خبر
أخبار ملهلبة

الجريمة (2) | الجريمة | نجيب محفوظ


سيارة تاكسي أجرة صفراء يجلس بداخلها سائق وراء عجلة القيادة

الجريمة (2)

 

 

غادرتُ حجرتي لأمارس العمل الذي اخترته عندما قابلني رسولٌ جاء يستدعيني إلى مكتب الأمن، ذهبتُ من فوْري قلقاً متشائماً، ما معنى الاستدعاء؟، هل رابهم شيءٌ في سلوكي؟، هل أواجه التحدي وأنا لم أكَد أشرع في العمل؟، ومَثَلْتُ أمام الضابط الذي سألني عن اسمي وعملي، ذکرتُ الاسم وقلت:

-       سوّاق تاکسي.

وقدّمتُ بطاقة الشخصيّة والرُخصة فراح يتفحصهما بعنايةٍ وأنا مطمئنٌ إلى أنه لن يجـد مـا يـريبـه فـيـهـمـا، ثم تفـحّـصني بنظرةٍ ثاقبة وسألني:

-       لِـمَ اخترتَ هذه الضاحية للعمل؟

فقلتُ بعد تَفَكُّر:

-       إنـه حَـقٌ مـشـروعٌ لـكـل مـواطـن .. ولا يسـتـدعي في اعـتـقـادي استجواباً.

فأعاد سؤاله ببرود:

-       لِـمَ اخترتَ هذه الضاحية للعمل؟

فآثرتُ السلام حرصاً على نجاح مهمّتي وقلت:

-       عملها المحدود مناسبٌ لرزقي وصحّتي .. واتجه اختياري إلى هُنا لأنّى أصلاً من مواليد الضاحية.

-       ألَكَ بها أهلٌ أو أقارب؟

-       كلّا .. هجروها منذ حوالي ربع قرن.

-       الجريمة خلقتْ نفوراً عامّاً من الغرباء.

كِدْتُ أسأله: "هل عـرفـوا هويّة المجرمين؟"، ولكنّي أمسكتُ عن حكمةٍ وتساءلت:

-       هل تقرّر إبعادي من أجل ذلك؟

فرَدَّ إليَّ البطاقة والرخصة وقال ببرود:

-       إذهب.

ذهبت وأنـا أفكّر بمدى ارتيـاب الرجل بي ولكنني لم أجـد في سلوكي مـا يسوّغ ذلك على الإطلاق فنَحّيْته عن شعـوري لأمضي في طریقي بلا ظنونٍ وهمـيـّةٍ قـد تربكني وتكشف سِـرّي.

وكنتُ أوصل رجليْن في التاكسي إلى المحطّة عندما سمعتهما يتحاوران عن الجريمة:

-       فظيعةٌ فظيعة .. أي قسوة! .. كانت بارعة الجمال.

-       ولكن النار لم تُبْقِ منها على شيء؟

-       أعنى لو لم تكن جميلة لما تعَرّضتْ للقتل .. أنت تفهمني طَبَعاً.

-       طَبَعاً .. انقضاء خمس سنوات على دفنها يجعل العثور على دليلٍ أمراً مستحيلاً.

فتدخّلتُ في الحديث قائلاً:

-       قرأتُ في الجرائد أنه يمكن بفحص المومياوات عِلميّاً معرفة أسباب الوفاة .. فإذا كان السبب جريمةٌ أمكن بمناقشة الملابسات التاريخيّة تحديد القاتل في شخصٍ أو طائفة.

فضحك الرجلان وقـال أحدهما:

-       على عَهْد الفراعنة كان الناس يموتون أو يُقْتَلون لأسبابٍ مقنِعة.

وضحك الرجلان مرةً أخرى، قلتُ لنفسي إن أحاديث الناس لا تدل على أنهم متواطئون، وتَقْطَع بأنهم غير راضين حتّى ولو كانوا متواطئين، فلماذا يشتركون في إخفاء مـعـالـم الجريمة والتَـسَـتُّـر على القاتل أو الـقَـتَـلة رغم إرادتهم أو رغم نفورهم؟

ومـرّةٌ كنت أوصل أسـرةً إلى عـيـون الميـاه فـدار الحديث أيضـاً حـوْل الجريمة:

-       مِـمّا يقال بخلاف ذلك فهو مجرد إشاعة.

-       أنت تعلم كما نعلم أنها الحقيقة.

وتوثّبتُ لإرهاف السَمْع ولكنّي لمحت في المرآة امرأةً تحذِّر المتكلمين مـشـيـرةً بذقنهـا نـحـوى، وجعلتُ أتقلّبُ في شَتّى الأماكـن كـمـا أتابع الأحاديث في التاكسي، أسجّل الكلمات في ذاكرتي، أناقشها، أفكّر بأبعادها، أستنتج متعاملاً مع الاستقراء والقياس، مستفيداً من كل ملاحظة، وقد سألت رئيسي وكنت أزوره كلّما أوصلت راكباً إلى العاصمة:

-       ألا يـوجـد احـتـمـالٌ أن يكون مرتكب تلك الجريمة مـن خـارج الضاحية؟

-       ليْس ذلك بالمستحيل .. وفي تلك الحال تكون الجريمة عاديةً وتأخذ العدالة مجراها.

-       ما الذي يحمل فقراء الحيْ الشرقي على الاشتراك مع سادة الحي الغربي في إخفاء جريمة رغم حِدّة التناقضات بيْن الجانبين؟

-       تساؤلٌ يقطع بأنك بدأتَ تضع قدمك في الطريق الصحيحة.

-       أرجّح أن يكون القاتل من السادة.

-       تفكيرٌ سليمٌ جداً.

-       هل يعني ذلك أن القتيلة من الجانب الآخر؟

-       قد وقد .. السِر إذن يكمن في المصلحة المشتركة بين الجميع حتى رجال الأمن أنفسهم؟

-       هذه هي المسألة.

وعلمتُ مما يقال في الضاحية أن الجثّة اكـتـُشِـفَـت وهم يحـفـرون الأساس لبناء مصحّة الأمراض العقليّة، وعرفتُ أوّل من عثر عليها من البنّائين، وهو صـعـيـدي من هواة الجلوس في مـقـهى "الشمس" بالحيْ الشرقيْ، وعملتُ على التعرُّف به ومجالسته فشربنا الشاي معاً، وسألته:

-       كيف كان شعورك عندما عثرتَ على الجثّة المطمورة؟

فقال بفخار:

-       ناديْتُ أصحابي ثم جاءت الشرطة.

تبادلنا حديثاً سطحيّاً مؤجِلاً الأسئلة الهامّة للقاءٍ آخر، ولكني لم أعثر عليه بعد ذلك، وقيل إن ظروفاً اضطرته للسفر فوْراً إلى الصعيد، تُرى هل وقع ذلك بمحض الصدفة؟، ساورني القلق فخِفْتُ أن أكون مُراقَباً على غيْر ما أتصوّر، وشحذت انتباهي ما وسعني ذلك، ولكني لم أكُف دقـيـقـةً عن نشاطي المرسـوم، فـتـحـت صـدري لكل عـلاقـة، استكثرتُ من الأصدقاء، قدّمتُ الخدمات بلا حساب، وظَلَّ حديث الجريمة يجري على كل لسان، في البيْت والمقهى والسوق والتاكسي، يتردّد بغيْظٍ وحنق، وأحياناً بسخرية، ولكنّه لا يَشُقُّ حجاب الغموض أبداً، ثَمّةَ شيءٌ في الأعماق يعوزه التعبير، يكبته أنه في اللاوعي، أو الخوف أو الخجل أو الرغبة المحمومة في الهرب، ولاحظت ذات يوم – وأنا في السوق – أن امرأةً فقيرةً دمعت عيْناها وهي تصغي إلى حديث الجريمة الذي لا ينقطع، جذب وجـهـهـا عـيْني بـفـقـره وجماله الذابل المتواري وراء غلافٍ من الإهمال والتعاسة، تُرى هل تبكي بدافع عاطفةٍ إنسانيةٍ عامّة أو لأسبابٍ أشدُّ خصوصيّة؟ وقرّرتُ في الحال تعقّبها من بعـيـدٍ لعلَّ وعسى، ولَـمّا وَصَلَتْ إلى آخـر منطقةٍ في السوق اعترضني صوتٌ قائلاً:

-       ها أنت تهيم على وجهك مهمِلاً عملك.

التفتُّ فرأيْتُ الضابط واقفاً يرمقني بنظرته الباردة، فقلت:

-       جئت أتسوّق.

-       وأيْن التاكسي؟

-       في الميْدان الجديد.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent