خبر
أخبار ملهلبة

تحقيق (4) | الجريمة | نجيب محفوظ

 

فتاة جميلة تقف في الشرفة أو البلكونة


تحقيق (4)

 

 

انبعث إلهامٌ في صدره بأنه سيرى القاتل وأنه سيجد فيه نفس الشخص الذي اقتحم الإدارة صباح ليلة الجريمة، وما عليه بعد ذلك إلا أن يقابل المحقّق ليعترف بين يديْه بكل شيء، أو الأفضل أن يحرّر رسالةً متضمنةً لكافّة التفاصيل، وكان البيت يقع في شارع "المتولّي" بـ"منشيّة البكري"، وهو شارعٌ سَکَني نصف مساکنه عماراتٌ حديثة والنصف الآخر بيوتٌ قديمة من دوْرٍ ودوْرين، وليْس به من محالٍ عامةٍ سوى فرنٌ وكوّاء، فهو شارعٌ يُشعِر الغريب الطارئ بغربته، مرَّ أمام البيْت عصراً فرأى في شرفته فتاةً فوق العشرين ودون الخامسة والعشرين، أخذ منظرها بلُبّه فحلم بسعادة الحياة الزوجية واستقرارها الهانئ، قديماً أَسَرَته "لُطفيّة" بحيويّتها وعذوبتها الجنسيّة وتعلّقها الجنوني به لدوافعٍ قدريّةٍ مجهولة، أمّا هذه الفتاة فمثالٌ كاملٌ للرزانة والحياء والصّبر والخُلُق المتين، وهي زوْجة القاتل ولعلّها أخته، ولاحظ أن في دكّان الكوّاء امرأةً قميئةً عوْراء تتابعه باهتمام، واستنتج من سلوكها أنها صاحبة الدكّان فأقبل نحوها – اکتساباً للوقت – وسألها عن بيْت "حسام فيظي" فأشارت إلى البيْت وهي تتفحّصه بخبثٍ بعيْنها اليُسرى، وقالت:

-       وتلك أخته التي تجلس في الشرفة.

لعلّها ظنّت أنه يحوم حوْل الفتاة فشكرها وهم بالذهاب فقالت المرأة:

-       أسرةٌ طيبة.

فوافق بانحناءةٍ من رأسه فسألته:

-       هل تعرفهم؟

فأجاب بالنفي، واقتنع في ذات الوقت بأن المرأة تقوم بدور الخاطبة، وحدّثته عن "حسام" و"دوْلت"، وأبدت استعداداً طيّباً لتقديم أي خدمةٍ شريفة، وقالت له بغتةً وهي تغمز بعيْنها:

-       ها هو "حسام" ذاهباً إلى المقهى.

التفت "عمرو" وقلبه يدق بعنف، ولكنه رأى رجلاً لم تسبق له رؤيته، مضى بديناً أنيقاً فاقع البياض غزير الشارب لا يمت بصلةٍ للرجل الذي يبحث عنه، انهارت تقديراته وخاب مسعاه، وأدرك أن البوّاب ما دله على عم "أمين" إلّا باعتباره أقرب إسكافي، أما سر حذائه هو فما زال سراً، وما زال احتمال أن يكون هديّة قائماً، وغير مستحيلٍ في النهاية أن يكون صاحبه، ورجع إلى النقطة التي منها بدأ.

*****

لَوْ تنكشف تلك الغُمّة فيملأ رئتيْه بالهواء النقي بعمقٍ وتوْبة، ويعزم جادّاً على إكمال نصف دينه بالاقتران من "دوْلت فيظي"، لقد تجنّب الاقتراب من شوارعٍ برمّتها كما يتجنّب عیْنيْ عم "سليمان"، وثمّة نسيانٍ جاحدٍ يسدل أهدابه على "لُطفيّة" ومأساتها، وهو الوحيد الذي يحترق في خفاءٍ بذكرياتها، وفكّر ثم فكّر، وكتب رسالةً مطوّلةً للمحقّق استهلها بقوله: "أنا صاحب الخمر والشيكولاته، وإليْك الشهادة الوحيدة التي تنفعك"، كتبها بعناية وحشدها بالتفاصيل ولكنه لم يوقِّع عليها بإمضائه، ولم يرسلها، أجّل ذلك حتى يستوْفي التفكير في كافّة وجوهها واحتمالاتها، وقال لنفسه إنه لن يذوق للراحة طعماً حتى يُلقی القبض على القاتل، وتساءل أي بواعثٍ یا تُرى دفعته إلى قتلها بعدما ثبت من التحقيق أنه لم تُكتَشَف سرقةٌ وراء الجريمة؟، أما كان الأجدر أن يقتلها هو – "عمرو" – وقد توفّرت لديْه لذلك أسبابٌ وأسباب؟، كان يمقتها بقدر ما كان يحبّها، ولم يغفر لها نهمها الجنوني للمال والسلطان وتضحيتها به في سبيل ذلك، وكان يشد عليها بقوّة وهي بين ذراعيْه رغبةً وحنقاً، على أي حالٍ فلا يجوز له أن يُمنّي النفس بحياةٍ زوجيّةٍ سعيدةٍ مع "دوْلت فيظي" حتی تنکشف الغُمّة تماماً وتهدأ أعاصير الوجود، وذهب من فوْره إلى العمارة المشئومة ليكمل علاج أسنانه، وانتهز فرصة هبوط المصعد فصعد إلى الدور الرابع بقوّةٍ لا تقاوَم، وجد المصباح فوق باب شقة المقاول مضاءً، فتح الباب فظهر المقاول وهو يوسّع لضيْفٍ فتوارى "عمرو" في نهاية الطُرقة، وسمع حواراً بيْنهما فقال المقاول:

-       لا تنسَ عيد الأضحی.

فأجاب الرجل:

-       كل عامٍ وحضرتكم بخير.

فقال المقاول:

-       سنذبح هذا العام بقرة.

فقال الرجل:

-       ونصنع من جلدها حذاءً كلاسيكيّاً.

فخفق قلب "عمرو" وشعر بأنه قريبٌ من النصر أكثر ممّا يتصوّر، وخرج الضيْف فأفلتت من "عمرو" صيْحة فوْز، رأى أمامه غريمه دون سواه: القاتل المجهول المحوط بالأسرار، وانقضَّ عليه كالوْحش وقبض على ذراعيْه وهو يصيح:

-       أنت القاتل.

وذُعِر الرجل واختفى المقاول مغلقاً الباب فضاعف ذلك من وِحدة الرجل الغريب وهتف:

-       أي قاتل!

فلطمه بقوّةٍ هدّامة وصاح به:

-       اعترف!

فتمتم الآخر بصوتٍ كالأنين:

-       رحماك!

-       أنت الذي قتلت "دوْلت فيظي".

وفطن "عمرو" إلى هفوة لسانه أما الآخر فلم يفطن، وانهار تماما فقال:

-       أعترف .. ولكن لا تضربنی.

فدفعه أمامه وهو قابضٌ على ذراعيْه بوَحشيّة.

*****

وفكّر طويلاً في موضوع الرسالة دون حسم، وهداه تفكيره إلى وجوب كتابتها على آلةٍ كاتبةٍ ما دام مُصِرّاً على إخفاء إمضائه – وبالتالي – إذ ليْس من حُسْن الفِطَن أن يرسل خطّه إلى المحقّق، واقتنع بذلك لحد أنه عزم على شراء آلةٍ كاتبةٍ صوْناً للسريّة اللازمة.

وكان يتخبط في فراغٍ مخيفٍ بيْن صمْت الصُحٌف وعينيْ "سليمان" حتى اعتقد أن بقاءه في المدينة حٌمْقٌ ما بعده حُمْق ولكن أين المفر؟!، وقال له عم "سليمان" مرّةً وهو يقدّم له القهوة:

-       لست على ما يرام يا أستاذ "عمرو".

فغلی دمّه لظنّه أنه يطبِق عليه الحصار ولكنه قال ببرود وهو يكبح انفعالاته المتطايرة:

-       بخير والحمد لله.

واشترى في ذات اليوم الآلة الكاتبة – وهو آسف – لارتفاع ثمنها، ما أجدره بالتوْفير، لا بالتبذير ما دامت فكرة الزواج من "دوْلت" تغزو خياله بسحرها، ونظر إلى حذائه الأبيض ذي السطح البُنّي وابتسم فهو لا ينسى أنه كان المناسبة التي هيّأت له التعرّف بـ"حسام فيظي" وبالتالي بمنية القلب "دوْلت"، فما كاد الرجل يغادر دکّان عم "أمين" حتى قال له "عمرو":

-       فصِّل لي حذاءً مثل حذائه.

فابتسم الرجل وقال:

-       ندر في أيّامنا الإقبال على هذا الصنف رغم فخامته.

فتردّد "عمرو" قليلاً ثم سأله:

-       مَن الرجل؟

-       "حسام فيظی" .. موظّف .. لا أدري في أي وزارةٍ رغم أنه زبونٌ قديمٌ مثل حضرتك.

-       ومَن الفتاة؟

-       أخته .. اسمها "دوْلت".

-       لعلك تعرف عنوانه؟

فضحك وقال:

-       14 شارع "المتولّی بـ"منشيّة البكري".

فحق له أن يأسف لشراء آلةٍ كاتبة، ولكنها اشتراها على أي حال، وكتب عليها رسالته المثيرة، ثم عَنوَنها، ثم أوْدعها صندوق البريد، عند ذلك شعر بشيء من الراحة لأوّل مَرّة.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent