خبر
أخبار ملهلبة

العري والغضب (3) | الجريمة | نجيب محفوظ


لوحة فنية بالألوان لرجل عاري متجرد من ملابسه تماماً

العري والغضب (3)

 

 

وشـعـر بالعَجْز والقَهْـر والضياع اللانهائي، لن يرجع إلى مـا كـان عليه: ذلك الرجل المحترم، إنه يودّع حياةً يعرفها ليستقبلَ حياةً مجهولةً مُدَمِّرة، ولكنّه لا يريد أن يصدّق، لعله مزاحٌ ثقيلٌ سخيفٌ ليْس إلّا، ولكن الوقت يمر بلا مبالاة، وفجأة ضرب بيده على جبينه وهتف: "مكيدة .. إنها لمكيدةٌ مجرمة"، لا تقع هذه الأمور مصادفة، إن أيْدي خصومه تتراءى له وهى تدبّر بخبثٍ وإحكامٍ راميةً في النهاية إلى إفشال القضيّة، يتذكّر الآن أنه لَمَحَ المرأة في مَشْرَب الشاي (المقهى) قبل أن يغادره ليستقل الترام، وأنّها جاءت في أعقابه لتجلس أمامه، وسألته عن الساعة لتضبط ساعتها وفي الحقيقة لتلفت نظره إليها، وأنّها لم تكن ملاكاً كما تصـوّر – كيف تصـوّر ذلك – فقد فرجت بين ساقيْها العاريتيْن لحظةً ثم ضمّتهما بسرعةٍ وحياءٍ مُصْطَنَع فظنّها حركةً بريئةً طاهرة، ثم استسلمت لأحلامٍ مجهولةٍ في استرخاءٍ ناعم، فكان بوسعه أن يدرك حـقـيـقـتـهـا، ولكنّه ثمل بخيـاله الجامح ورغباته الدفينة فرأى ما لا وجود له وبنى عليه العلالي واندلق كغِرٍ أبله، لقد أحاطَ (عَرِفَ وعَلِمَ) خصومه بتحركّاته وأهوائه فرسموا خطةً محكمةً وأوْقعوه بسهولةٍ مـخـجلة ثـم تـركـوه عارياً في مسكـنٍ مـجـهـول لـيـتـوقّـع قـدراً مجهولاً، وبمقتضى ذلك المنطق السليم القاسي فعليه أن ينتظر ضربةً قاضيةً في المصيدة، ما العمل؟ .. كيف يفر قبل أن يدهـمـه الخطر؟، وجال (تجوّل) في المسكن مرّةً ومرّة بلا جدوى على الإطلاق، ليْس إغلاق الباب بمشكلة فبوسعه أن يقفز من النافذة ولكن كيف يواجه الطريق عارياً؟، هذه هي المشكلة، وأدرك أن خلو السرير من الغطاء والملاءة لم يكن عن فقرٍ أو مصادفة ولكنه ضِمْن الخطّة التي رسمت لحرمانه من أي شيء يستـر به جـسـده، وقف وراء النافذة ينظر من خصاصها (ثقب أو فرجة بالنافذة) إلى الطريق المضيء الذي لا يخلو لحظةً من عابر، كيف يمكنه أن يمضى فيه عارياً؟ وماذا يفعل عندما يبلغ الشوارع المزدحمة بفرض أن أمكن عبور هذا الشارع دون حادث؟!، وسواء أبقى أم انطلق متخطياً حدود العقل فـسـوف يقع تحت طائلة إحـدى تهمتيْن خطيرتيْن: السطو أو الجنون، وكِلتاهما خليقتان بزلزلة أركان القضية، فما العمل؟، ولم يشعر في وقتٍ مضى بما يشعر به الآن بالحاجة الماسّة إلى مشاورة محاميه لعلّه يهديه إلى منفذٍ في عالم القوانين المتشعّب الذي يجهله كُل الجهل، قال له ذات مرة:

-       احرِص على الجديّة والاستقامة فإن أي هفوةٍ ماسّةٍ بسُمعتك ستبدّد مجهودي هباء.

فسأله ضاحكاً:

-       أتطالبني بالتقشّف حَتّى يصدر الحكم؟

-       ولِـمَ لا؟

-       ومتى تراه يصدر في تقديرك؟

-       آسف على أنك لا تحـتـرم الـتـقـشّف وبـخـاصـةٍ في ظروفك الراهنة التعيسة.

واشتعل غضبا فهَمَّ بتعنيف الرجل، أكثر من مرّةٍ هَمَّ بتعنيفه ولكنّه كـان يتـذكّـر أنه لم يدفع له مليـمـاً واحـداً سـوى رسـوم الـتـوكـيل، وأن الأتعاب مؤجلةٌ ومنوطةٌ بكَسْب القضيّة، فيرجع إلى عقله ويكظم غيْظه ويسكت، والحق أنه لا يحب التقشّف، بل أنه يضيق بمحاميه لتقشّفه المعروف عنه، وأي قيمةٍ للحياة بلا طعمٍ لذيذٍ وشرابٍ هنىءٍ وعِناقٍ حارٍ ومقامٍ وثير؟!، ذلك جميلٌ حقّاً ولكن تحت شرط ألا يجد نفسه عارياً في بیْتٍ غریبٍ متوقِّعاً بيْن لحظةٍ وأخرى أن تدهمه ضربةٌ قاضية، وتساءل عَمّا يُراد به: هل يتركونه حَتّى يضطرّه الجوع إلى الخروج؟، هل يجيئون ليخيّروه بين التنازل عن القـضـيـّة وبين استدعاء الشرطة لضبطه بالحال التي هو عليها؟، هذا أو ذاك أو غيْرهما من الاحتمالات، كُلّها طريقٌ واحدةٌ تُفضي إلى الضياع، وغلى دمه، كل شيءٍ مُحْتَمَلٍ إلّا تخيُّل ابتسامة الشماتة فوق شواربهم الغليظة، وسمع صوْتاً فهُرِع إلى النافذة فرأى سيارةً تقف أمام البيْت، "كما توقعت قد جاءوا"، واندفع دمه في الغليان، ومن شِدَة الـقَـْهـر جـنَّ غـضـبـه، واكتسح الغضبُ الخوْفَ فلم تبقَ في صدره إلّا ألسِنَتِه المشتعلة، كان لعبةً بأيديهم طيلة الوقت ولكنّه رفض أن يستمرَّ لعبة وأضاء المصباح فتبدّى عارياً ، متجرّداً من الخجل والخوْف، ها هي الحركة تدبُّ خارج الحـجـرة، ستطالعه نظراتٌ باردة وبسماتٌ ساخرة فليبتسم وليسخر مثلهم، سيقول مقدّمهم وهو يصطنع دهشةً مقيتة:

-       ماذا نرى؟

فيقول بهدوءٍ تام:

-       طال انتظاری لکم.

-       هكذا عارياً!

-       كما ترون.

وليكن ما يكون ولكن اللعبة لن تستمر، واقتربت الأقدام ثقيلةً وتطايرت الضحكات، وانتظر ينظر في هدوءٍ وتصميمٍ وعناد .. غير مبالٍ بالعواقب.

 

 

(تمّت ..... ولكن هناك تعقيبٌ هام من "ابن أبي صادق" بالأسفل)

تعقيبٌ واجب:

تتعمّق هذه القصّة القصيرة في أغوار النفس البشرية من ناحية أمريْن:  

o     كيف تتغلّب شهوات الإنسان ذو الإرادة الخائرة الرخوة (عندما أثارت الفتاة غريزة بطل القصّة) على مصلحته (القضيّة) فتجعله ينسى أن ينتهج التفكير السليم ويتجاهل نداء عقله ويستجيب لرغباته الحسيّة ويغيّر طريقه القويم (يلغي مقابلته للمحامي) ويسير في طريق الشيْطان (يسير وراء الفتاة اللعوب) لينتهي به الحال إلى الندم والحسرة ويخسر أهم أهدافه وأحلامه (عندما يجد نفسه عارياً في منزلٍ غريب ويفوته موعد المحامي ويصبح عُرضةً لخسارة القضيّة) في سبيل نزوةٍ عابرةٍ  لا تدوم.

o     كيف يميل الإنسان الضعيف بطبعه إلى عدم المواجهة ويستكين إلى انتهاج السبل الأقل خسائر والأكثر أماناً في حل المشاكل التي تقابله (يلجأ إلى رفع قضيّة بالمحكمة بدلاً من مواجهة خصومه وجهاً لوجه كما كان يفعل أجداده) إلّا عندما يفقد كل الوسائل المتاحة (عندما يصبح عارياً) لحل تلك المشاكل فيضطر وقتها مكرهاً على التصدّي لها بكل قواه المتاحة دون اكتراثٍ للخسائر التي قد تلحق به.  

ولك يا صديقي القارئ أن تُكَيّف الأحداث والحوار بناءً على هذا الترميز وتستخرج بنفسك المعاني والأهداف التي استهدفها ورمى لها المؤلّف من وراء هذه القصّة ومن بين سطورها.

google-playkhamsatmostaqltradent