع رفاقه على مدى إحساسه بالآلام، فإذا ما أقبل المساء وانتهت نوْبات العمل، قفل راجعا إلى "كلوفر" يبث لها ما يعانيه.

وكانت "كلوفر" تعد له لدائناً من الحشيش الممضوغ تداوي بها حافره المصاب، وكانت هي و"بنيامين" يُلِحّان عليه إلحاحاً شديداً ألّا يرهق نفسه هذا الإرهاق الشـديـد في عـمله الدائب، وطالما ردّدت "كلوفر" على مسامعه ما تعلمه من أن رِئة الخيْل هي نقطة الضعف فيها والتي يؤثّر عليها الإجهاد الشديد تأثيراً سيْئاً.

ولم يكن "بوكسر" ليستمع إليها وآماله كلها تتركّز في ضرورة الانتهاء من تشييد الطاحونة، وأن يوفّر لها كل الإمكانات الضروريّة قبل أن يبلغ سـن الـتـقـاعـد المقرّرة والتي لم يبق له على بلوغـهـا إلّا القليل؛ ففي بداية حركة الانقلاب قنّنت الثوْرة نظاماً تحال بموجبه شتّى الحيوانات إلى التقاعد عند سٍنٍ محدّدةٍ وكانت هذه السِن اثني عشر عاما للخنازير والخيل وأربعة عشر عاماً للبقر وتسعة أعوامٍ للكلاب وسبعةً للأغنام وخـمـسـة أعـوامٍ لـلـدجـاج والإوَز والبَط، وقد طُرِحَت هذه اللائحة للتصويت وحظيت بالإقرار بالإجماع، ولم يكن أحدٌ من حيوانات المزرعة قد بلغ بعد سِن التقاعد، ومع ذلك فقد أعيد طرح مـوضـوع التحديد لسِن المعاش لمختلف الأصناف المرّة تِلو المرّة، وقـد قـيـل أخـيـراً بـعـد أن أقيم المرعى الصغير وزُرِع شعيراً: إن جُزءاً من المرعى الكبير سيسوَّر ويخصَّص للمحالين إلى المعـاش، كـمـا قـيـل أيْضاً: إنه قد اتُفِق على المخـصّـصـات المقـرّرة للمتقاعدين وهي خمسة أرطالٍ من الغلال يوْميّاً يُزاد عليها في الشتاء خمسة عشر رطلاً من الدريس، كما يُضاف إلى هذه الوجبة جزر ٌأو تفّاحٌ في المناسبات.

وكان "بوكسر" سيصل إلى تمام سِن الاثنى عشر عاماً في نهاية "الصيْف" في العام التالي، وفي هذه الأثناء كانت الحيوانات تعمل عملاً متواصلاً في شتاءٍ قارصٍ كسابقه، وكان الغذاء المتاح لها أقل ممّا اعتادته.

ومرّةً أخرى تقرّر تخفيض وجبات جميع حيوانات المزرعة ما عدا الخنازير والكلاب وبرّر "سكويلر" ذلك التـفـاوت في المعاملة بقوْله: إن المساواة الكاملة في الوجبات تتنافى في جوهرها ومبدأ الحيوانيّة!، وقد قرأ عليهم البيانات الإحصائيّة التي يتّضح منهـا بـجـلاء أن وَجباتهم المعدّلة كافيةٌ برغم المظاهر التي تتعارض هي وهذه الحقيقة!

وكـان "سكويلر" يصر على اسـتـعـمـال كلمة "التعديل" في المقرّرات الغذائيّة بدلاً من لفظ "الإنقاص"، وقد اتّضح من المقارنات الإحصائيّة التي ساقها لها أنها بالفعل تحظى بغذاءٍ وافرٍ يفـوق بكثير ما كان "جونز" يقدّمه لها ومـدى الرَغَد الذي تنعم به، وفي حديثٍ سريعٍ يفيض بالانفعال بَيّنَ لها الزيادة التي تحظى بها في كُل المواد الغذائية من القُرْطُم (نبات العُصْفُر) والدريس واللِفت، كما بَيّنَ لها انخفاض عدد ساعات عملها الفعليّة في ظل الثوْرة وتحسُّن نوعيّة ونقاء مياه الشرب وارتفاع متوسط الأعمار وانخفاض نسبة وَفيات الأطفال، كما أنها أصبحت تنعم بالمزيد من القَش اللازم للتدفئة، كما هبطت نسبة وجود البراغيث كثيراً عمّا كانت عليه قبل الانقلاب!، ولقد صدّقت الحيوانات كل ما أذاعه عليها "سكويلر"، وخصوصاً أنها أصبحت لا تتذكّر عهد "جونز" بوضوح .

إنهـا ولا شك تعاني من وَطأة عملٍ قاسٍ في ظل ظروفٍ صعبة؛ فهي تعمل طوال يوْمها برغم البرد والجوع، ولكنها برغم ذلك لا بد أن تكون بالفعل أسعد حالاً مما كانت عليه في العهد الماضي!، إن مثل هذه الحقائق التي أبرزها "سكويلر" والتي أضحت تقتنع بصحّتها تضفي عليها بعض الراحة والسعادة، كما ألمح "سكويلر" بنعمة الحريّة التي تحظى بها وقد أحسّت الحيوانات بالسعادة لفكرة العمل بوحيٍ من نفسها دون إجبار.

وعند قدوم "الخريف" جَدَّ على المزرعة أعضاءٌ جدد، فقد وضعت أربع خنزيراتٍ واحداً وثلاثين موْلوداً فيما بينها يقع على المزرعة عبء إطعامها، ولمّا كانت جميع الخنازير الوليـدة رقطاء اللوْن ولمّا كـان "نابليون" هو الذكر الوحيد بين الخنازير الذي لم تُجرَ عليه عملية الخصي، فقد كان يظن بالمزرعة أنه الأب الأوْحد المحتمَل، وذلك ما قد تم بالفعل إعلانه رسميّاً بعد ذلك وقد تقرّر بناء مدرسةٍ خاصّةٍ بها حالما يوجد الطوب والخشب اللازمان.

وقد كان "نابليون" يشرف بنفسه على توجيه هذه الخنازير الصغيرة في مطبخ المنزل، وكانت تتدرّب على الرياضة بحديقة المنزل، كما صدرت إليها التعليمات بتجنّب اللعب مع صغار الحيوانات الأخرى، وفي ذلك الوقت أيضاً صدرت التعليمات لحيوانات المزرعة بأنه إذا ما تقابل خنزيرٌ وحيوانٌ آخر في ممرٍ ضيّقٍ فإنه ينبغي على هذا الحيوان الآخر أن ينتحّى جـانـبـاً ريْـثـمـا يمر الخنزير!، وكذلك أُعطى الإذن لجـمـيـع الخنازير على اختلاف رُتَبها بتزيين ذيولها بالأشرطة الخضراء في أيام "الآحاد"!

ومع أن مـحـصـول الموسم كـان جـيّـداً فـإن المزرعـة كـانت تعاني من نقص العملات النقديّة لشراء الطوب والرمل والجيـر لبناء المدرسة، وكذلك لتوفير شتّى متطلبات الطاحونة من الأجهزة، وكان عليها أيضاً شـراء البترول اللازم للإضاءة والشـمـوع للمنزل، والسكّر لـ"نابليون" وحده فقد أصدر أمره بحظر أكله على بقية الخنازير بدعوى حرصه على عدم ترهلها، وكذلك ينبغى شراء الأدوات المختلفة كالمسامير والحبال والفحم والأسلاك والحديد وبسكويت الكلاب!

ولذلك فقد بيعت كميةٌ من الدريس ومحصول البطاطس؛ كما عُدِّل عقد بيْع البيْض بحيث زيد إلى ستمائة بيـْضةً أسبوعيّاً؛ ممّا كان يهدّد بنقص عدد الدجاج بالمزرعـة بعد أن اتّضح أن البيْض المخصّص للفقس في هذا العام لم يكن كافياً، وقد تقرّر إنقاص الوجبات المقرّرة للحيوانات في شهر "ديسمبر" وأُعيد إنقاصها في "فبراير"؛ كما حُظِر عليها استعمال المصابيح في حظائرها اقتصاداً للبترول، وبرغم ذلك فإن الخنازير كانت دائماً في أحسن حال، بل إنها بدت أكثر وزناً!

وبعـد ظُـهـر يوْمٍ من الأيـّام سـرت رائحـةٌ زكـيـّةٌ تُنْبئ بـغـذاءٍ دافئٍ مطبوخ، ولم تكن الحيوانات قـد شـمّت من قبل مثل هذه الرائحة التي كانت تنبعث من معمل التـخـمـيـر الذي خلف المطبخ والذي كـان قـد أُهمل منذ رحيل مـسـتـر "جونز"، وظلّت الحيوانات تشم هذه الرائحة المنبعثة التي تشبه رائحة الشعير المطبوخ وهي تحلم بوجبةٍ ساخنةٍ عند العشاء تهدّئ من شِدّة البرد الذي تعانيه عند حلول المساء.

ولكن حُلمهـا هـذا كـان بعيداً عن التحقيق؛ بل على العكس من ذلك: ففي اجتماع يوم "الأحد" التالي تلقّت الحيوانات الأمر بتخصيص كل إنتاج الشعير لاستعمال الخنازير وحدها، وكان الحقل الذي خلف حديقة الفاكهة قد زُرِع شعيراً بالفعل.

وقد تسرّبت الأنباء للحيوانات أنه قد قُرِّر لكل خنزير قدحٌ من الجعة يوميّاً على حين خُصِّص لـ"نابليون" نصف جالون يُقَدَّم له في صحنٍ عميقٍ من الصيني الفاخر!

نعم، إن الحياة أمام الحيوانات قد أصبحت قاسية وإن كان يخفِّف عليها بعض هذه القسوة شعورها بمزيدٍ من الكرامة أكثر من ذي قبل، وكذلك فإنها كانت تنعم بمزيدٍ من الأغاني والخُطَب والمواكب، كما أمر "نابليون" أن تُقدَّم لها كل أسبوعٍ حفلة مفاجآتٍ تدور في محورها حول انتصار مزرعة الحيوانات وحتميّة النضال!، وفي المواعيد المقرَّرة لانتهاء العمل كانت الحيوانات تصطف وتسير في مشيةٍ عسكريّةٍ حوْل حدود المزرعـة وقـد تقـدَّمت الخنازير الصف تتبعها الخيْل ثم البـقـر فـالغنم وأخـيـراً طـيـور المزرعـة في حين تمشي الكلاب على جـانبيْ الموْكب يتصدّرها جميعاً ديك "نابليون" الأسود!، وكان "بوكسر" و"كلوفر" يحملان فيما بيْنهما علم المزرعة الأخضر يزيّنه حافـرٌ وقـرنٌ وقد كُتِب عليه: "يعيش الرفيق نابليون"، وبعد ذلك الموْكب كانت تُتلى عليها قصائد المديح لـ"نابليون"، ثم تبـدأ خـطـبـة "سـكـويلـر" لـبـيـان آخر تطورات المركز الإحصائي لزيادة الإنتاج الغذائي، وتيَمّناً بهذه المناسبة تُطلَق رصاصةٌ من البندقيّة!

وكانت الغنم أكثر الحيوانات ترحيباً ومساهمةً في مثل هذه الحفلات المرتجَلة وإذا ما همس أحد الحيوانات بالشكوى (وهو ما كانت تفعله إذا لم يكن الخنازير أو الحمام بجوارها من طول الحفلات وضياع الوقت وتعرُّضها للوقوف الطويل في الصقيع) كانت الغنم تُسرِع إلى إسكاته بهتافها المدوّي: "ذوات الأربع أخيار .. ذوو الرجليْن أشرار" ولكن الغالبية العظمى من الحيوانات كانت تسعد بهذه الحفلات وما فيها من خطبٍ عن الحريّة، كما كانت تسعد أيضاً بالأغاني والمواكب وبيانات "سكويلر" الإحصائيّة وفرقعة البارود وأذان الديك ورفع العلم؛ فإن كل هذا كـان ينسـيـهـا وطأة الجـوع الذي كانت تعـانـيـه ولوْ لبعض الوقت!

وفي "أبريل" أعلنت "مـزرعـة الحـيـوانات" أنـهـا قـد اخـتـارت النظام الجمهوري كنظامٍ للحُكم، وأنه يتعيّن انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، ولمّا لم يكن أحـدٌ قـد تقـدَّم للترشيح لـهـذا المنصب إلّا "نابـليـون" وحـده فـقـد انتُخِبَ بإجماع الآراء!

كما أُذيع في اليوْم نفسه أنه قد تم العثور على وثائقٍ جديدةٍ يتّضح منها بجلاء تآمُّر (قيام بمؤامرة) "سنوبول" مع "جونز"، وهي تفاصيلٌ تؤكّد دور "سنوبول" في الخيانة، فإنه لم يكتفِ كما كان يُتَصَوَّر بالعمل على طعن زملائه الحيوانات من الظهر عند معركة "زريبة البقر" وفقاً لخطّةٍ مدبرة، بل إنه حارب جهاراً في جانب "جونز" وفي وضح النهار، بل إنه كان في حقيقة الأمر يقـود بنفسه حملة الآدميّين، وإنه قد ابتدر المعركة وهو يصيح "فلیحيا بنو آدم"، أمّا الجروح التي كانت تُدمي في ظهره والتي كانت الحيوانات تظنّها من أثر بندقية "جونز" فلم تكن في حقيقة أمرها إلا بفعل أسنان "نابليون"!

وفي منتصف "الصيْف" ظهر في المزرعة فجأة الغراب "موسى" بعد غيابٍ استمر لعدّة أعوام، ولم تكن طبائعه قد تغيّرت في شيء؛ فهو كسولٌ لا يحب العمل، وحينما يتكلّم فإنه كان يؤكّد من جديد قصّته القديمة عن جبل "السُكّر نبات"، ولقـد كـان يجثم على جذع شجرةٍ قديمة ويفرد جناحيْه الأسـوديـْن ويتكلّم في هذا الموْضـوع لساعاتٍ طويلة لمَن يستمع إليه.

وكان يشير بمنقاره الضخم إلى السماء ثم يقول في وقار:

-       هنالك في السماء أيهـا الرفاق .. هنالك في أعالي السماء وخلف هذه السحابة الداكنة التي ترونها بأعينكم جبل "السُكّر نبات" موْطن السعادة حيث تلجأ إليه الحيوانات التعسة إلى الأبد تستريح من شقاء الدنيا!

بل إن مـوسى وصل به الحـد إلى الإدعـاء بأنه صـعـد إلى السـمـاء بنفسه وشاهد حقول البرسيم يحدّها سورٌ من الفطائر وكُتَل السُكّر!

وقد آمن بنبوءته كثيرٌ من الحيوانات التي استحالت حياتها إلى تَعْسٍ أي تَعْس وإلى جوعٍ مريرٍ وقد صوّرت لها أمانيها أن عالماً آخر لا بد أن ينتظرها حيث يسود العدل ويعم الحق!

ولم تكن طبيعة العلاقة ما بين الخنازير والغراب مفهومة؛ فمع أنها كانت تسخر بنبوءته عن جبل "السُكّر نبات" فإنها مع ذلك قد سمحت له بالإقامة في المزرعة بلا عمل، بل إنها كانت تصرّح له بقدحٍ صغيرٍ من الجعة يوميّاً!

التأم حافر "بوكسر" وهو مستمر في عمله بعزيمةٍ لا تعرف الكلل، وحينما تم له الشفاء انكب على عمله بعزيمةٍ أقوى من ذي قبل، كما كانت الحيوانات كلها تعمل كما يعمل العبيد الأرِقاء طوال عامها، فبجانب العمل في إعادة بناء الطاحونة وفلاحة الحقل كان عليها بناء مدرسةٍ خاصّةٍ لصغار الخنازير، وابتدأت في بنائها في شهر "مارس" فعلاً.

وبرغم قسوة العمل مع نقص الوجبات الغذائيّة فإن "بوكسر" لم تفتر عـزيمتـه ولـم تبـدُ عـليـه في أحـاديـثـه أو عمله أيّة ظاهرةٍ من ظواهر الشَيْخوخة وإن يكن مظهـره قـد تغيّر بعض الشيء؛ فقد انطفأت لمعة شعره، ونقص حجم عَجُزه (الجزء الخلفي في نهاية السلسلة الفقريّة بمؤخرته)، وكان أصدقاؤه يأملون له أن يسترد وزنه إذا ما أقبل "الربيع" إلّا أن آمالهم لم تتحقّق في هذا الشأن.

بل إن مظاهر الضعف ابتدأت تلوح عليه حينما كان يصعد المرتقى الصعب من المحجر إلى موْقع الطاحونة، وكانت قوّة إرادته وحدها هي التي تُبقيه واقفاً على أرجله، وكانت الحيوانات تراه وهو يجاهد ويتمتم: "سأعمل أكثر" وصـوْته لا يكاد يخرج من فـمـه مـن الضعف، وكـان "كلوفر" و"بنيامين" يحذّرانه من مـغـبّـة تبـديـد مـا بقي له مـن عـافـيـة وهو لا يلتفت إلى نصحهما، وكان قد أوْشك أن يقرب من الاثني عشر عاماً وقد كرّس كُل همّه في أن يجمع للحيوانات القدر الكافي من الحجارة لإعادة بناء الطاحونة قبل أن يصل إلى سن التقاعد!

وفي ساعةٍ متأخّرةٍ من مساء "الصيْف" سرت في المزرعة إشاعةٌ مفادها أن سوءاً قد وقع لـ"بوكسر" حينما كان يجر بمفرده أحمالاً من الحجارة إلى موْقع الطاحونة، ثم أقبلت حمامتان مذعورتان بالخبر اليقين؛ فقد انكفأ "بوكسر" على جانبه وإنه لا يستطيع حراكاً!

وهَبَّ أكثر من نصف حيوانات المزرعة مندفعةً إلى الربوة وإذا بها تجد "بوكسر" مطروحاً بيْن عـارضـتيْ عـريشـة العـربة (العموديْن الممتدّيْن في مقدمة العربة وبينهما يُربَط الحصان ليجرّها) ورقبته ممدودةٌ إلى الأمام وهو عاجزٌ أن يقيم رأسه وقد غمر العرق الأبيض جانبيْه!، وكانت عيناه تلمعان كالزجاج ليْس فيهما أثرٌ للوعي أو الإدراك وكان شريطٌ رفيعٌ من الدماء يسيل من فمه.

وقد ركعت "كلوفر" على ركبتيْها الأماميّتيْن بجواره وهي تناجيه:

-       "بوكسر" .. كيف حالك؟

وبصوْتٍ واهنٍ أجابها "بوكسر":

-       رئتاي.....

ثم تمتم بصعوبةٍ ووهن:

-       لا شيْءٌ يهمّني الآن وقـد جـمـعت من الحجارة ما يكفي الطاحونة .. وأظنّكم قادرين على إكمالها بعدي.

وأضاف:

-       أنني اقتربت من السن المقرّرة للتـقـاعـد ولـم يبقَ لي على بلوغها إلّا شهرٌ واحدٌ على أي حال .. وقد كُنتُ أتطلّع بأملٍ كبيرٍ إلى بلوغ سِن التقاعُد .. لقـد كُنتُ أُخفي عنكم أملى هذا .. وقد أسعدني أن "بنيامين" كـاد يناهز هو أيضاً السِن المقرّرة وما أظن أحداً سيـضـن عليْنا بالراحة بعضنا إلى جوار بعض.

وقالت "كلوفر" له:

-       يجب أن ننقلك في الحال إلى مـبـاني المزرعة.

وأهابت (ناشدت أو صاحت بها) بإحـدى الحـيـوانـات أن تذهب لتُبلِغ "سـكـويلـر" مـا حـدث، وانفضّت الحيوانات من حوْله إلا "كلوفر" ومعها "بنيامين" الذي ركع بجانبه دون أن يهمس بكلمةٍ واكتفى فقط بأن يذود (يدفع ويطرد بعيداً) عنه الذباب بذيْله الطويل.

وبعد ربع ساعةٍ حضر "سكويلر" وحوْله الحيوانات وهو يُبدي اهتمامه وتعاطفه، كما أبلغ "بوكسر" أن الرفيق "نابليون" قد أُحيط عِلماً بالأنباء وأنه يُبدي بالغ أسفه لِما حَلَّ به، وخصوصاً أنه يعتبره أخلص العاملين بالمزرعة، وأن ترتيباتٍ قد اتُخِذَت بالفعل لنقله إلى المستشفى البيْطرى في "ويلنجدون".

وقد شعرت الحيوانات بشيْءٍ من الجزع لنبأ إزماع نقل "بوكسر" إلى المستشفى؛ فإن أحداً منهـا لـم يبرح قط حدود المزرعة بخلاف "موللي" و"سنوبول"، وإن فكرة وضع "بـوكـسـر" تحت رعـاية الآدميّين لم تكن لتسعدها إلا أن "سكويلر" أفـهـمـهـا أن علاج "بوكسر" يحتاج إلى رعايةٍ خاصّةٍ لا تتوافر بالمزرعة.

وبعد ذلك بنصف ساعة حينما استرد "بوكسر" بعض عافيته وقف على أقدامه بصعوبة، وانسحب إلى حظيرته في بُطءٍ على حين هيّأت له "كلوفر" ومعها "بنيامين" كومةً من القَش لينام عليها، وظل "بوكسر" طريح فـراشـه يوميْن كامليْن وقـد عـثـرت الخنازير على زجـاجـةٍ من الدواء وجدتها في حمّام المنزل بعثت بها إلى "بوكسر"، وكانت "كلوفر" تزوّده بجرعتيْن منها بعد الأكل، وفي المساء بعد انتهاء العمل كانت توافيه وتنام معه في حظيرته، وتتحدّث إليه، كما كان "بنيامين" يزوره ويذود عنه الذباب بذيْله.

وكان "بوكسر" كعادته شجاعاً في مرضه، ولم يكن يشعر بالأسى على نفسه ، فإذا مـا قـُدِّر له الشـفـاء فـإنه كـان يتوقّع أن يعيش لثلاث سنواتٍ أخرى في ركنٍ من المرعى الكبير يقضيها في راحةٍ وسلام.

وقـد كـان يـصـبـو إلى هذه الفرصـة التي ستتيح له الوقت الكافي للدراسة والمعرفة وقد كان يأمل أن يحفظ بقية حروف الهجاء الباقية وعددها اثنان وعشرون حرفاً وظلّت "كلوفر" وكذلك "بنيامين" يزورانه كل يومٍ بعد انتهاء ساعات العمل.

وفي ظُهر يوْمٍ من الأيّام بينما كانت الحيوانات تقوم بزراعة اللِفت تحت إشراف الخنازير حضرت إلى المزرعة عربةٌ ضخمةٌ لنقل "بوكسر"، وقد دُهِشَت الحيوانات حينما رأت "بنيامين" يهرع إليها من ناحية مباني المزرعة وهو ينهّق بأعلى صوْته، وكانت هذه هي المرّة الأولى التي تُبـْصِـر فـيـهـا "بنيامين" وقـد اسـتـبـد به الانفعال.

وكذلك فـقـد كـانت المرّة الأولى التي رأته فيها وهو يعـدو ويصرخ بأعلى صوْته:

-       تعالوا حالاً سريعاً .. إنهم يأخذون "بوكسر" بعيداً.

ودون أن تستأذن الحيوانات الخنازير انفضّت عن أعمالها هارعةً إلى مباني المزرعة حيث أبصرت عربة نقلٍ صندوقيّة يجرّها حصانان وعليها كتابةٌ بالحروف الضخمة ويسوقها حوذيٌ (سائق عربة الخيل أو العربجي) يرتدي قبّعةً ذات شكلٍ خاص، وانطلقت الحيوانات إلى العربة تودّع "بوكسر" وهي تدعو له بالسلامة، وصـاح فـيـهـم "بنيامين":

-       أيّهـا المغفّلون .. أيّها المغفّلون!

أخذ يقـول هذا وهو يدور حوْلهم ويدُق الأرض بحافره ثم استطرد:

-       أيّها المغفّلون .. ألا تعلمون ما معنى الكتابة التي دُوِّنت على العربة؟

وخيّم الصمت على الحيوانات وابتدأت "مـوريـل" في فك الرمـوز، ولكن "بنيامين" دفـعـهـا جـانباً، ووسط ذهول الحيوانات انبرى يقرأ الكتابة فكانت: "ألفريد سموندز ـ جزّار خيول ـ وتاجر غراء ومتعهِّد جلود وعظام ومورِّد غذاء للكلاب بويلنجدون"، ثم صاح "بنيامين" فيهم:

-       ألا تدركون بعد ما يدور حوْلكم؟ .. إنهم يقذفون "بوكـسـر" إلى الجزّار.

وانبـعـثـت من الحـيـوانات صـيـْحـات الذُعـر والاستنكار، وعند هذه اللحظة ألهب الحوذي خيّله بالسوْط (الكرباج) فتحرّكت العربة تجرّها الخيْل وهي تخب (تجري وتعدو) خبباً (نوْعاً من عدْو الخيول تميل فيه على اليمين مرّة وعلى اليسار مرّة) أنيقاً.

وتَبِعَت الحيوانات العربة وهي تعدو وتولول ولولةً عالية، واندفعت "كلوفر" وهي تـعـدو بأسـرع مـا تستطيع أرجلـهـا وهي تصيح:

-       "بـوكـسـر" .. "بوكسر" .. "بوکسر".

وعند سماع صوْتها أطل "بوكسر" برأسه ذي الوَسمة البيضاء فابتدرته "كلوفر" محذرة:

-       اخرج بسرعة من العربة .. بسرعة .. إنهم يسـوقـونك إلى حتفك.

وصاحت الحيوانات:

-       اهرب یا "بوکسر".

ولكن العربة كانت تُسْرِع في جريها وهى تيمّم (تتوجّه) نحو باب المزرعة، ولم تكن "كلوفر" على يقينٍ بأن "بوكسر" قد فهم فحوى رسالتها إلا أن رأس "بوكسر اختفى من فتحة العربة، ثم سمعت الحيوانات أصـوات حـوافـر "بوكسر" وهي تُحدِث بجدران العربة الخشبيّة ضجيجاً هائلاً محاولاً أن يجد لنفسه منفذاً إلى الهرب.

ولكن الزمن الذي كان فيه "بوكسر" قادراً على تحطيم صندوق العربة إلى شظايا كعيدان الثقاب كان قد ولّى بعد أن أصبح عجوزاً محطَّماً، فما هي إلّا لحظاتٌ قليلةٌ من المحاولة حتّى خفتت أصـوات حوافره، وخيّم الصمت على العربة من جديد، وفي محاولةٍ يائسةٍ اندفعت الحيوانات تجرى وراء العربة وهي تناشد حصانيْ العربة ألّا يأخذا أخاهما إلى حتفه، وتحرّكت آذان الحصانيْن إلى الخلف يتسمّعان هذه الجلبة وإن كانا لا يفهمانها واندفعا بسرعةٍ إلى الأمام، ثم شرعت الحيوانات في الاندفاع إلى بوّابة المزرعة ذات العوارض الخمس لسد طريق الخروج أمام العربة إلّا أن العربة كانت أسرع فشقّت طريقها إلى خارج المزرعة وقد اختفى "بوكسر" معها إلى الأبد.

وبعد ثلاثة أيّامٍ أُعلِن نبأ وفاة "بوكسر" بمستشفى "ولنجدون" برغم ما لقيه فيها من عنايةٍ بالغة، وقد نعى "سكويلر" إلى الحيوانات "بوكسر" ، وقرّر أمامها أنه ظل بجانبه في المستشفى حتّى لحظاته الأخيرة، وذكر لها وهو يمسح بظلفه دمعةً لم يستطع أن يحبسها أن المنظر الذي تعرّض له حينما كان في صحبة "بوكسر" كان مؤثّراً وعاطفيّاً، وأنه قد تعرّض إلى موقفٍ لم يكن ليحتمله حينما كان بجانب سريره يستمع إلى صوْته الواهن وهمسه المنخفض في أذنه، ونقل لها ما قاله قبل أن يموت: "إن الأسى ليـعـصـر قلبـه لأنه لم يقـدر له أن يشـهـد الطاحونة وقـد اكتملت حـال حياته"، وما هتف به وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: "إلى الأمام أيّها الرفاق في ظل الثوْرة .. تعيش مزرعة الحيوانات .. يعيش الرفيق نابليون .. نابليون دائماً على حق"، وهنا توقّف "سكويلر" فجأة عن الكلام وقد احتقن وجهه من الغيْظ وعيْناه ترمـقـان الحيوانات وبهما معاني الأسى والتحدّي وقد انتفض انتفاضةً شديدة تدل على استيائه وتوتره؛ فقد نما إلى علمه أن فِرْيةً (كِذبةً وافتراء) حقيرةً سخيفةً قد سرت في المزرعة بأن العربة التي جاءت لنقل "بوكسر" كان قد كُتِب عليها "جزّار خيول" كـمـا قرأت الحيوانات فظنّت الظنون واستنتجت ما شاء لها الهوى من أن "بوكسر" قد بيع إلى الجزار!، وقال سكويلر:

-       إنني لا أكاد أصدّق أن يصل الغباء ببعض الحيوانات إلى هذا الحد.

ثم صاح وهو ينتفض ويميل من جانبٍ إلى آخر وقد هز ذيْله بعصبيّة:

-       إنكم تعرفون تماماً المبادئ التي يقف بجانبها ومن أجلها زعيمنا المحبوب الرفيق "نابليون" .. والمسألة ذاتها لا تحتاج لكثيرٍ من الإيضاح .. فإن المستشفى الذي بعث بعـربتـه كـان قـد اشتراها من محل جزارة فلم يُتَح لهذه المستشفى الوقت الكافي لإزالة ما كان على العربة من كتابةٍ قديمة .. ومن هنا وقع الالتباس في الفهم.

وقد استراحت شتّى الحيوانات لهذا التفسير، وحينما أعـاد "سكويلر" وصف الساعات الأخيرة التي قضاها بجانب سرير "بوكسر" بشيْءٍ من الإسهاب، وحكى عن مدى الرعاية الطبيّة الكاملة التي عومل بها والأدوية المرتفعة الثمن التي قرّر "نابليون" شراءها برغم تكاليفها الباهظة فإن البقية الباقية من الشكوك التي كانت تراود الحيوانات تبدّدت تماماً، كما خفّف من لوْعتها على رفيقها الفقيد أنه على الأقل قد أسلم الروح وهو سعيد.

وفي يوْم "الأحد" التالي ظهـر "نابليون" شخصيّاً وأَبّن "بوكسر" (رثاه وذكر محاسنه) بكلمةٍ قصيرةٍ وأبدى بالغ أسفه أن لم يستطِع استعادة جثمان الفقيد لدفنه في ثرى (تراب أرض) المزرعـة إلّا أنـه قـد أمـر بـعـمـل إكليلٍ ضخمٍ من زهور "اللوريل" وإرسالها لتوضع على قبره هناك، كما ذكر أن الخنازير قد عقدت العزم كذلك على إقامة وليمةٍ لذكرى الفقيد العزيز، وقد ختم "نابليون" خُطبته ذاكراً أن الـفـقـيـد كـان يتمثّل بشعاريْن لازماه حتى ساعاته الأخيرة هما: "سأعمل أكثر" و"نابليون دائماً على حق"، وأن على الحـيـوانـات أن تـقـتـدى بـهـذيْن الشـعـاريْن الغاليّيْن.

وفي اليوْم المحدّد للحفلة التأبينيّة حضرت إلى المزرعة عربة بقالة "ويلنجدون" وسلّمت صندوقاً خشبيّاً ضخماً إلى منزل المزرعة، وفي هذه الليْلة سمعت الحيوانات غناءً صاخباً ينبعث من المنزل تلاه صوْت مشادّاتٍ حـامـيـةٍ انتهت بأصـوات تـهـشـيم الزجاج ثم خـفـتت هذه الضوضاء عند الساعة الحادية عشرة مساءً.

وفي اليـوْم التـالي ظل السكـون مـخـيـّمـاً على منزل المزرعـة حتى الظهر، وتردّدت إشاعةٌ بالمزرعة مفادها أن الخنازير قد تمكّنت في الليلة السابقة من شراء صندوقٍ من "الويسكي" بطريقةٍ ما!

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent