خبر
أخبار ملهلبة

مصير صرصار | توفيق الحكيم | الفصل الثالث: مصير الصرصار (2)


يدا رجل وامرأة يتشابك إصبعهما البنصر معاً دليل على المصالحة والتلاقي بعد خصام وهجر

الفصل الثالث (2)

 

 

سامية: منذ .. منذ لحظة .. وأنا أدقِّق فيه النظر ..

عادل: أنا شخصيّاً أدقِّق فيه النظر من الصُبح ولا أجد فيه أي جمال! ..

سامية: هذا تواضُعٌ منك ..

عادل: تواضُع؟! .. مني أنا؟! .. وما هي العلاقة؟ ..

سامية: لا .. أبداً .. لا .. لا ..

الدكتور: بالتأكيد .. لا توجد علاقةٌ على الإطلاق ..

سامية: طبعاً يا "عادل" .. تأكّد أنه لا توجد علاقة ..

عادل (ينظر إليهما): ما كل هذا الارتباك ..

سامية: لا أبداً يا "عادل" .. كل شيءٍ طبيعي .. كل ما في الأمر أني أنا والدكتور فهمنا وجهة نظرك تماماً ..

الدكتور: فعلاً .. فعلاً ..

عادل (في شكٍ نحوهما): وما هي وجهة نظري؟ ..

سامية: هي .. هي أن هذا الصرصار .....

الدكتور: لا ينبغي أن يُمَس بسوء ..

سامية: نعم .. نعم ..

عادل: أتعرفون لماذا؟ ..

سامية: نعرف .. نعرف ..

عادل: لا يا "سامية" .. أنا واثقٌ أنكِ لا تعرفين بالضبط سأشرح لك وللدكتور ..

سامية: لا .. لا داعي یا "عادل" .. لا داعي .. نحن نعرف .. ونقدِّر .. وإن شاء الله كل شيء سيعود إلى حالته الطبيعية .. بقليلٍ من الحكمة والصبر ..

عادل: نعم .. قليلٌ من الصبر .. كل المطلوب هو قليلٌ من الصبر .. لأن الأمر قد يطول بعض الشيء .. لكنه على أي حالٍ مهمٌ ومثير .. أنا لا أسأم من النظر والمراقبة .. وما دام هذا الصرصار يكافـح هـذا الكفاح للخروج من مأزقه، فلا يجوز لنا نحن أن نقضي علیه ..

سامية: ومن قال إننا سنقضي عليه .. بالعكس يا "عادل" سأحافظ عليه بكل عناية .. وأفديه بروحي ..

عادل: تفتدينه بروحِك! .. أرجوكِ يا "سامية" .. لا لزوم للسخرية ..

سامية: أبداً يا "عادل" أبداً .. ماذا أفعل لأقنِعك أني لا أسخر مطلقاً؟! ..

عادل: على الرغم من كل شيء .. كفاح هذا الصرصار يثير في نفسي الاحترام ..

سامية: ومن قال إننا أقل منك احتراماً له؟! .. نحن متَّفِقون معك يا "عادل" .. متَّفِقون تماماً .. وربما كنا أكثر منك احتراماً وتقديراً له .. أليس كذلك يا دكتور؟ ..

الدكتور: طبعاً .. طبعاً ..

عادل: أكثر مني؟ .. لا .. لا أظن ..

سامية: ولِـمَ لا؟ ..

عادل: لأني أنا ألاحظه من الصباح الباكر .. وأتابع كل حركةٍ من حركاته .. إن كميّة القوّة المختزَنة فيه تُدهِشني .. إنها قوّةٌ عجيبة ..

سامية: أنا معك في هذا يا "عادل" .. وثِق أني أراه قـوي الشخصيّة بشكلٍ عجيب ..

عادل: قوي الشخصية؟! ..

سامية: ألا تعتقد ذلك؟ ..

عادل: أظنها مبالغةً أن نقول إن له شخصيّةً ..

سامية: ثِق يا "عادل" أن له شخصيّةً قويّة .. ويجب أن تعتقد ذلك ..

عادل: اسمعي يا "سامية" .. لا تخلطي في الأوْصاف .. كوْن الصرصار له هذه القوّة وهذا الإصرار، هذا شيءٌ مقبولٌ ومعقول .. لكن القوْل بأن له شخصيّةً لا .. يبقى زيادة! ..

سامية: أنا مُصِرَّة على أن له شخصيّة .. وربما كانت شخصيّته أقوى من شخصيّتي .. ألست معي في هـذا يـا دکتور؟ ..

الدكتور: جائزٌ جداً ..

عادل: ما هو الجائز جداً يا دكتور؟ .. شخصيّـة هـذا الصرصار أقوى من شخصيّة "سامية"؟! ..

الدكتور: لا تبالِغ يا أستاذ "عادل" في قوّة شخصيّة السِت زوْجتك .. مع تقديرنا الكامل لها ..

عادل: أنا لا أبالغ لكن .. مقارنة زوْجتي بصرصار؟! ..

سامية: أنا موافِقةٌ يا "عادل" .. موافِقة ..

عادل: ليست مسألة موافِقة أو غير موافِقة .. نحن نتكلّم في المقارنة ذاتها ..

سامية: ولماذا ترفض المقارنة .. ما دام الصرصار يدعو إلى الاحترام؟ .. هذا يشرّفني ..

عادل: سنعود إلى السخرية؟! ..

سامية: أبداً يا "عادل" وأُقسِم لك .. أنا جادّةٌ كل الجد واسأل الدكتور ..

عادل: اسمعي يا "سامية" .. عندما تفقد الكلمات حجمهـا الطبيعي فإن كل شيء يفقد جديّته .. وأنا بدأت أشعر أنكِ متّفِقة مع الدكتور على تهزيء أفكاري ..

الدكتور: حاشا لله يا أستاذ "عادل"! ..

سامية: لا يا عادل أرجوك .. لا تتّهم الدكتور هذه التُهمة .. إنه أبعد الناس عن المساس باحترامك .. إنه لم يعطِّل أعماله الأخرى ويكرِّس لنا كل وقته من أجـل السخرية منك ومن أفكارك ..

الدكتور: بالعكس .. أنا .. في الحقيقة .....

سامية: لا تقُل شيئاً يا دكتور .. شعورك واضح ..

عادل: أنا آسف .. أنا ولا شك أسأت الفهم ..

سامية: تأكّد يا "عادل" أننا كلنا متّفِقون معك في الرأي .. ولا يوجد بيننا الآن أي خلاف .. الصرصار هو محل إعزازنا كما هو محل إعزازك ..

عادل: إعزازي؟! ..

سامية: نعم .. وإكراماً له ولك صمّمت أن لا آخذ حمّاما اليوْم .. لأُثبِت لك أني لن أحاول مَسّه بسوء ..

عادل: متشكّر ..

سامية: أليس هذا يسرّك؟ ..

عادل: طبعا يسرّني ..

سامية: كل ما يسرّك يا "عادل" ويرضيك سأحقِّقه لك في الحال ..

عادل: ما كل هذه الرِقّة الآن؟! ..

سامية: إني نادمةٌ على كل ما بَدَرَ مني ..

عادل: وماذا بَدَرَ منِك؟! ..

سامية: لم أكُن لطيفةً معك في كل الأحيان ..

عادل: هذا من حقِّك بصفتِك امرأة وزوْجة .. لكن أنا من واجبي بصفتي الرجل والزوْج أن أتحمّل ..

سامية: لا .. لن تتحمّل بعد الآن .. لن أجعلك تتحمّل ..

عادل: ما الذي حصل الآن؟! .. ما الذي جرى في الكون؟! ..

الدكتور: زوجتك من أطيب الزوجات يا أستاذ "عادل" .. وهي مطيعةٌ لك طاعةً عمياء ..

عادل: منذ متى؟! ..

سامية: منذ اليوْم ..

عادل: ولماذا اليوْم؟! ..

سامية: لأنه .. لأني .....

الدكتور: لأنها طبعاً لا تريد أن تراك مريضاً ..

عادل: ولكني لست مريضاً ..

الدكتور: طبعاً .. طبعاً .. أنت لست مريضاً على الإطلاق ..

سامية: قَصْد الدكتور أنك .....

الدكتور: فعلاً .. قصدي أنه اتّضح أنك لم تكن مريضاً .. وهذا ثبت من الكشف عليك .. ثِق من ذلك .. إنما المقصود كلّه استبعاد فكرة المرض، لا المرض ذاته .. مجرّد رؤية دكتور في البيْت جاء من أجلك جعل زوْجتك تشعر نحوك بشيءٍ من .....

سامية: نعم .. نعم .. مجرّد أن أراك تأخذ أجازةً مرضيّة ..

عادل: أنا لم آخذ أجازةً مرضيّة .. الدكتور هو الذي أعطاها لي .. لمجرّد أن يكتب تقريره .. أمّا أنا فلم أكن في حاجةٍ إلى أجازة ..

الدكتور: هذا صحيح .. صحيح ..

سامية: على أي حالٍ يا "عادل" أنا كنت مخطئةً في حقّك ..

عادل: أحيانا ..

سامية: أنا معترفة ..

عادل: لن تدخلى إذن الحمام قبلي؟ ..

سامية: لا .. أبداً .. تُبت ..

عادل: لن تقولي لي جهِّز الفطور؟! ..

سامية: تُبت .. تُبت ..

عادل: لن تفرضي إرادتِك وأوامرِك عليَّ؟! ..

سامية: تُبت .. تُبت .. تُبت ..

عادل: وما السر في هذا الانقلاب المفاجئ؟! ..

سامية: لم أكن أدرك أن تصرّفاتي هذه معك سيكون لها مثل هذه النتائج! ..

عادل: أي نتائج؟! ..

الدكتور: تقصد .. تقصد غضبك ..

عادل: ولكني لم أغضب .. إني كنت أتحمّل تصرفاتِك بضيقٍ أحياناً .. نعم .. كنت أضيق بكِ أحياناً كثيرة .. ولكني لم أغضب منك ..

الدكتور: كنت تكبت ..

عادل: أكبت؟ ..

الدكتور: تكبت في أعماق نفسك .. وهذا الكبت هو الذي .. هو الذي يؤدّي إلى .. يؤدّي إلى ..

عادل: يؤدّي إلى ماذا؟ ..

الدكتور: يؤدّي إلى .. تعكير المزاج ..

عادل: فعلاً .. تعكير المزاج .. لكن في لحظتها فقط ..

سامية: ربما ترسّب في نفسك شيء ..

عادل: منكِ أنتِ؟! .. لا .. مطلقاً ..

سامية: كدت أعتقد هذا الصباح أنك كرهتني

عادل: كرهتِك؟! ..

سامية : نعم .. بمناسبة مبيد الحشرات ..

عادل: أتسمّين هذه كراهية؟! .. مجرّد المضايقة البسيطة .. بسبب رغبتِك في إبادة هذا الصرصار؟! ..

سامية: لم أكن أعرف أهميّته ..

عادل: وهل عرفتِ الآن حقّاً أهميّته؟ ..

سامية: بالتأكيد ..

عادل: أشك! ..

سامية: ولماذا تشك؟ ..

عادل: لأنكِ لا تلاحظينه بالاهتمام الكافي .. انظرى! .. إنه الآن مثلاً قد بدأ يقف في قاع الحوْض وقفاتٍ طويلة؟ .. ما معنى ذلك؟ ..

سامية (تنظر باهتمام): معناه أنه .....

عادل: إنه أخذ يستريح ..

سامية: نعم ..

عادل: بعد هذا الجهد المتواصل لا بُد أن يحتاج إلى فترات راحة .. يقف فيها قابعاً كما ترين .. يحرِّك شواربه في سكون .. قبل أن يعاود التسلّق من جديد ..

الدكتور (ينظر في اهتمام): بدأ فعلاً يتحرّك ببطءٍ ليتسلّق ..

سامية: حقّاً .. ها هو قد تسلّق ..

عادل: خذوا بالكم جيّداً .. خذوا بالكم من النقطة التي يبدأ عندها في التزحلّق ..

سامية : نعم .. نعم .. نفس النقطة .. ها هي .. ها هو قد انزلق ..

الدكتور: وسقط إلى موضعه من القاع ..

عادل: انظروا .. إنه ينهض من عثرته .. ويبدأ في التسلّق مرّةً أخرى ..

سامية: وسينزلق .. ها هو .. ها هو قد انزلق .. يا له من مسكين! .. إنه يفعل نفس الشيء منذ الصباح ..

عادل: وربما منذ الليْـل .. لأننا استيْقظنا فوجدناه في الحوْض.. لا بد إذن أنه سقط فيه من السقف أثناء الليل ..

سامية: عندي سؤالٌ يا "عادل" .. تسمح؟ ..

عادل: طبعاً يا "سامية" اسألي! ..

سامية: ألم تفكِّر في إنقاذه ممّا هو فيه؟! ..

عادل: إنقاذه؟! ..

سامية: نعم .. لماذا لا تنقذه؟! ..

عادل: هو ينقِذ نفسه ..

سامية: وكيف ينقِذ نفسه؟! .. إنه لن يستطيع أبداً .. إنه طول الوقت يحاول بدون فائدة .. لأن الحوض فارغ وأملس، ولا يوجد شيءٌ يتسلّق عليه غير الجدران الملساء التي ينزلق عليها ..

عادل: هو وشأنه ..

سامية: ساعِده على الأقل .. ساعِده بشیءٍ یا "عادل" .. اجعل طرف البشكير مثلاً يتدلّى داخل الحوض .. أو نأتي له بخيطٍ نُدلي به إليه .. أو أي شيءٍ آخر يساعده على الخروج ..

عادل: ولماذا نفعل ذلك؟ ..

سامية: لإخراجه .. لإخراجه حيّاً .. ألست تريد له النجاة؟ ..

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent