خبر
أخبار ملهلبة

"سفاح كرموز" | الفصل التاسع والأخير (2)


صور فوتوغرافية قديمة بالأبيض والأسود لسفاح كرموز سعد اسكندر مرتدياً بدلة الإعدام الحمراء في لقاء صحفي قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه

"سفاح كرموز" | الفصل التاسع والأخير (2)

 

 

وفي السابعة والنصف من نفس الصباح كان "سعد" - الذي زاد وزنه في السجن فبلغ 64 كيلوجراماً (كان يزن 58 عند القبض عليه) - يقف في زنزانته رقم 64 بالدور الثاني عنبر "ب" حيث كان يتأمّل من خلال النافذة العالية الضيّقة ذات القضبان أشعة الشمس الذهبيّة التي لن يراها بعد اليوم، وأخذ يعب صدره من ذلك الهواء البارد المنعش الذي لن يستنشقه بعد دقائق، وبينما هو كذلك فتح عليه باب الزنزانة الضابط المكلّف بإحضاره وقال له بغِلظة :

- ياللا يا "سعد".

ونزل الأمر على قلبه كالصاعقة فقد حانت ساعة الحسم، فسأل "سعد" الضابط في توسلٍ ورجاء :

- إيه خلاص؟ .. هوَّ انا مش ح ارجع الزنزانة تاني؟

ولم يرد الضابط علي سؤال "سعد" الذي كان يريد أن يتعلّق بقشّةٍ قد تنقذه من تنفيذ الإعدام، وارتدى "سعد" بابوجه (شبشبه) ورفع بنطاله وعدّل من هندامه وأحكم وضع طاقيته وهو يقول وكأنه غائبٌ عن الوعي:

- إنت عارف يا حضرة الظابط .. المفروض ما تعدمونيش .. إذا كنت انا قتلت ضحايا ما لهمش ذنب فأنا كمان ضحيّة وما ليش ذنب .. الذنب ذنب تلات ستّات .. همَّ اللي وصّلوني لهنا .. أمي اللي دلّعتني وبوّظتني بحجّة إنها كانت خايفة عليَّ ومش عايزة تزعّلني .. و"لواحظ" اللي فهّمتني إن كل الستّات زيّها وخلّتني آخد فكرة غلط عن كل البنات والنسوان .. و"تيريز" اللي رفضت حبّي وفضّلت عليَّ ابن عمّها ورجّعتني لسكّة الندامة من تاني .. يا ريت الزمن يرجع بيّ .. ما كنتش عملت اللي عملته .. وما كنتش مشيت مع أصحاب السوء .. بس خلاص .. العايط ف الفايت نُقصان عقل .. الكلام ده الوقت ما منهوش فايدة ولا عايدة .. ياللا بينا يا باشا.

وخرج "سعد" من زنزانته فوجد حارسيْن آخريْن في انتظاره ليقيّده أحدهما ثم يمسك كلٌ منهما بعضده ويسيرا بجانبيْه، واقترب من حجرة الإعدام شارداً واجماً فيما يبدو أنه غارقٌ فى تفكيرٍ عميق وربما ندمٍ شديد، وراح يسير ببطءٍ وكأنه يجر ساقيْه جراً وهما مربوطتان إلى أكياسٍ من الرمال، إلى أن وصل لقاعة تنفيذ الإعدام قبل الثامنة بعشر دقائق حيث أجلسه حرّاسه على مقعدٍ خشبي فجلس وهو يرتعش ناظراً لكل من حوله كأنه يستنجد بهم أن ينقذوه، وبدأ مأمور السجن في تلاوة منطوق الحكم بإعدامه الصادر من محكمة الجنايات ثم محكمتي الاستئناف والنقض بتأييد الحكم بالإعدام، وبدأ القَس "الناسيوس بطرس" في قراءة آياتٍ من إنجيله المقدّس:

- جاء في رسالة "بولس الرسول" الى اهل "رومية" : "لا تكونوا مديونين لأحدٍ بشيءٍ إلّا بأن يحب بعضكم بعضاً لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس، لأن "لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تشتهِ"، وإن كانت وصيّةً أخرى هي مجموعةٌ في هذه الكلمة: "ان تحب قريبك كنفسك"، المحبّة لا تصنع شراً للقريب، فالمحبّة هي تكميل الناموس".

وما إن سمع "سعد" هذه الآيات حتى نزلت عليه برداً وسلاماً فهدّأت من روعه و أراحت نفسيّته فبدأت تعود له ابتسامته العريضة وروحه المرحة، وهنا سأله مأمور السجن:

- نِفسك ف حاجة يا "سعد"؟

وبهدوءٍ شديد وبنفس الابتسامة قال "سعد":

- عايز اشرب كوباية ميّه .. وعايز سيجارة مكنة .. أو حتى نفسين بس.

ويوافق مأمور السجن بعد إذن ممثل النيابة العامة، ويعود ليسأل "سعد":

- معايا "بلمونت" .. تِنفع؟

ويرد "سعد" وهو ينظر إلى منصّة الإعدام حيث يتدلّى حبل المشنقة:

- أي حاجة.

ويمنحه المأمور سيجارةً من علبته ويأمر بإحضار كوبٍ من الماء، فيضع الحارس السيجارة بين شفتيْ "سعد" الذي كان مقيَّد اليديْن من الخلف، ثمّ يشعلها فيجذب "سعد" منها نَفَساً عميقاً ويكتمه في صدره طويلاً ثم ينفث دخانها في زفيره ببطء وكأنه يستمتع بمذاقها ثم يجذب النفس الثاني ويكرّر ما فعل وهو يسترجع شريط حياته القصيرة الذي كان يمر أمامه بسرعةٍ خاطفة، وهنا يصيح ممثل النيابة العامة:

- خلاص كفاية دخان على كده.

ويقرّب الحارس كوب الماء من فم "سعد" فيشربه عن آخره ولم يزل يشعر بجفاف حلقه، ثمّ يقوم في ثبات ويترك نفسه لجلاديه ليلفّوا حبل المشنقة حول عنقه ثمّ يغطوا رأسه بالقناع الأسود ويجذب أحدهم العصا القريبة من طبليّة الإعدام فتنفتح الأرض تحت قدميْ "سعد" ويسقط جثمانه على الفور ويتعلّق من رقبته في الهواء وهو يتأرجح بشدّة، ثمّ بدأ "سعد" يتنفّس بصعوبة وغامت الدنيا في عينيْه ثم أظلمت وهو يحاول جاهداً أن يظل على قيْد الحياة حتى غاب عن الوعي وبدأت بعض الرغاوى تتجمّع عند فمه ومنخاريْه وسال منه البول فبلّل سرواله، وما هي إلّا دقيقتين وخمس ثوانٍ تماماً حتى سرت في بدنه قشعريرة الموت فارتجف بشدّة ثمّ توقّف نبضه تماماً وصعدت روحه إلى بارئها لتنتظر دورها في الحساب يوم الهوْل العظيم.

وبعد الصلاة علي جثمان "سعد" سلّم القَس جثّته إلى سيّارة الإسعاف حيث كان في انتظاره شقيقه "مينا" وهو في قمّة الحزن على أخيه الذي رفض نصائحه الكثيرة وأبى إلّا أن يكون من الخاسرين، وطلب "مينا" نقل جثمان "سعد" إلى سيّارة نقل الموتى لينقله لمسقط رأسه "أبو تيج" ولكن طلبه قوبل بالرفض تطبيقاً للقانون الذي يُلزِم لجنة تنفيذ حكم الإعدام وإدارة السجن بعدم إقامة جنازةٍ للمحكوم عليه بالإعدام.

وفي أحد مكاتب السجن وقبل أن ينصرف مع جثّة أخيه - ليواريه نفس التراب الذي طالما هاله أخاه على جثث ضحاياه - تسلّم "مينا" الأحراز التي تخص السفّاح ومن بينها ملابسه وساعة يده التي ظلّت عقاربها تتحرّك رغم أن دقّات قلب صاحبها قد توقفت.

وفي اليوم التالي زفّت الصحف الخبر وعَمَّ الفرح جميع أنحاء "كرموز" وعاد "للأسكندرية" عروس البحر الأبيض المتوسّط أمانها وسكينتها ......... إلى حين.

 

 

(لم تتم بعد .. انتظاراً لظهور سفاحٍ جديد في "الأسكندريّة")

google-playkhamsatmostaqltradent