خبر
أخبار ملهلبة

العريس (2) | الجريمة | نجيب محفوظ

 

رسم كاريكاتيري لأشخاص يفحصون رجلاً تحت المجهر أو الميكروسكوب

العريس (2)

 

 

فهتفت من فوْري:

-       كلا .. لستُ بطبعي مقامراً .. لعبتُ مرّاتٍ معدوداتٍ ثم لم أعُد إليه.

-       والخمر؟

-       اسمع .. صدقني .. دائماً كنتُ وما زِلتُ معتدلاً .. لم أفقد الوَعي إلّا مرّةً واحدة.

-       آل "ميري" لا يخافون الشراب بقدر ما يخافون عواقبه.

-       لم تكن ثمّة عواقبٍ وخيمة.

-       "عابد میري" نفسه يشرب .. وهو يغنّي إذا شرب .. ولكن قيل له إنك طوّلت لسانك مرّة على الاستبداد وأنت فاقد الوعي.

-       قلت لك إنني لم أفقد الوعي إلا مرّةً واحدة.

-       ربّما وقع ذلك في تلك المرة .. و"عابد ميري" يخاف أن يتكرّر ذلك بعد أن تكون قد صِرت زوْجاً وأباً؟

فقلتُ بحدّة:

-       لا أساس لخوْفه صَدّقني .. ثم لماذا تذكر تلك الزَلّة وتنسى مجاملاتی الطويلة للاستبداد وأنا في تمام الوعي؟!

-       الموضـوع قـابـل للمناقشـة .. فـلـنتـركـه إلى حين .. ولكـن مـا الرأي في وَلَعك بنسوان شارع محمد علی؟

فقلت وكل شيء يتجهّمني:

-       ماضي أي رجلٍ لا يخلو من عَبَثٍ مثل ذلك.

-       "عابد ميري" يسلّم بالمبدأ ولكنّه يحتج على الذوق .. وقال إن يكُن ذا ولعٍ خاصٍ بأولئك النِسوة فكيف أتصـوّر أنّه يمكن أن ينسجم مع فتاةٍ كريمةٍ مثل ابنتي؟!

-       وهل يوجد فارقٌ حقيقي بين كريمته وبين نساء محمد علی؟

فضحك صديقي وقال:

-       آهٍ لو سمعك تقول ذلك.

وساد صمتٌ يغلّفه الأسى، وارتسم الإشفاق على وجه صديقي، ولكني أشرت إليه أن يواصل، فقال:

-       يتحدثون عن شقّةٍ مفروشةٍ تملكها بناءً وأثاثاً.

-       وفي نيتي أن أقيم فيها بعد الزواج .. ماذا في ذلك؟!

-       الشقّة لا تهم ولكن من دأبت على استقبالهم فيها.

-       ماذا يقصد الأوغاد؟

-       ها أنت تغضب فيحسن بي أن أسكت.

-       هاتِ ما عندك .. وإن أردت جواباً فإني كنتُ أستضيفُ بها نخبة الأصدقاء.

-       أصدقاءٌ من نوْعٍ خاص .. مِن إخواننا العرب الأثرياء.

-       استضفتهم بصفتهم أصدقاء لا أثرياء وقد توطدّت علاقتي بهم مذ أيام إعارتي للعمل في بلادهم.

-       أما أنا فأصدّقك ولكنّك تعلم كيف تُتَرجَم تلك العلاقات البريئة على ألسنة السوء.

فاستشطت غضبا وهتفت:

-       للصبر حدود.

-       لا تغضب فذاك امتحانٌ يتعرّض له كل طالب زواج.

وعـجـبـت ـ وحق لي أن أعـجب ـ من تشـدّد الناس في تحريّاتهم، وعجبت أكثر بالنظر إلى أننا نعايش فترةً من الانحلال والفساد بات يُضرَب بها المثل، فلِمَ يتشدّد الناس في تحريّاتهم كل ذلك التشدّد؟، وهل يعتقد الآباء أنه يمكن أن ينتقـوا أزواجاً لبناتهم من منطقةٍ مجهولةٍ تقع خارج الزمن والتاريخ؟، وهل عش الزوجية أهم في حياتنا العامّة من الوظيفة؟، وألَا يضج الناس بالشكوى ليْل نهار مِن الخدمات المبتورة ـ وضِمناً ـ مِن المسئولين عنها؟، فكيْف تزوّج أولئك القادة وكيف تفادوا من مطاردة التحريّات؟!، ومضى حماسي للزواج يفتر، وندمت على تعريض نفسي لألسنةٍ لا تعرف الرحمة ولا الحياء.

وبعد مُضي ثلاثة أسابيع رجع إليَّ صديقي فبادرته من فوْري:

-       لن أستمر.

فقال بحدّة:

-       إني أحتقر الضعف .. اصمد حتى النهاية .. ولا تهز ثقتك الكاملة بنفسك.

-       سأخفق في الزواج وأبوء بسوء السُمعة.

-       اعتبرني لم أسمع شيئاً .. واسمع أنت ما قيل عن عملك.

وأثار حب استطلاعي بقوّة فلم يسعني تجاهله، قال:

-       شهد لك كثيرون بالتفاني في العمل.

فلم أعلّق وانتظرت متوقّعاً ما لا يسُر، فأكمل صديقي:

-       ولكن قـيـل إنك تحب السُلطة وتركـيـز كل نشاطك في يديْك ثم تنطلق شاكياً مِن عدم تعاون الموظّفين معك.

-       لن أُناقش، ولكن ما علاقة ذلك بلياقتي للحياة الزوْجيّة؟

-       كل سلوكٍ مهما بدا عرضياً فله دلالته.

-       استمر.

-       وقيل كلامٌ عن تحقيقٍ أُجري معك بخصوص بناء مجمع.

-       وماذا كانت نتيجته؟ .. التحقيق مجرّد إجراء فلا هو خيْر ولا هو شر .. وها هم يرونني مستمّراً في عملي .. بل ترقيْتُ مرّتيْن بعد التحقيق .. فما حِكمة التنديد بي بسببه؟

-       لك حق.

-       إذن فلنعتبر تلك النقطة منتهية.

-       ولكن قـيـل أيضا إنك هدّدت بجر آخـرين أكبر منك معك فحُفِظ التحقيق.

-       عليهم اللعنة.

-       إنهم يستحقّونها.

-       أتحداهم أن يثبتوا ذلك.

-       عليـهـم اللعنة .. ولم يقـفـوا عند ذلك .. بل جعلوا يتساءلون: كيف يعيش حياته المرفهة؟ .. كيف مَلَك الشقة المفروشة؟ .. والسيارة؟ .. من أين له ذلك؟

فکوّرتُ قَبضتي غضباً وقلت:

-       يتجاهلون ما ورثته عن والدي .. كما يتجاهلون حقيقةً أخرى وهي أن بعض مؤلفاتي المدرسيّة مقرّرة في مدارس البلاد العربيّة .. فكل مصدرٍ لإيرادٍ عندی واضحٌ وشريف.

توقّعت أن يتكلّم عن الذين قرروا كتبي وعن علاقتهم بالأصدقاء الذين أستقبلهم في الشقّة المفروشة ولكنه لم يفعل، كأنما نكص حيـال درجة الحرارة التي ارتفع إليهـا حنقي، بيْد أنه حـدجني بنظرةٍ قـصـيـرةٍ قرأت فيها ما تورّع عن ترديده، وجعل يضحك ويقول:

-       الرجل المخرِّف "عابد ميري" يميل إلى تصديق الأكاذيب، وفي آخر لقاءٍ قال لي إن سوء الظن من الفِطنة وأني بِتُّ أعتقد أن ذلك العريس هو المسئول عن 5 يونيه!

فصِحْتُ في ذهول:

-       إذن فإني المسئول عن 5 يونيه!

وغادرت المكان مسرعاً لا أكاد أرى طريقي من الغضب، ماذا يعرف المخرِّف عن 5 يونيه؟، إني مع التسليم بكافة جرائمي الخـُلـُقيـّة أُعـد أو يجب أن أُعـد من أشـرف الرجال، وهل أغـراني بالخطايا إلا الاقـتـداء بالآخرين؟!، وكنت في الوقت نفسه ضحيّة، أجل .. ضحيّةٌ لرؤسائي الذين ضربوا لي أسوأ مَثَل، وها أنا أُحْرَم من جنّة الاستقرار العائلي كأنني المجرم الوحيد، وقررت العدول عن فكرة الزواج نهائـيـّاً، وقلت لنفسي إنه ليس بالمرأة وحدها يحيا الإنسان، وندمتُ أشد الندم على تعريض نفسي للزوْبعة التي عصفت بها.

وكنت جالساً بمكاني المختار عندما لمحت صديقي قادماً من بعيد، ردّدتُ في نفسي الكلام الفَظ الحاسم الذي سـأجـابـهـه به، وقرّرتُ أن أعلن تمرّدي على الزواج إلى الأبد، وبادرني الصديق - قبل التحية - قائلاً:

-       "عابد ميري" يحيّيك ، ويرجو أن تحدد مـوْعـداً لإعلان الخطوبة في أقرب وقتٍ ممكن!

 

(تمّت ..... ولكن هناك تعقيبٌ هام من "ابن أبي صادق" بالأسفل)

تعقيبٌ واجب:

في هذه القصّة يتحدّث "نجيب محفوظ" عن كيفيّة العمل بالحكومة (رحلة الزواج) التي يقطعها طالب الوظيفة الحكوميّة (العريس) للالتحاق بالوظيفة الميري (للاقتران بالعروس) عندما يقابل العديد من الأزمات والمشاكل التي تنجم من التحريّات التي يقوم بها والد العروس "عابد ميري" (الموظّف الذي "يعبد" الوظيفة "الميري" والمسؤول عن التحقّق من حُسْن سير وسلوك المتقدّم للوظيفة خصوصاً موالاته للحكومة صاحبة الوظيفة وعدم معارضته لها) .. ولك يا صديقي القارئ أن تُكَيّف الأحداث والحوار بناءً على هذا الترميز وتستخرج بنفسك المعاني والأهداف التي استهدفها ورمى لها المؤلّف من وراء هذه القصّة ومن بين سطورها.

google-playkhamsatmostaqltradent