خبر
أخبار ملهلبة

الحجرة رقم 12 (2) | الجريمة | نجيب محفوظ

 

زحام من البشر في مكان ضيق

الحجرة رقم 12 (2)

 

 

وجاء زوّارٌ جُدُد، جاءوا متفرّقين ولكن تباعاً، صاحب معرض أثاث وبقّال وقصّاب وصاحب محل عطور وأدوات زينة وموظّفٌ كبيرٌ بمصلحة الضرائب ورئيس مؤسّسة وصحفيٌ معروفُ وتاجر جملةٍ للأسماك وسمسار شُقق مفروشة ووكيل شخصيّةٍ عربيّةٍ من أصحاب الملايين، وظن المدير أن المرأة ستنقل الاجتماع إلى الاستراحة ولكنها أشارت بالسماح لهم بالصعود فصعدوا واحدا في أثر واحد، وحُمِلَت كراسٍ جديدةٌ ومضى الفرّاشون بالشاي، وتساءل المدير تُری کیف يجلس الزائرون، هل يربطهم تعارفٌ سابق؟، وماذا جمعهم على وجه التحديد؟، واستدعی شیخ الفرّاشين وسأله عن ذلك فأجاب الرجل:

-       لا علم لي بالداخل .. الأيدي تتسلّم الكراسي والشاي من زاوية الباب ثم تغلقه فوراً.

فهز الرجل منکبيْه وقال لنفسه إنهم ما داموا لا يشتكون فلا مسئولية عليه، وإذا بـ"سيّد الأعمى" الحانوتى يُقْبِل نحوه فيقول:

-       أرجو أن تذكّر الهانم بأني في الانتظار.

فقال المدير بجفاء:

-       وعدَت بأن تستدعيك في الوقت المناسب.

ولم يتحرّك الرجل فتلفن للمرأة ليتخلّص منه ثم ناوله التليفون بناءً على رغبتها فيما بدا، فقال "سيد الأعمى":

-       یاست هانم العصر فات ونهار الشتاء قصير.

وأصغي إلى السمّاعة مليّاً ثم أعادها ورجع إلى الاستراحة غير مرتاح، والمدير يلعنه من صميم قلبه، ويحمّل المرأة مسئوليّة استدعائه إلى الفندق، ويرمق باب الاستراحة بنفور وتقزز، ونزل بعض النزلاء في طريقهم إلى الخارج، فأبدوا للمدير ملاحظات عن الحجرة (۱۲) المقلقة للراحة فقال الرجل معتذراً:

-       يوجد بها زوّار وسيذهبون عاجلاً أو آجلاً .. لن يبقى أحدٌ منهم في الليْل.

بات يخشى أن تدفعه مسئوليّته إلى الصدام معهم وهم من الصفوَة القوية، وضاعف من كآبته صفير الرياح في الخارج وروح الأسى التي تغشى الطريق، ورغم ذلك تراءى عند مدخل الفندق جماعةٌ من الرجال والنساء، أقبلوا نحوه في معاطفهم فغاص قلبه في صدره، وبادرهم وهو لا يدري:

-       "بهيجة" هانم "الذهبي"؟

فضحك أحدهم وقال:

-       أبلغها من فضلك أن مندوبي جمعيّة إحياء التراث قد جاءوا.

واتصل المدير بالمرأة فلما طلبت السماح لهم قال لها:

-       عددهم عشرة يا هانم وتحت أمرك في الدور الأرضي استراحةٌ تتّسع لأي عدد.

-       ولكن في الحجرة متسعاً.

وصعد المندوبون والمندوبات والرجل يهز رأسه في حيرة، سيقع الصدام عاجلاً أو آجلاً، سيتفجّر غضب السماء في الخارج، سيتمخّض ذلك التكتّل الشاذ في الحجرة (۱۲) عن شيءٍ غير سار، وحانت منه التفاتةٌ نحو الاستراحة فرأى "سيد الأعمى" يزحف نحوه فنقر بأصابعه على سطح الطاولة بعصبيّة، أوصله بالمرأة قبل أن يفتح فاه، سمع شكواه ثم سمع إذعانه، وترکه يعيد السمّاعة بنفسه، ولكن الرجل قال له وهو يهم بالذهاب:

-       الانتظار بلا عمل مملٌ جداً.

فغضب المدير، وكاد يوبّخه لوْلا أن المرأة اتّصلت به طالبةً إيصالها بالمطعم، واستمرّت المكالمة دقائق قبل أن تنقطع، وتساءل هل يبقون حتّى العشاء؟، وأين يتناولون عشاءهم، كم يود أن يعاين الحجرة بحالتها الراهنة، إنه منظرٌ يفوق الخيال، منظرٌ جنوني بلا أدنی ریْب.

ولم يقف الطوفان عند حد فجاء نفرٌ من أساتذة الجامعة ورجال الدين، أمست المناقشة عقيمة، تركهم يصعدون، بدا الأمر مزاحاً کابوسیّاً، وجاء رجلٌ غامضٌ فصعد دون أن يمر به وقد ناداه فلم يلتفت إليه، وتبعه فرّاشٌ ولكنه توقّف عندما رآه يدخل الحجرة (۱۲) وشعر المدير بأنه وحيد وبأنه يفقد سيطرته القانونيّة على المكان، وبأن شيطان الأحلام البهيميّة يطرق بابه بعنف، وفكّر بأن يشاور شیخ الفرّاشين ولكن ظهر له رجلٌ ما إن رآه حتى تشهّد في ارتياح، تصافحا وهو يقول للقادم:

-       جئت في وقتك يا حضرة المخبر.

فقال المخبر بهدوء:

-       أطلعني على السجل.

-       تحدث أمورٌ غريبةٌ هنا.

راح الرجل يراجع بعناية الأسماء ويدوّن بعض الملاحظات فقال المدير:

-       أراهن على أنك جئت من أجل الحجرة (۱۲).

-       هه؟

-       الأمور تجري في شذوذٍ جنوني.

-       كل ما يقع ضمن الطبيعة فهو طبیعی.

 ثم غادره وهو يقول:

-       إذا طلبنى التليفون فإني في الحجرة (۱۲).

ذُهِل المدير، ولكنه اطمأن نوعاً ما في الوقت نفسه، فما يحدث إنما يحدث بعلم الحكومة وتحت سمعها وبصرها، وتذكّر أنه فكّر بمشاورة شيْخ الفرّاشين، وهَمَّ بالضغط على الجرس عندما رأى "سيّد الأعمى" زاحفاً نحوه ففقد أعصابه وصاح به:

-       قالت لك أن تنتظر حتى تستدعيك.

فابتسم الرجل بخنوع المعتاد للانتظار وقال:

-       ولكن الانتظار قد طال.

-       انتظر بلا مناقشة وتذكّر أنك في فندقٍ لا قرافة.

فرجع الرجل متصبّراً، وتذكّر المدير شیخ الفرّاشين فاستدعاه وسأله:

-       كيف تجرى الأمور في الحجرة (۱۲)؟

-       لا أدري یا سیّدي ولكنها تضج بالأصوات.

-       كيف يتواجدون معاً وهي لا تتّسع لهم ولو جلس بعضهم فوق بعض؟

-       علمي علمك .. ولكن على أي حال فإن الضابط بالداخل أيضاً.

وذهب الرجل فنظر المدير من النافذة فرأى الليل جاثماً في الفضاء، وقد أضاءت المصابيح فشعّت أنوارها وانية (شاحبة أو ضعيفة) خلال الجوْ المشحون بالرطوبة العاصف بالرياح المزمجرة، وجاء طابورٌ من خدم المطعم يحملون الصواني المكتظة بالأطعمة، فازداد عجبه، وقال لنفسه إنه لا يوجد بالحجرة إلا خوانٌ واحد، فأیْن تُصَف الأطباق؟، وكيف يتناولون الطعام؟، وأخبره أحد الفرّاشين أن باب الحجرة لم يعد يُفتَح، وأن الأطعمة أُدْخِلَت من شرّاعة الباب، وأن الضحكات الصاخبة تجتاح الدور كُلّه، وأصبح المشهد كُلّه يعز على التصديق.

ورجع الفرّاش بعد نصف ساعة ليؤكّد له أن القوم يسكرون، فقال له:

-       لم أرَ زجاجةً واحدة.

-       لعلّها هُرِّبَت في الجيوب .. إنهم يغنون ويصرخون ويصفّقون، تلك حال سُكْرٍ وعربدة .. وفِسْقٌ أيضا فالنساء هناك لا يقلّون عن الرجال عَدّاً.

-       والمخبر ؟

-       سمعت صوْته يغني "الدُنيا سيجارة وكاس".

وقصف الرعد في الخارج فقال المدير لنفسه "جائزٌ جداً أني أحلم .. وجائزٌ أني جننت"، وإذا بجماعةٍ من عامّة الشعب - تنطق وجوههم وملابسهم بشعبيّتهم - قَدِموا، وسأل سائلهم:

-       هل السيدة "بهيجة الذهبي" تقيم هنا؟

فابتسم المدير يائساً، واتصل بالمرأة ، فرجته أن يجعلهم ينتظرون في الاستراحة وأن يقدّم لهم المشروبات، فأشار الرجل لهم نحو الاستراحة فأمر بتقديم الشاي لهم، فامتلات الاستراحة وازداد "سيّد الأعمى" قلقاً، وجعل المدير يبتسم یائساً ويغمغم:

-       لم يعد الفندق فندقاً، ولم أعد مديراً، لم يعد اليوم من الزمان .. فليرقص الجنون ما شاءت له اللحوم والخمور .

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent