خبر
أخبار ملهلبة

المنقبة (الميزة) الخامسة: الطِيبَةُ وحُبُ فِعْلِ الخَيْر | سخصية مصر



العَشَرَةُ قَراريط

 

 

جَلَسَ الحاجُّ "عَبْدُ المَقْصودِ أَبو الخَيْرِ" كَبيرُ أَعْيانِ قَرْيَةِ "طيبَة" في مَنْزِلِهِ مَعَ أَحَدِ تُجَّارِ الجُمْلَةِ يَتَناوَلانِ قَدَحَيْنِ مِنَ القَهْوَةِ أَثْناءَ حِوارِهِما مَعاً :

- إتْفَضَّل يا حاج "أَبو الخير" عِدْ الفُلوس دي.. دي أكْتَر مِ اللي اتَّفَقْنا عَليه بِحَوالي تَلاتَّاشَر أَلْف جِنيه.. أَصْل مَحْصول البَطاطِس اللي اشْتَريتُه مِنَّك عَدَّى مِ الحَجْر الزِراعي وقَبَل فِ فَحْص التَصْدير.. والحَمْدُ لله بِعْتُه لشِرْكَة فِ "روسيا" وقَبَضْت مَبْلَغ كِبير وقُلْت لازْماً الخير يُعُمْ عَ الكُل.

- الله يكْرِمَك ويفَتَّح فِ وِشَّك البيبان المِقَفِّلَة عَلَى طول.. رَبِّنَا يعْلَم المَحْصول السَنَة دي أَخَد تَعَب وخِدْمِة وفُلوس قَدْ إيه.. دَه انا خَلِّيت المُهَنْدِس الزِراعي اللي حَدانا يشْتِري تَقاوي دَرَنات البَطاطِس النِضيفَة اللي مِنْ نوع "كارا" بالشِئ الفُلاني مِنْ "أُوروبَّا".. وجاب السِماد العِضْوي والآزوت والسوبر فوسْفات والبوتاسيوم وغيرهُم مِ السوق السودا.. دَه بَقَى غير إنْ احْنَا زَرَعْنا بطَريقِة التَرْديم اللي بِتْعوز فَلاّحين ياما وغَلَبَة فِ الحَرْت والعَزيق والتَزْحيف والتَهْويَة.. راخَر المَحْصول طَلَع نِضيف وما فيهوش عَفَن بُنِّي ولا عَفَن طَري ولا جَرَب.

- الله يبارِك لَك.. عِدْ الفُلوس بَقَى.

- يا راجـــِــل عـــيب.. يَعْني حَ اعِـــد وَراك.. دَه كَلام بَرْضُه.. حُطُّهُم بِبَرَكِتْهُم زَيْ ما هُمَّ كِدَه عَ التَرابيزَة اللي عَليها الصينيَّة.

وأَثْناءُ وَضْعِ التاجِرِ للنُقودِ سَقَطَتْ مِنْهُ رُزْمَتانِ عَلَى فِنْجَانَيْ القَهْوَةِ وكُوبِ الماءِ مِمَّا سَبَّبَ إتِّساخِ بَعْضِ الأَوْراقِ الماليَّةِ بالقَهْوَةِ والماءِ مُخَلِّفَةً عَلَيْها بُقَعاً بُنِيَّةَ اللَوْنِ حاوَلَ الحاجُّ "أَبو الخَيْرِ" وصاحِبُهُ تَجْفيفَها دونَ جَدْوَى، وفي هَذِهِ اللَحْظَةِ دَخَلَ عَلَيْهِما "خَطَّابُ الجُعْراني" أَحَدُ فَلاّحي القَرْيَةِ قاصِداً الحاجَّ "أَبو الخَيْرِ" في أَنْ يُقْرِضَهُ مَبْلَغاً مِنَ المالِ لِمُرورِهِ بِضائِقَةٍ فَطَلَبَ مِنْهُ الحاجُّ أَنْ يَنْتَظِرَهُ حَتَّى يوَدِّعَ ضَيْفَهُ التاجِرَ ويَغْسِلَ يَدَيْهِ مِنْ آثارِ القَهْوَة، وشاهَدَ "خَطَّابٌ" الحاجَّ "أَبو الخَيْرِ" وهوَ يُودِعُ ثَمَنَ مَحْصولِ البَطاطِسِ في أَحَدِ أَدْراجِ مَكْتَبِهِ دونَ أَنْ يُغْلِقَ عَلَيْها بالمِفْتاح، وانْصَرَفَ الحاجُّ ليُوصِلَ التاجِرَ حَتَّى بابِ المَنْزِلِ ثُمَّ اتَّـجَهَ إلى دَوْرَةِ المياهِ ليَغْسِلَ يَدَيْهِ وقَدْ قَرَّرَ في نَفْسِهِ أَنْ يُعْطيَ "خَطَّابَ" ما يُريدُهُ مِنَ المالِ عَلَى سَبيلِ المِنْحَةِ ولَيْسَ القَرْضُ ومُسامَحَتَهُ في المَبالِغِ التي اقْتَرَضَها مِنْ قَبْلُ دونَ أَنْ يُطالِبَهُ بِها فَقَدْ اسْتَلَمَ لِتَوِّهِ ثَمَناً لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَعُهُ في مَحْصولِهِ وتَذَكَّرَ قَوْلَ التاجِر : "لازْماً الخير يُعُمْ عَ الكُل".

ولَكِنَّهُ عِنْدَما عادَ لَمْ يَجِدْ "خَطَّابَ" فَظَنَّ أنَّهُ انْصَرَفَ عِنْدَما تَأَخَّرَ عَلَيْهِ فَوَبَّخَ نَفْسَهُ عَلَى تَأَخُّرِهِ وعَزَمَ عَلَى الذِهابِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ صَلاةِ المَغْرِبِ حَتَّى مَنْزِلِ "خَطَّابٍ" ليُعْطيهِ ما يُريدُ فَالمالُ مالُ الله، ثُمَّ غادَرَ الحاجُّ مَنْزِلَهُ مُتَوَجِّهاً لِقَضاءِ أَعْمالِهِ عَلَى أَنْ يَعودَ ليَبْدَأَ تَقْسيمِ النُقودِ التي وَصَلَتْهُ لتَذْهَبَ لِمَنْ تَسْتَحِق : فَجُزْءٌ مِنْها سَيَذْهَبُ للمَسْجِدِ في صورَةِ صَدَقَةٍ جاريَةٍ وجُزْءٌ آخَرٌ لِبَعْضِ المُحْتاجينَ الفُقَراءِ الذينَ تَعَوَّدوا عَلَى تَصْريفِ بَعْضِ أَحْوالِهِم مِنْ صَدَقَةِ الحاجِّ وجُزْءٌ ثالِثٌ لِنَفَقاتِ الجَمْعيَّةِ الخَيْريَّةِ التي أَنْشَأَها الحاجُّ بالقَرْيَةِ وجُزْءٌ رابِعٌ للتَبَرُّعِ لِمَلْجَأ الأَيْتامِ والعَجَزَةِ "بِدَمَنْهور" وأَمَّا الجُزْءُ الأَخيرُ المُتَبَقِّي فَلِنَفَقاتِ أُسْرَتِه.

وعِنْدَما عادَ الحاجُّ بَعْدَ حَوالي الساعَتَيْنِ وفَتَحَ دُرْجَ المَكْتَبِ لَمْ يَجِدِ النُقودَ في مَكانِها فانْزَعَجَ بِشِدَّةٍ واسْتَدْعَى كُلَّ مَنْ في المَنْزِلِ مِنْ أَفْرادِ أُسْرَتِهِ ومِنَ الخَدَمِ فَلَمْ يَسْتَدِلْ عَلَى شَئ فَجَلَسَ حَزيناً وهوَ يُفَكِّرُ فيما سَيَفْعَلُهُ لِسَدادِ ما كانَ يَنْوي صَرْفَه عَلَى أَوْجُهِ الخَيْرِ وعَلَى أُسْرَتِه، وبَعْدَ تَفْكيرٍ عَميقٍ قَرَّرَ الحاجُّ أَنْ يَبيعَ قِطْعَةً مِنْ أَرْضِهِ في الناحيَةِ القِبْلِيَّةِ ليَتَحَصَّلَ عَلَى ثَمَنِها ويُنْفِقُها في سَبيلِ اللهِ فَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ وذَهَبَ لِسِمْسارِ القَرْيَةِ وعَرَضَ عَلَيْهِ ما يُريدُ فَوَعَدَهُ السِمْسارُ بأَنْ يَجِدَ لَهُ مُشْتَرِياً في غُضونِ يَوْمَيْن.

وبَعْدَ يَوْمَيْنِ حَضَرَ السِمْسارُ للحاجِّ وأَخْبَرَهُ بأَنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ في تَلْبِيَةِ طَلَبِهِ بالنِسْبَةِ لِقِطْعَةِ الأَرْضِ في الناحِيَةِ القِبْلِيَّةِ ولَكِنَّهُ وَجَدَ مُشْتَرِياً للعَشَرَةِ قَراريطٍ التي يَمْتَلِكُها الحَاجُّ في الناحيَةِ البَحَريَّةِ والتي تَقَعُ عَلَى الطَريقِ الرَئيس للقَرْيَة، ولَمْ يَكُنْ الحاجُّ يَنْوي بَيْعَ هَذِهِ الأَرْضَ المُتَمَيِّزَةَ ولَكِنَّهُ وَافَقَ عَلَى مَضَضٍ ليَحِلَّ أَزْمَتَهُ وأَزْمَةَ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مِنَ الفُقَراءِ واليَتامَى، ولَشَدَّ ما كانَتْ دَهْشَتُهُ عِنْدَما عَرِفَ مِنَ السِمْسارِ أَنَّ المُشْتَرِي هوَ "خَطَّابَ" الذي زَعِمَ أَنَّهُ أَتَى بالمالِ مِنْ قَريبٍ لَهُ يَعيشُ في "الكوَيْتِ" وأَوْكَلَهُ في شِراءِ الأَرْض، وعِنْدَما اسْتَدْعَى الحاجُّ "أَبو الخَيْرِ" ذاكِرَتَهُ يَوْمَ أَنْ سُرِقَ بَدَأَ يَشُّكُ في أَنَّ "خَطَّابَ" هوَ السارِقُ وتأكَّدَتْ شُكوكُهُ في اليَوْمِ التالي عِنْدَ التَوْقيعِ عَلَى عُقودِ بَيْعِ الأَرْضِ عِنْدَما وَجَدَ بَعْضَ الأَوْراقِ الماليَّةِ التي تَسَلَّمَها مِنْ "خَطّابٍ" مُلَطَّخَةً بِبُقَعٍ بُنِيَّةِ اللَوْنِ فَنَظَرَ الحاجُّ إلَيْهِ نَظْرَةَ مَنْ يَقولُ لِنَفْسِهِ : "إتَقِ شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتَ إلَيْه"، ولَمْ يَرْغَبِ الحاجُّ في مُواجَهَةِ "خَطَّابٍ" لاسْتِرْدادِ مالِهِ المَسْروقِ بَلْ تَرَكَ حِسَابَهُ للهِ واسْتَعْوَضَ رَبَّهُ في مالِهِ وأَرْضِهِ عَساهُ أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهُما خَيْراً.

ومَضَتْ بِضْعَةُ شُهورٍ أَفاءَ اللهُ أَثْناءَها عَلَى الحاجِّ "أبو الخَيْرِ" بالخَيْرِ الوَفيرِ وعَوَّضَهُ أَضْعافَ أَضْعافَ ما سُرِقَ مِنْهُ مِمَّا جَعَلَهُ يُزيدُ في أَعْمالِهِ الخَيْريَّةِ التي كانَ يَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ تَعالَى وَسْطَ دُعاءِ الناسِ لَهُ بالصِحَّةِ والرِزْقِ فَكَمْ مِنْ لَطيمٍ سانَدَهُ وكَمْ مِنْ مُعْوِزٍ ساعَدَهُ وكَمْ مِنْ مُعْسِرٍ أَغاثَهُ وكَمْ مِنْ ممْلِقٍ أَسْعَفَهُ حَتَّى ذاعَ صيتُهُ في قَرْيَتِهِ وما جاوَرَها مِنْ قُرَى وصارَ الناسُ يَضْرِبونَ بِهِ المَثَلَ في الجُودِ والخَيْرِ والصَلاح، أَمَّا "خَطَّابٌ" فَقَدْ باعَ دارَهُ ليَتَوَفَّرَ لَهُ مالاً يسْتَطيعُ بِهِ أَنْ يَبْني عِمارَةً في أَرْضِهِ الجَديدَة.

ونَظَراً لِتَعاظُمِ الكَثافَةِ السُكّانيَّةِ في قَرْيَةِ "طيبَة" تَقَدَّمَ أَهْلُها بعِدَّةِ طَلَباتٍ والْتِماساتٍ للمِسْئُولينَ مِنْ أَجْلِ بِناءِ مَدْرَسَةٍ ثانَويَّةٍ لأَبْناءِ القَرْيَةِ الذينَ كانوا يُضْطَرُّونَ للذِهابِ إلى أَقْرَبِ مَدْرَسَةٍ ثانَويَّةٍ قَريبَةٍ ِمْنُهُم في مَرْكَزِ "الدِلِنْجاتِ" عَلَى بُعْدٍ أكْثَرِ مِنْ خَمْسَةِ كيلومِتْرات، وأَخيراً لَبَّى المَسْئُولونَ نِداءاتِ المُواطِنينَ المُتَكَرِّرَةِ وقَرَّروا إنْشاءَ المَدْرَسَةِ وخَصَّصوا لَها بَنْداً في ميزانيَّةِ المُحافَظَةِ ولَمْ يَجِدوا أَرْضاً لِبِناءِ المَدْرَسَةِ أَفْضَلَ مِنَ العَشَرَةِ قَراريطٍ التي باعَها الحاجُّ "أَبو الخَيْرِ" "لخَطَّابٍ" حَيْثُ أَنّ مَوْقِعَها المُتَمَيِّزَ عَلَى الطَريقِ الرَئيس يَجْعَلُ مِنَ السَهْلِ الوصولَ إلَيْها مِنْ قِبَلِ تَلاميذِ ومُدَرِّسِي القَرْيَةِ والقُرَى المُجاوِرَة، ووَفْقاً للقانونِ 10 لِسَنَةِ 1990 أَصْدَرَ المُحافِظُ قَراراً بِنَزْعِ مِلْكِيَّةِ الأَرْضِ مِنْ "خَطَّابٍ الجُعْراني" لِصالِحِ المَنْفَعَةِ العامَّةِ وهَدْمِ ما عَلَيْها مِنْ مَبانٍ وإنْشاءِ مَدْرَسَةٍ ثانَويَّةٍ مَكانَها عَلَى أَنْ يَتِمَّ تَعْويضُهُ بِمَبْلَغٍ تُحَدِّدُهُ لَجْنَةُ التَعْويضاتِ بالمُحَافَظَة، وعِنْدَما عَرِفَ "خَطَّابٌ" بِمَبْلَغِ التَعْويضِ فيما بَعْدِ أُصيبَ بِشَلَلٍ نِصْفَيٍ بَعْدَ أَنْ دَفَعَ مِنْ مالِهِ فَوْقَ هَذا المَبْلَغِ لاسْتِرْدادِ الدارِ التي كانَ يَسْكُنُ فيها مِنْ قَبْل، وبِناءً عَلَى طَلَبِ أَهالي القَرْيَةِ المُقَدِّرينَ للجَميلِ والمَعْروفِ تَمَّتْ تَسْميَةُ المَدْرَسَةِ "بِمَدْرَسَةِ عَبْد المَقْصود أَبو الخَيْر الثانويَّة المُشْتَرَكة ".

google-playkhamsatmostaqltradent