خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (14) مسكن "هي"


أطلال مدينة أثرية قديمة كما تبدو من الجو

(14) مسكن "هي"

 

 

اجتزنا منطقة المستنقعات قبل غروب الشـمس بساعة، ثم شرعنا نعبر أرضاً كانت ترتفع بالتدريج، حتى إذا جَنَّ الليْل قرَّرنا المبيت في عرض الطريق، وقد أردت الاطمئنان على صحة "ليو"، ولكني للاسف وجدته أسوأ حالاً من الصباح، وحالته تدعو إلى القلق الشديد، وقد استمر يقيء حتى الصباح.

ولم أذُق طعم النوْم تلك الليْلة، فقد سهرت لتمريض "ليو"، وساعدتني في ذلك "أوستین" التي أثبتت أنها مُمرِّضةٌ لا تعرف الكلل أو الملل، وأخيراً طلع الفجر، وكانت حالة "ليو" قد وصلت إلى طوْرٍ خطير، فانتابني الهَم واستحوذ عليَّ القلق والخوْف خشية أن تسوء العُقبي.

وإذ كنت غارقاً في هواجسي جاءني "بلال"، وقال أنه ينبغي أن نستأنف السيْر من فوْرنا کي نصل إلى مكانٍ يستطيع "ليو" أن يجد فيه الراحة التامّـة والتمريض الصحيح قبل أن تنصرم اثنتا عشرة ساعةً أُخـرى وإلّا قضى الشاب نَحبه بعد يوْمٍ أو اثنيْن على الأكثر، فأذعنت مُكرَهاً، وحملنا "ليو" إلى هوْدجه واستأنفنا السيْر، وكانت "أوستين" تسير بجانبه کي تطرد الذباب عن وجهه وتراقبه كي لا يسقط من الهوْدج.

وقبل غروب الشمس بنصف ساعةٍ وصلنا إلى قِـمَّة الطريق، فتجلَّى لناظريْنا منظرٌ طبيعيٌّ يأخـذ بالألباب، فقد كانت تمتد تحتنا أرضٌ مُنبَسِطةٌ سُندسيّةٌ تٌغطِّيها زهورٌ ورياحينٌ ذات أريجٍ عاطر، ثم شاهدنا على بُعد ثمانية عشر ميلاً تقريباً جبلاً هائلاً يرتفع من السهل، قاعدته عبارةٌ عن مُنحدَرٍ نبتت فوقه الحشائش، ويعلو هذا المٌنحدَر سورٌ حجريٌ ارتفاعه نحو ألفٍ وخمسمائة قدم.

تولَّتني الدهشة والعجب ممّا أرى، وسرعان ما اقترب "بلالٌ" مني بهوْدجه، وقال:

-       انظر على منزل "هي" التي يجب أن تُطاع .. هل من ملكةٍ تمتَّعت بعرشٍ كهذا من قبل؟

-       إنه منظرٌ جميلٌ يا أبي .. لكن هل يمكن الوصول إلى هذا المنزل؟ .. إن هذه الأكام متعذِّرة التسلُّق.

-       ستری أیّها البابون .. انظر إلى الطريق الذي تحتنا .. ماذا تظن؟ .. إنك رجلٌ حكيم .. تعالَ وحدِّثني .. ماذا ترى؟

فنظرت ورأيْت خطّاً يمتد إلى الأمام إلى أن يصل إلى قاعدة الجبل مباشرةً ولكنه مُغطَّى بالحشائش، قلت:

-       أظن یا أبي أنه طريق .. ولو أنني أُرجِّـح أنه مجرى نهرٍ أو تُرعة

-       صدقت يا بُني .. إنه مجری حَفَرَه الذين عاشوا من قبلنا هنا لتصريف المياه في بُحيْرةٍ عظيمةٍ بقيت إلى إيّامهم .. فلمّا جَفَّت البُحيْرة أنشأ الرجال الذين حدَّثتك عنهم مدينةَ عظيمةً فوْقها أطلقوا عليها اسم "خور" .. ولكن لم يبقَ منها الآن سوى أطلالها البالية .. ثم أخذوا ينحتون في الجبال بيوتاً وممراتٍ سنراها في فرصـةٍ أُخرى.

-       قد يكون ذلك .. ولكن أليس هناك طريقٌ آخر يؤدِّي إلى الجبل الكبير غير طريق البُحيْرة الذي نسلكه؟

-       هناك طريقٌ آخر تجتازه الخِراف والرجال المُشاة بمشقَّةٍ عظيمة .. ولكنه طريقٌ سِرّي لا يمكن لشخصٍ يجهله أن يعثر عليه .. ولا يُستَخدَم هذا الطريق إلّا مرّةً في كل عام وذلك عندما تسلكه قطعان الأغنام الى الداخل بعد أن تقضي عامها في المرعى فوْق منحدرات الجبل.

-       وهل تعيش "هي" هُناك أبداً؟ .. أو هل تخرج أحياناً وتختار منطقة الجبل؟

-       لا يا بُني .. إنها لا تغادر مكانها أبداً.

وقبل غروب الشمس بساعتيْن وصلنا إلى قاعـدة الجبل الهائل، ثم واصلنا السيْر فوق المنحدر الصخرى، ولم نلبث أن بدأنا في اجتياز طريقٍ نُحِتَ في الصخر ومُمتَدٍّ طويلاً إلى الداخل، وشد ما عجبت لتلك الأيْدى التي استُخدِمَت في تعبيد هذا الطريق، وتساءلت: كم من آلاف السنين انقضت حتى تم نحته وإعداده دون أن تُستَخدَم فيه موادٌ مُفرقِعةٌ كالديناميت وغيره.

وأخيرا بلغنا الربوة، فألفيْنا أنفسنا على باب نفقٍ مُظلِمٍ يخرج منه مجرى ماء، وكان النفق مُنقسِماً إلى قِسميْن: أحدهما لجريان الماء والآخر لسيْر الناس على الأقدام، وكان الثاني يرتفع عن الأوّل نحو ثمانية اقدام.

وكف الرجال عن السيْر عند باب النفق، وإذ كان بعضهم مُنهَمِكاً في إضاءة مصابيح الخزف هبط "بلالٌ" من هوْدجه، ثم تقدَّم نحوي وقال بأدب أن "هي" - التي يجب أن تُطاع - أمرت بأن تُعصَب عيوننا كيلا نعرف سِر الطُرُق المنحوتة في الجبال، فلم اعترض، وعندئذ عصبوا أعيُننا - أنا و"جوب" و"أوستين" - وأمّا "ليو" فكان فاقد الشعور فلم تكن بهم من حاجةٍ لعصب عيْنيْه، واستأنفنا السيْر مباشرةً.

ولم تمضِ فترةٌ وجيزةٌ حتى أدركت من صدى وقع الأقدام وخرير الماء - وهو ينحدر - أننا نسير في بطن الجبل، ولكن سرعـان ما استحال الهواء الساكن إلى تيّارٍ قوي استمر حتى انحدر الرجال بنا إلى مُنعَطَفٍ جديدٍ فسكن الهواء ثانيةً، وهكذا دواليك، حتى استحال عليَّ أن أتصوّر شكل الطريق في ذِهني، إذ كنت أُؤمِّل أن تُتاح لنا ذات يوْمٍ فرصة الهرب والنجاة.

ومضت ساعةٌ أُخرى ثم خرجنا إلى الهواء الطَلْق، إذ اخترق الضوْء العِصابة التي فوْق عيْني، ولم تنقضِ بضع دقائقٍ أُخرى حتى كَفَّ الرجال عن السيْر، وسمعت "بلالاً" يأمرنا برفع الحجاب عن أعيُننا، ففعلت، وأدرت الطرف فيما حوْلي، فألفيْتُنا قد اجتزنا الربوة ووصلنا إلى طرفها الآخر.

كنا في صحنٍ واسعٍ تحيطه الصخور من كل ناحيـةٍ تبلغ مساحته عشرة أمثال ذلك الذي تعيش فيه قبيلة "بلال"، وكانت في منتصف المكان تقريباً آثارٌ عتيقة، ولكنني لم أُلقِ إليها بالي، إذ لم ألبث أن وجدت نفسي بین جمهورٍ كبيرٍ من "أُمّة حجر"، لا يفترقون في شيءٍ عن إخوانهم الذين مَرَّ ذِكرهم في قبيلة "بلال".

وما هي إلّا هُنيْهـةٌ حتى رأيت جماعـةً من الرجال المُسلَّحين يُهروِلون نحونا يقودهم ضباطُ ويحملون في أيْديهم عصيّاً قصيرةً من العاج، وكانوا قد خرجوا من الأَكَمَة (مكانٍ مرتفعٍ) المحيطة بالمكان، وجميعهم يرتدون ثياباً تحت جلد الفهد الذي شُـدَّ إلى وسطهم، وهمس "بلال":

-       هم حرس "هي" الخاص.

وتقدَّم قائد القوّة من "بلال" وحيّاه بوضع عصاه العاجيّة أُفًقيّةً على جبهته، ثم ألقى عليه بضعة أسئلةٍ لم تبلغ أُذني، فأجابه "بلالٌ" عليها بإيجاز، وعندئذٍ سار الجنود على جانب الأَكَمة يتبعهم الحـمّالون، حتى إذا قطع الرَكْب نصف ميلٍ توقَّفنا ثانيةً عن السيْر أمام مدخل كهفٍ كبيرٍ ارتفاعه نحو السِتّين قدماً وعرضه حوالي الثمانين.

هبط "بلال" من هوْدجه، وأشار إليَّ وإلى "جوب" بأن نتبعه، وأمّا "ليو" فكان عاجزاً عن الحركة.

تبعنا الشيخ "بلال" ودخلنا الكهف العظيم، وكانت أشعة الشمس تتخلَّله إلى مسافةٍ بعيدةٍ بداخله، وأما جوْفه فكانت تُضيئه مصابيح تمتد إلى مسافةٍ لا نهاية لها، وكانت الجُدران منقوشةً برسومٍ جميلةٍ تُمثِّـل الحب والصيْد والقتل وتعذيب المُذنِبين بالقِدْر المُحمّاة إلى غير ذلك من النقوش التي لا تشير إلى الحروب والمعارك ممّا دلَّني على أن هذا الشعب يعيش مُنعزِلاً عن العالم.

لم يتعدَّ رجال الحرس مدخل الكهف وإنما اصطفّوا على جانبيْه، ولم نكد نسير فيه بضـع خطـواتٍ حتى التقيْنا برجلٍ يرتدي ثوْباً أبيض حيّانا بإحناء رأسه ولكنه لم يقُل شيئاً، وقد علمنا فيما بعد أنه أخرسٌ أصم.

وقد وقع بصرنا على بُعد عشرين قدماً من مدخل الكهف الرئيسي على كهفٍ صغيرٍ أو دهليزٍ واسعٍ يخترق الصخر إلى اليمين واليسار، وكان أمام الدهليز الأيْمن رجلان من الحرس، فتبادر إلى ذِهني أن هذا الدهليز هو الطريق المُؤدِّي إلى الغُرَف التي تقطن فيها "هي".

وأمّا مدخل الدهليز الثاني فلم يكن محفوراً، وقد أشار إلينا الأبكم أن نتبعه إلى داخله ففعلنا، وكان الدهليز مضاءً بالمصابيح، إلى أن وصلنا إلى مدخل غرفةٍ أُسدِل عليه ستارٌ مصنوعٌ من مادَّةٍ تُشبِه الحشائش الطويلة، أزاح الأبكم هذا الستار، وأحنى رأسه مرّةً أُخرى، ثم تقدَّمنا إلى غرفةٍ متوسِّطة الحجم نُحِتَت في الصخر ولكنها تُضاء بواسطة كُوّاتٍ (فتحاتٍ أو ثغراتٍ) صغيرةٍ تُطِل على الخارج، وكان أثاثها عبارةً عن سريرٍ من الحجر وأوعيـةٍ من الماء للاغتسال وجلودٍ مدبوغةٍ من جلد الفهد للغطاء.

تركنا "ليو" - وكان لا يزال فاقد الوعى - في هـذه الغرفة، وتركنا "أوستين" معه لتعتني به، ثم تبعنا الأبكم إلى غُرفةٍ أُخرى مماثلةٍ نزل فيها "جوب"، وبعدئذٍ انطلقنا إلى غُرفتيْن أُخرييْن: أُعِدَت إحداهما لي والأُخرى لـ"بلال".

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent