خبر
أخبار ملهلبة

شجرة الدم | أرواح بلا قبور (3)


رجل دين أو شيخ يضع يده على رأس صبي لعمل الرقية الشرعية وقراءة القرآن للعلاج من السحر


شجرة الدم (3)

 

 

وفي الصباح اختفت الأصوات ولكن بقيت الشروخ والبقع على الحوائط وهدّأ الباشا من روْع زوْجته وأقنعها بالبقاء في القصر حتّى يجد حلاً لهذا الفزع، ولكن مرّت عدّة أيّامٍ على هذه الحال: هدوءٌ بالنهار ورعبٌ بالليْل لا فارق بيْن يومٍ وآخر سوى زيادة الشروخ عرضاً وطولاً وازدياد درجة البقع الحمراء قتامةً وارتفاع حدّة أصوات الصراخ والتأوّهات والعويل واعتلال صحّة كل من في القصر-خاصةً "كريم"- يوْماً وراء يوْم، إلى أن جاء مساء ذلك اليوْم الذي آب فيه الباشا إلى قصره متأبِّطاً يد رجلٍ عجوز يسير بصعوبةٍ بمساعدة عكّازٍ يتوكّأ عليه وعرّفه الباشا إلى زوْجته بصفته عالِم روْحانيّات قد يجد تفسيراً لما يحدث لهم من أحداثٍ رهيبة فقابلته "ناريمان" باستخفاف فقد كان الرجل في نظرها مثاراً للسخرية نظراً لضعفه الشديد وقلّة حيلته الواضحة.

وعندما جنّ الليل طلب عالِم الروحانيّات المسّن من أهل القصر أن يذهب كلٌ منهم إلى حال سبيله وأن يتركوه مع "كريم" في غرفته ففعلوا، وعندما بدأت الأصوات الغريبة في الصدور احتضن العالِم "كريم" ووضع راحة يده اليمنى على رأسه وطفق يتلو السبع آياتٍ المنجيات والثلاث معوذات وآية الكرسي فارتفعت الهمهمات والتمتمات التي تصدر عن أصحاب هذه الأصوات وفجأة انتفض "كريم" وجمدت ملامحه وجحظت عيْناه ودفع بكلتا يديْه العالِم العجوز في صدره في حركةٍ قويّة لا تصدر من طفلٍ صغير وانبرى يقول بصوتٍ أجشٍ خشن لا يتولّد إلا من حنجرة رجلٍ بالغٍ كهل :

- إبعد عنّي يا راجل انت.. إنت عايز إيه؟

فزجره العالِم في هدوء رغم الموقف العصيب قائلاً بصوتٍ مرتعش :

- يا عمارة هذا المكان الذين يسكنوه من الجن والأرواح.. إنصرفوا عن هذا  البيْت ولا ترجعوا إليْه مرّةً ثانية.. انصرفوا أنتم وأبناءكم وزوجاتكم ومتاعكم واتركوا هذا المكان دون ضرٍّ لنا أو لكم.. انصرفوا وابحثوا عن مكانٍ آخر لكم تعيشون فيه أنتم وأهلكم.

فقال الصوْت الجهوري الخشن :

- ننصرف نروح فين بعد اللي عملتوه فينا؟

فردّ العالِم على سؤاله بسؤاليّن :

- إنت مين؟.. وطلباتك إيه؟.. استحلفك بالله أن تجيب.

فهدأ الصوت الخشن قليلاً وبدأ يقص على العالِم قصّته فأفهمه أنّه ضمن مجموعةٍ من الفلاحين كانوا يعيشون منذ نيّفٍ وستّين عاماً أيّام الحكم العثماني ورفضوا بيع أرضهم لصاحب هذا القصر - وكان أحد الأمراء العثمانيين الطغاة - فسلّط عليهم جنوده وأغواته وطواشيه فقبضوا عليْهم وأودعوهم غرفةً صخريّة في بدروم هذا القصر المنيف حيث لا يصلهم أحدٌ إلا عبر سردابٍ سرّي، وكان هذا الأمير يكلّف عساكره فيأتون بالواحد من هؤلاء المزارعين المساكين ويربطونه إلى شجرة الرمّان ويجلدونه ويتركونه بلا طعامٍ ولا شراب أيّامٍ طويلة كي ينصاع ويتنازل عن أرضه للأمير، فمنهم من آثر السلامة ولم يتحمّل التعذيب فرضخ للأمير وابتاعه الأرض بثمنٍ بخس ومنهم من ركب جواد عناده ورفض وأبى أن يترجّل عنه فزاده الأمير تعذيباً حتي قضى نحبه تحت هذه الشجرة من شدّة العذاب والتنكيل، ثم تجمّعت أرواح هؤلاء المعذّبين تحت هذه الشجرة وكانت تستظل بظلال أوراقها الوارفة حتى قطعها "شوْكت" باشا منذ أيّام فأحرقتهم الشمس الساطعة فاضطروا إلى الاحتماء داخل القصر فكان ما كان.

فتعجّب العالِم العجوز من هذه القصّة العجيبة واتفق مع هذه الأرواح على أن يزرع لهم الأب شجرةً أخرى يسكنون تحت أوراقها وأن يقيم لهم مظلّةً كبيرة بجوار الشجرة الجديدة حتى تكبر بشرط أن يتركوا القصر ويدعوا الابن لشأنه وتعاهد الجميع على ذلك ولكن الأب بعد أن نفّذ دوْره في الاتفاق باع القصر والأراضي المحيطة به وأخذ ابنه وزوْجته ليسكنوا بعيداً.

أمّا الشجرة الجديدة فنمت بسرعةٍ هائلة وضربت بجذورها لمسافاتٍ بعيدة، ويحكى أنها طرحت بعد عامٍ واحدٍ فقط ثماراً غريبةً لا تؤكل تشبه المانجو الضخمة ولكن لونها أحمر قاني ورائحتها كالدم الذَفِر ومذاقها كاللحم النيّئ ممّا حدا بأهالي العزبة أن يسمّوها "شجرة الدم".



(تمّت)

google-playkhamsatmostaqltradent