خبر
أخبار ملهلبة

الفصل الثالث | للحب آلهةٌ كثيرة (3)


رجل وسيدة يجلسان إلى أحد المناضد بمطعم أو كافيه

الفصل الثالث (3)

 

 

وفي الظهيرة آب "كريم" للمستشفى وتابع حالاته هناك ثمّ تفرّغ لحالته الأخيرة والأهم: "عبير" التي انجذب ناحيتها دون أن يدري أهي شفقةٌ زائدة أم اهتمامٌ إضافي أم ماذا؟، وحاول أن يهرب من مواجهة نفسه واستعذب هذا الشعور الجديد ناحية مريضته، وعندما دخل عليها وجدها منهكة من أثر عمليّة الغسيل الكلوي فكشف عليها واطمأن بنفسه وأخذ في مجاذبتها أطراف الحديث :

- اتجدعني كده .. معلهش أول جلستين تلاتة بيبقوا مُتعِبين شويّة .. بعد كده ح تتعوّدي لغاية ما ربنا ياخد بيدِّك إن شاء الله.

- البركة فيك يا دكتور .. بس كنت عايزة من حضرتك خِدمة.

- أأمري.

- الله يكرمك .. كنت عايزة حضرتك تتصل بزميلتي .. أصلي نسيت المحمول ف البيت .. نمرتها ف الوزارة أهِه .. علشان تعدّي عليَّ ادّيها مفتاح الشقّة تاخد منها ملفّات الشُغل اللي كنت باخلّصها ف البيت .. وبالمرّة تاخد لي أجازة مرضيّة.

- وعلى إيه نتعبها .. هاتي مفتاح الشقّة وقولي لي الاقي الملفّات فين وانا اخدها واروح وزارة الخارجيّة .. وادّيهم شهادة مرضيّة م المستشفى هنا علشان الأجازة .. واجيب لِك الموبايل بالمرّة.

- بس كده كتير .. حضرتك مش فاضي للكلام ده.

- ولا يهمِّك .. النهار ده الخميس .. ما عنديش عيادة .. وبعدين انا عارف عنوان البيت.

- مش عارفة اقول لحضرتك إيه .. كُلّك ذوق واللهِ.

وذهب "كريم" إلى منزل "عبير" ولم يستطع أن يمنع نفسه من التجوّل داخل المنزل ليُشبع إحساسه المتنامي بالتطفّل حول كل ما يتعلّق بمريضته الحسناء، فتطلّع على الصور المعلّقة على الحوائط وشاهد ألبومات الصور التي كانت موجودة على المكتب بجانب الملفّات ثمّ دخل غرفة نوم مريضته المقرّبة ليُحضِر هاتفها المحمول فاستلقى على السرير قليلاً كأنه يريد أن يجرّب نعومته، وقبل أن يغادر الغرفة اختلس النظر نحو المشجب الذي يحمل ملابسها ثمّ اقترب ليشتمّ رداءً أنيقاً منها وأغمض عيْنيْه في إعجابٍ برائحتها الزكيّة وتمثّلت "عبير" في خياله، ولكنه سرعان ما أفاق على صوت ضميره يوبّخه فلام نفسه على طاعته لنزوته الخرقاء مذكّراً إيّاها بأنه رجلٌ متزوّج ولا ينبغي له أن ينجرف وراء أهوائه.

وانقضت الأيّام سريعاً ولم يتخلَ "كريم" عن لقاء "عبير" يوميّاً مرةً أو مرّتيْن يؤدّي واجبه الطبّي ناحيتها سريعاً ثمّ يتفرّغ للحديث معها الذي أصبح يجتذبه كثيراً واعتاد أن يقضي فيه أوقاتاً طويلة دون أن يدري حتى تآلفت روْحاهما وصارا يجدان الراحة والمتعة في الجلوس سويّاً يحكيان عن نفسهيْما وكأنهما يتعارفان استعداداً لعلاقةٍ طويلة لا يعرفان حدودها ومداها ولا يدريان كيف ستنتهي، فقط ترك كل واحدٍ منهما نفسه تنساق وراء المشاعر التي جمعتهما ونسيا ما قد يعوقها من حواجزٍ بينهما، فلم تتذكّر "عبير" أن طبيبها زوْجٌ وأبٌ لطفليْن وهي في خضم إحتياجها الشديد لحبٍ يملأ عليها حياتها الجافّة ويعوّضها عن تجربتها الفاشلة مع زوجها السابق، ولم يتذكّر "كريم" سوى أنه في أشد العَوَز لحنان إمرأة تهتم به وتُرضي كبرياءه وهو يمر بأزمة منتصف العمر التي يريد أن يثبت لنفسه فيها أنه ما زال مرغوباً ولم يشيخ بعد.

وتعاقبت الأيّام والشهور وتعافت "عبير" كثيراً من مرضها بفضل متابعة "كريم" لها في المستشفى أو في عيادته أو في منزلها إذا استدعت حالتها الصحيّة، ولم تقتصر مقابلاتهما على اللقاء كطبيبٍ ومريضة بل أصبحا يتلاقيان في النادي الاجتماعي الذي يشتركان فيه دون خوْفٍ من أحد قد يشاهدهما فيظن بهما الظنون، وتمادى كلٌ منهما في أحاسيسه حتى صارت حبّاً مدلّهاً لم يستطِع أحدهما التصريح به كما لا يستطيع أحدهما الفكاك منه؛ بل صارا يتقابلان وقد نما شعورهما بالعشق والغرام واضمحل إحساسهما بالذنب تجاه هذا الحب الذي قد يهدم مستقبل أسرةٍ بأكملها، وبدأت "عبير" في التفكير بتطبيق هذا الحب عمليّاً فصمّمت على وضع هذه العلاقة في إطارها الصحيح عند أقرب مقابلةٍ لها مع "كريم" في النادي حيث دار بينهما الحوار الآتي :

- باقول لك إيه يا "كريم" .. إنت ناوي على إيه؟

- ف إيه؟

- ف علاقتنا ببعض.

- ما لها؟

- بُص يا "كريم" .. أنا عارفة إنك إنسان خجول .. وعلشان كده أنا ح اقصّر عليك المسافة واوفّر عليك التردّد .. وح اخد انا زمام المبادرة رغم إن انا صعيديّة .. يا سيدي أنا .. أنا .. أنا باحبّك قوي .. وعارفة إنك كمان بتحبّني .. وعارفة إننا مستعدّين نحارب الدنيا كلّها علشان حبّنا ده .. وإننا ممكن نقف ف وِش الـ........

وأثناء استرسال "عبير" في كلامها لمح "كريم" إحدى زميلات زوجته في العمل وقد شاهدته مع "عبير" فأيقن أنها لابد أن تُبلِغ "بسمة" بما رأت، ويبدو أن هذا الموقف كان بمثابة جرس إنذار أفاق "كريم" من نزوته الماجنة فتذكّر أخيراً كيف يكون الحال إذا عرفت "بسمة" بخيانته لها وعلاقته مع "عبير" وتذكّر مصير ولديْه إذا طلبت زوجته الانفصال ثمّ تذكّر فوق ذلك كلّه موْقف زوجته منه أثناء مرضه وشلله طوال عامٍ أو يزيد وشعر أخيراً بالنذالة والخسّة وتعجّب كيف قابل تضحيات زوجته وهو عاجز بغدره وغشّه لها وهو قادر، وتضاءل حجمه كثيراً في نظر نفسه إلّا أنه استفاق فجأة من نومه المغناطيسي الذي استغرق فيه عندما صاحت فيه "عبير" بعد أن أنهت كلامها :

- إيه يا كريم"؟ .. هوووه.

- هه؟

- انت سرحت ف إيه؟

- ولا حاجة .. ولا حاجة.

- طب إيه رأيك؟

- ف إيه؟

- ف إيه! .. بقى انا باقول لك باحبّك ولازم نتجوّز وانت تقول لي ف إيه!

- معلهش يا "عبير" أصلي فوجئت بكلامِك ده .. أنا كنت فاكر إن اللي بيننا ده مجرّد صداقة.

- صداقة!

- آآآ .. طبعاً .. إنتي عارفة إني راجل متجوّز وما اقدرش احب واحدة غير مراتي .. وكمان ما اقدرش اكون متجوّز غير أم أولادي .. ده غير وضعي كطبيب اللي بيحرّم عليَّ إني استغل وضع المرضى بتوعي ف علاقات شخصيّة .. ما هو......

- بس بس .. أنا الظاهر إني كنت غلطانة لمّا صارحتك بحبّي .. والظاهر كمان إني كنت مخدوعة ف شخص كدّاب بيلعب بمشاعر الناس زيّك .. وعايز يتسلّى وبس.

وهبّت "عبير" واقفةً وقد احتقنت الدماء في وجهها مجاهدةً أن تمنع نفسها من البكاء وانصرفت في هدوء تاركةً "كريم" وهو في صراعٍ رهيب بين وفائه "لبسمة" وإخلاصه لها وبين صدمته "لعبير" وتخلّيه عنها.

وانصرمت الأيّام وحاول "كريم" أن يصل إلى "عبير" ليشرح لها وجهة نظره ويعتذر لها عن موقفه منها فالإحساس بالذنب تجاهها لا يبرح تفكيره خاصةً وهي على هذه الحالة من الضعف والمرض، فساءه أن يكون سبّباً إضافيّاً لحزنها وألمها ممّا قد يُضعِف من مناعتها ومقاومتها للمرض، ولكن "عبير" لم تعطه الفرصة للدفاع عن نفسه أو حتى مهاتفتها بعد أن تجاهلت الرد على مكالماته وانزوت تلعق جراح حبّها وتضيفها إلى جراح مرضها العضال، أمّا "بسمة" فقد عرفت من زميلتها بما رأته في النادي فواجهته وسألته عن سر تغيّره في الفترة الماضية وقضائه أوقاتاً طويلة خارج المنزل وسألته عن تلك المرأة التي كان يجالسها في النادي ففسّر لها ذلك بأنها إحدى المريضات اللاتي يعالجهن في عيادته وقد كانت تستشيره في مرضها عندما رأته يتريّض في النادي وأن سلوكه لم يتغيّر بل هي (بسمة) التي ابتعدت عنه ولم تعد كما كانت، وآثرت "بسمة" أن تدفن شكوكها وتوئد ظنونها خصوصاً بعد أن عاد زوجها لسابق عهده وأصبح يتردّد فقط بين المنزل والعيادة والمستشفى وأهمل الذهاب للنادي تماماً، وحاولت أن تُصلِح من شأنها معه وتُزيد من اهتمامها به وتوليه قدراً أكبر من حنانها المفقود فاستقالت من عملها الصباحي بوزارة الصحّة وقللت من فترة عملها المسائي بعيادتها وتنازلت لمساعدها عن حالات الولادة فأصبح لديها الوقت الكافي لتقضيه مع زوجها وتتفرّغ لتلبية طلباته فانصلحت أحوالهما وعاد الحب يرفرف على أسرتهما من جديد وكأن الله قد سخّر "عبير" لتكون سبباً في تآلفهما مرةً أخرى.

google-playkhamsatmostaqltradent