خبر
أخبار ملهلبة

"مصر" مقبرة المصريين (3) | فضائح مصر المهروسة لابن النكدي



"مصر" مقبرة المصريّين  (3)

 

 

ولكن هيْهات ؛ فقد أتت الرياح بما لا تشتهي السفن واستحال هذا الحلم الجميل إلى كابوسٍ مريع بعد أن تصارع حلفاء اليوم على تقسيم كعكة السلطة في البلاد وصاروا أعداءً عقب أن ركب فصيلٌ منهم صهوة الثوْرة واستبق الصفوف في غرورٍ وعلياء ليثبّت أقدامه وينشر أعوانه في جميع مفاصل الدوْلة تاركاً وراءه من ساعدوه في بلوغ مأربه وتحقيق هدفه يعضّون على أناملهم غيْظاً وكمداً، وبدأت معاول الصراع على السلطة وفؤوس النزاع السياسي تهدم ما تبقّى من بناء الثوْرة شيْئاً فشيْئاً وأفرزت معارك الاستقطاب عن نشوب العداوة والكراهية بين الأشقّاء والأصدقاء وقرناء الوطن الواحد لتسوء الأوضاع أكثر ممّا سبق ويستحيل معها العيْش أو البقاء، هنا أيقن "عمر" أنّه لا فائدة من بقاءه في وطنه ولا مندوحة من لجوئه للغربة فقد مرّت ثلاث سنوات في شدٍ وجذب دون ظهور أي بارقة أملٍ في الانصلاح وظهور فجرٍ جديد للحريّة والعدل والكرامة.

وأنهى "عمر" جميع إجراءات الهجرة وأتمّ حجز تذاكر الطيران إلى "كندا" في مساء يوم السادس من نوفمبر 2014، ورغم نقل أوراق "أمل" من مدرستها المصريّة إلى إحدى مدارس "تورونتو" الكنديّة إلّا أنّها أصرّت على الذهاب لمدرستها في اليوم السابق للسفر لكي تتمكّن من توْديع زميلاتها ومعلّميها الذين اشترت لهم هدايا تذكاريّة بسيطة واصطحبت معها الكاميرا الخاصّة بها لتلتقط الصور مع أحبّائها قبل أن تغادر الوطن لتنهل من معين هذه الصور والذكريات كلّما أعياها الحنين إلى الماضي وقرصتها برودة المشاعر في الغربة.

وفي اليوْم الموْعود استقلّت "أمل" حافلة المدرسة من أمام بيتها متوجهةً مع رفيقاتها إلى حيث المدرسة التي تأخّروا عليها بسبب عطلٍ ميكانيكيٍ مفاجئ بالحافلة العتيقة التي تسير ببركة سائقها الشيْخ العجوز، ولكي لا يعاقَب السائق المسن على إضاعته لوقت الطلبة فقد تجاوز السرعة المقرّرة ولم يلحظ أن مقطورة نقل - يقودها سائقٌ مخدَّرٌ مسطول - تحمل طوباً وزلطاً تسير بجانبه بأعلى من سرعة الحافلة وتقطع عليه حارته وتضطرّه للانحراف يساراً نحو الطريق المعاكس فيصطدم بثلاث عرباتٍ كانت إحداها محمّلةً بالوقود الذي اشتعل وانفجرت العربات المتصادمة انفجاراً مدويّاً بمن فيها من طلّابٍ وركّاب وتناثرت أشلاء بعضهم حوْل المكان أمّا أغلبهم - وفيهم "أمل" - فقد تفحّموا تماماً وهم في أماكنهم، وهُرِع الناس إلى موقع الحادث ليتفرّجوا على ما حدث دون أن يجرؤوا على الاقتراب من ألسنة اللهيب الحارقة فطفقوا يلهلهون ويحوقلون وهم يلتقطون الصور بتليفوناتهم المحمولة، ووصلت عربات المطافئ والإسعاف الطبّي بعد حوالي الساعة أعقبها توافد المسؤولين على مكان الحادث ليدلي كلٌ منهم بدلوه في الأحاديث الصحفيّة واللقاءات التليفزيونيّة لينعوا الضحايا ويعزّوا أهاليهم ويلوموا القدر على دوره في الحادث والقدر منهم براء.

أمّا "عمر" و"سهير" فقد أذهلتهم الصدمة وإصيبوا بانهيارٍ عصبي حاد عندما وصلهم خبر وفاة ابنتهم ونُقِلا للعلاج بالمستشفى في حين توجّه أقرباؤهما إلى المشرحة لاستلام جثّة الطفلة الفقيدة لدفنها بمقابر الأسرة فلم ينجحوا في إنجاز مهمّتهم بسبب تفحّم الجثث وصعوبة التعرّف على أصحابها وقيام عامل المشرحة بكنس بقايا الجثث خارج المشرحة وإلقائها داخل صندوق القمامة حيث تكمن هناك القيمة الحقيقيّة للإنسان المصري.

ومضى شهرٌ كامل عندما خرج الأبوان من المستشفى وبدآ يتقبّلان الواقع المرير ويعتادان على الحياة بدون ابنتهما العزيزة آمليْن من الله أن يعجّل بهما ليلاقيا زهرة عمرهما وأمل حياتهما الموْؤود، ورفض الأبوان استلام قيمة التعويض الذي حدّدته الدوّلة بثلاثين ألفاً من الجنيهات بعد أن فشلا في التحصّل على جثمان حبيبتهما التي أبى الوطن إلّا أن تنتهي علاقتها به دون أن تُدْفَن في ترابه وكأنه يضنّ عليها حتّى بالضمّة الأخيرة فذهبت الطفلة إلى العدم كما جاءت من عدم.

وبعد توْديعهما لذويهما في المطار وتوجّههما إلى بوّابة الخروج فوجئ "عمر" بأن العربة التي يدفعها أمامه والتي وضع فيها سائق السيّارة الأجرة حقيبته وحقيبة زوْجته قد زادت حقيبةً أخرى فظنّ أن هناك خطأٌ ما وقبل أن يفتح الشنطة الثالثة ليعرف صاحبها فوجئ "بسهير" تقول له :

- ما فيش داعي تفتحها.. الشنطة دي بتاعة "أمل" الله يرحمها.

- بتاعة "أمل"!؟

- أيوه بتاعتها.. فيها هدومها وكتبها ولعبها.

- وح تعملي بيها إيه ف "كندا"؟

- أهُه.. علشان لو ما قدرتش أحافظ على بنتي ف بلدي يبقى ع الأقل قدرت أحافظ على حاجاتها ف بلاد الغربة.

وأسرع الاثنان بالمغادرة وهما ينظران للأمام بحزن دون أن يلتفتا للخلف بكل تفاصيله الأليمة حتّى اختفيا وسط الزحام الذي ابتلعهما بين حنايا حواياه.

google-playkhamsatmostaqltradent