خبر
أخبار ملهلبة

"شيء من الخبث" | الفصل السادس (3)


مجموعة من مسيحيين وقبط مصر يبكون على ضحايا وجثث أحداث ماسبيرو بالقاهرة خلال ثورة 25 يناير 2011

"شيء من الخبث" | الفصل السادس (3)

 

 

وبعد مُضي حوالي الساعة كان قد وقع مئات الضحايا من الجانبيْن مخلّفين ورائهم البكاء والآهات والعويل والأنّات التي كان يتردد صداها بين جنبات المكان سويّاً مع السؤال الحائر الذي كان يهيم مع أرواح عشرات الشهداء فوق سماء الوسعـاية: " من هو يا ترى الطرف الثالث؟ ".

وفي نفس هذا التوقيت كان كبار البلدة مع ضبّاط الهجّانة بقيادة "عتريس" يجلسون في فيللا "دره" يرتشفون بعضاً من الشاي الساخن حتّى يحبسوا - على حد قولهم - ما تناولوه من شواء على العشاء منذ قليل؛ فقد اعتادوا على استخدام لفظ "الحبس" فهو لفظٌ بسيطٌ وشامل استخدموه هذه المرّة مع اللحم المشوي ويمكنهم استخدامه مرّاتٍ ومرّات مع أهل البلد فهم من لحمٍ ودمٍ أيضاً.

- هات لي ياد يا "مصيلحي" حتة خِرقة قماش وبلّها لي بميّه وصابون علشان امسح بيها إيدي.. ريحة اللحمة لازقة ما بتطلعش.. الضحيّة الليلة دي كانت سمينة شوية.

- لا سمينة ولا حاجة يا عمدة.. ركك بس السِوى كان ناقص سِنّة.. كانت عايزة تتشوي أكتر من كده.

- كلامك صح يا سي "طهطاوي".. أنا الهبرة اللي اخدتها كانت بتنز دم.. ده احنا إيدينا كلّنا متعاصة دم الضحيّة.

- بتنز دم إيه يا "عدنان"؟.. ده انت مصمصتها ع الآخر.. أومّال يا راجل لو ما كانتش بتنز كنت عملت فيها إيه؟.. كنت اكلت عضمها كمان؟

- يا جماعة تتعوّض الضحيّة الجاية.. يعني لا هي أوّل ضحيّة ولا آخر ضحيّة.

- هوَّ كل كلامكم الليلة دي عن اللحمة.. ده انتم عالم بِطنيّة صحيح.. خلّونا ف المهم.. إيه آخر الأخبار يا "طهطاوي"؟

- ولا حاجة.. الواد "عماد" عسكري المراسلة بتاعي بيقول إن المسيحيين مشيوا من الوسعاية.. اللي راح على داره واللي راح ع الوحدة الصحيّة واللي راح ع القرافة بعيد عن السامعين.

- تفتكر الموضوع ده ح يعدّي على خير؟

- وما يعدّيش ليه؟.. أكم من مواضيع أجعص من ده وعدّت يا عمدة.

- أيوه بس انا خايف يعرفوا مين اللي ضرب عليهم نار.

- يعني هو كان حد عرف حاجة قبل كده؟.. يا سيدي قول يا باسط تلاقيها زاطت.

- طب ح تعمل إيه ده الوقت؟

- أبداً.. ح اشيّع لهم "الجويني" ومعاه كام ظابط كده ياخدوا بخاطرهم ف العَزا.. ولا كأننا عملنا حاجة.

- إيش معنى أنا يا عمدة؟.. ما تبعت "عليش".. أحسن يكونوا فقسوا الحكاية ويطلّعوا البلا الازرق على جتّتي.

- نفّذ الأمر يا له.. أنا مرتّب كل حاجة.. قبل ما تروح ح اكون كسرت لك عين المسيحيين دول.. مش ح يقدروا يفتّحوا عينهم فيك.. ح اوصّل لهم أخبار إن شبابهم همَّ اللي بدأوا الضرب وإن ستميت عسكري ماتوا م الهجّانة.. وإن احنا مش ح نقول على العدد ده علشان ما نولّعش الدنيا بين المسلمين والمسيحيين.. والعيال المسيحيين اللي قبضنا عليهم المفروض ياخدوا إعدام بس احنا ح نفرِج عنهم لمّا الجوْ يهدا شويّة.. وح نسامحهم كمان علشان العيش والملح اللي بيننا.

- طب ما هو فعلاً فيه عساكر ماتوا الليلة دي.

- مش مهم.. دول سبعة بس.. اللي ييجي ف الريش بقشيش.

- بس يا اخواننا احنا استفدنا إيه من الموضوع ده؟

- إزّاي بقى يا "عليش"؟.. كده القبط دول ح يلمّوا نفسهم بدل ما كانوا ح يعملوا لنا بالّو كل ساعة والتانية.. وكمان ح يتلهوا ف الموضوع ده ومش ح يفكّروا في مطالبهم تاني.

- آه.. وكمان اضرب المربوط يخاف السايب.. يعني المسلمين راخرين ح يعملوا لنا ألف حساب ويخفّوا شوية م المظاهرات دي اللي واجعين بيها دماغنا.. والجوز ح ييأسوا من إننا ننفّذ مطالب الثوْرة بتاعتهم.

- ومين عارف؟.. يمكن الجوز دول يمسكوا ف بعض بعد الموضوع ده.. ما هو فيهم ناس سُخنين قوي.

- أهم حاجة إننا نخلّي البلد بتغلي على طول.. الناس تطلع من حاجة تخش ف حاجة تانية.. مننا نطوّل الوقت اللي احنا قاعدين فيه ف العموديّة ومننا نخلّي الفوْضي تعم البلد علشان الناس ترضي باللي ح ندّيه لهم بعد كده.. لمّا العمدة الجديد ييجي من وسطنا.

- عمدة جديد إيه يا روح ستّك؟.. أومّال أنا ابقى إيه يا "طهطاوي"؟

- إنت الخير والبركة يا سي "عتريس".. وما فيش حاجة بتحصل إلا بإسّك وبأوامرك.. بس احنا مش عايزين نضحك على نفسنا.. بقى بعد ده كله ح تمسك العموديّة تاني؟.. قول انت بس يا رب تطلع صاغ سليم انت وجماعتك.. إحنا مش عايزين نضيع كلنا علشان واحد فينا مهما كان.. خلّينا نكمّل كده بالعقل لغاية الآخر.. ما نجيش ف النص ونبوّظ الدنيا.. وانت كده كده فوق دماغنا يا سي "عتريس".. يعني عمدة مش عمدة ح يفضل مقامك محفوظ ومركزك ف العلالي وفلوسك تحت رجليك.. وبعدين لسّه بدري قوي ع الكلام ده.. قدّامنا مشوار طويل على ما نروق لموضوع العموديّة ده.. ياللا بينا يا رجّالة لاحسن الوقت اتمسّى وبقينا وخري.

وظهر الوجوم على ملامح وجه "عتريس" وقد حبطت أعماله فقد كان يُمنّي نفسه بأن هذه الكارثة التي حلّت عليه ما هي إلا أزمةٌ وستزول بعد فترة وخاصةً أن كل شيءٍ يسير على ما يرام كما خططوا له، ولكنه بعد لحظاتٍ من التفكير تشبّث بالأمل فربما كان "طهطاوي" على خطأ أو ربما كان يريد أن يحبطه لأنه يطمع في كرسي العموديّة لنفسه.

- على أي حال لازم أكسب الرجّاله لصفّي.. وخلّينا نشوف إيه اللي ح يحصل الأيّام اللي جايّة.

تمتم "عتريس" لنفسه بهذه العبارة مغمغماً بها في صوتٍ يكاد لا يُسْمَع، واستدرك يصيح بصوتٍ عالٍ هذه المرّة :

- يا "مصيلحي".. هات بقية الضحيّة قطّعها حِتَت وقسّمها منابات على قد عدد الرجّالة.. وحط كل مناب ف صينية ولّا ف طبق.. لاجل ما كل واحد ياخد لجماعته ف البيت حتّة لحمة يبرّوا بيها نفسهم.. علشان ما يبقى كلاتنا أكلنا من نفس الضحيّة.. بس الأول سوّيها تاني كويس يمكن ربنا يسهّل والدم بتاعها ينشف.

وعلى الجانب الآخر كان أهل البلد يعتصمون بالساحة الأماميّة لدوّار العموديّة الجديد بسبب اعتراضهم على الأحداث الجارية في وسعاية "كاسبيرو" وحزنهم على إخوتهم المسيحيين، وكان العساكر والخفر غائبين عن حراسة الدوّار منعاً وخوفاً من احتكاكهم بأهل البلد؛ وهذا ما استغلّه "موفّق" أحسن استغلال فاستطاع النفاذ إلى داخل الدوّار في غفلةٍ من الخدم وهو يرتدي عباءةً حريمي ونقاباً يخفي معالم وجهه ووصل إلى غرفة "فؤادة" وطرق على بابها في عجلة ففتحت له "فؤادة" وفوجئت به يرفع النقاب ويقول لها:

- ياللا يا حبيبتي قوام.. إلبسي لبس المنقّبات ده زيّي.. ياللا بسرعة.

وارتدت "فؤادة" الملابس وهُرعت مع "موفّق" يقطعان الدَرْج في سرعةٍ فائقة ثم خرجا من نفس النافذة التي خرج منها "موفّق" يوم أن أطلق عليه الرصاص، وجريا عبر الحديقة حتي وصلا إلى حيث ربط "موفّق" جواده، وفي هذه اللحظة انشقّت الأرض عن البستاني الذي تصادف وجوده في الحديقة لغرضٍ ما؛ فلمّا رآهما ارتاب فيهما وجرى وراءهما يطاردهما فلحق "بفؤادة" التي تأخّرت عن "موفّق" قليلاً؛ فأمسك البستاني بتلابيب ثوب "فؤادة" واستطاع أن ينتزع نقابها ويكشف شخصيّتها، ولم يكد يفتح فمه ليصيح مستغيثاً حتّى عاجله "موفّق" بضربةٍ قويّة على رأسه، وفي الثواني التي استغرقها البستاني حتّى يفيق من أثر الضربة كان الحبيبان قد قفزا على صهوة فرسهما وأطلقا له العنان مولّين الأدبار عن الدوّار الجديد ومتّجهين صوب الدوّار القديم.

وفي دوّار العموديّة القديم ترجّل "موفّق" عن جواده ثم أحاط خصر "فؤادة" بكلتا يديه ليساعدها على النزول من فوْق الحصان، ثم أدخل الحصان داخل الإسطبل القديم لكي لا يلحظه أحد، ثم أمسك بيد رفيقته واصطحبها إلى داخل الدوّار، وما إن عرجا إلى الداخل حتي تداعى كلٌ منهما على أوّل مقعد قابله ليريحا أعصابهما ويستردّان أنفاسهما بعد ما لاقياه من أهوال، ثم قام "موفّق" ليشعل شمعةً لتنير لهما القاعة وقال :

- حمد الله على سلامتِك يا "فؤادة".

- الله يسلّمك يا "موفّق".

- معلهش ح نستعمل الشمع لإني منزّل سكينة الكهربا علشان ما حدّش يلاحظ وجودنا.

- ولا يهمّك.. أهم حاجة ما يكونش حد شافنا.

- لأ.. إطمّني.. ربّنا ستر وما حدّش شافنا ولا جا ورانا.. أنا كنت خايف ألّا الجنايني ينادي على حد م الغفر المتداريين هنا ولّا هنا.. لكن ربّنا كريم.

- البركة ف ربّنا وفيك يا "موفّق".. أنا مش عارفة كنت ح اعمل إيه من غيرك.. ده انا كنت في  كابوس وانت أنقذتني منه.

- أنا ما عملتش غير اللي كان المفروض يتعمل.. وبعدين انتي ناسية إني ملك إيديكي.. ويمكن ربّنا سخّرني لخدمتك طول العمر.

- ده انا اللي ح افضل مديونة لك بحياتي وعمري.. يا عمري.

- الله أكبر.. أهو كلامك الحلو ده أحسن كلام سمعته ف الدنيا.. وعلشان كلمتين كمان من دول مستعد أحارب الناس كلّها واتحدّى العالم كلّه.

- ربّنا يخلّيك لي.. وتفضل راجلي على طول.

- إن شاء الله ح يحصل قريّب.. بس بعد ما نغور من البلد دي.

- بس انا قلبي مش مطاوعنى أسيب أهلي وناسي يا "موفّق".

- يا ستّي ما احنا لازماً ح نرجع لهم ف يوم م الأيّام .. بس الأوّل ربّنا يهديهم ويعرفوا مصلحتهم الأوّل .. بدل ما كل واحد فيهم عامِل زي الشريك المخالِف وعايز يعمل اللي ف مصلحته وبس .

- برضه يا "موفّق" بيقولوا: الشريك المخالِف ولا الوِحدة.

- شوفتي أهو الكلام أخدنا ونسيت أقول لِك على حاجة مهمّة.

- خير؟

- بُصي يا ستّي.. إنتي ح تنامي ف الأوضة اللي فوق.. اللي جنب السلّم على طول.. ولو حسّيتي بأي حاجة مش مظبوطة أو سمعتي حد جا قريّب م الدوّار على طول ح تطلعي من باب الأوضة ح تلاقي في وشِّك سحّارة كده عبارة عن صندوق خشب كبير تستخبّي فيه بسرعة.

وأشار "موفّق" إلى أعلى؛ ونظرت "فؤادة" إلى حيث أشار فلم تتبيّن شيئاً فقالت :

- فين السحّارة دي؟.. أنا مش شايفة حاجة.

فشدّها "موفّق" من يدها وصعد بها الدرج وهو يقول مبتسماً:

- طبعاً ما انتي مش ح تشوفيها.. أومّال ح تستخبّي فيها ازّاي لو كانت باينة.. بُصي أنا حاطط السحّارة جوّه كوم القش ده.. ح تخُشي السحّارة من ورا وترجّعي حبّة قش مكان ما ح تدخلي بسرعة.. وتقعدي جوّه السحّارة وعمر ما فيه حد ح ياخد باله منها.. واللذيذ بقى إني عامل ماسورة صغيّرة جوّه كوم القش مش باينة خالص وبتوصّل بين السحّارة من قدّام وبين أوّل كوم القش اللي بيطل على القاعة.. والماسورة دي عاملة زي العين السحريّة وكاشفة القاعة كلّها.. علشان وانتي مستخبيّة جوّه السحّارة تشوفي القاعة واللي بيجرى فيها وتعرفي إن كان الجو أمان ولّا لأ.

- طب وانت؟

سجنها بقصر العمدة- أنا بقى حاطط سرير ف القاعة ذات نفسها.. ولو حصلت علينا كَبْسة ح استخبّى تحت السرير أو في الدولاب اللي جنبه.

- طب ما هو اللي ح يفتّش الدوّار مش ح ياخد باله من السحّارة صحيح إنّما أكيد ح يدوّر تحت السراير وف الدواليب وضروري ح يعتَر عليك.

- يا شيخة بيقولوا ف الأمثال: بشّر ولا تكشّر.. إن شاء الله ما حدش ح يقدر يوصل لنا هنا.. هوَّ انتي شوفتيهم ع الباب خلاص؟

- ما هو انت لو حصلت لك حاجة أنا ح اموت على طول.

- بعد الشر عنك.. أنا حتّى لو اتمسكت أوْعي تعملي صوت وانتي ف السحّارة.. أنا مش مهم.. إنّما انتي لازم ما حدّش يمسكِك.. إن ما كانش علشان خاطري يبقى علشان خاطر أهلِك المتعلّقين بيكي.. وبعدين انتي لمّا تنقذي نفسِك تقدري تستنجدي بأهل البلد علشان ينقذوني انا كمان.

- إن شاء الله ربّنا ما يجيبش حاجة وحشة.

- طب ياللا بقى ناكل لقمة سوا ونخُش ننام أحسن انا أعصابي سايبة م اللي حصل الليلة دي.

google-playkhamsatmostaqltradent