خبر
أخبار ملهلبة

الفصل الأوّل | للحب آلهةٌ كثيرة (1)


طفل صغير يرتدي ملابس بيضاء ويمسك بقوس وسهم ويجلس على السحاب ووراءه القمر تشبيهاً لإله الحب كيوبيد

"للحب آلهة كثيرة" | الفصل الأول (1) 

 


كاد النهار أن ينتصف عندما كان طلبة الفرقة الأولى بكليّة طب "عين شمس" ينصرفون خارج المدرّج بعد أن انتهت محاضرة "علم الأجنّة"، وحدها لم تكن في عجلةٍ من أمرها كباقي زملائها الذين أسرعوا ليلحقوا بأماكنٍ في الصفوف الأماميّة لمحاضرة "التشريح" العملية بمشرحة الكليّة حتى يتسنّى لهم رؤية ما يشرحه المدرّس على الجثّة عن كثبٍ وإمعان، ولم يكن تباطؤ "بسمة" في الانصراف عن كسلٍ أو لا مبالاة بل لأنها أحسّت بدوارٍ خفيف أثّر على نشاطها المعهود ففضّلت ألّا تغامر بالوقوف حتى تتمالك نفسها وتتأكّد من وعيها الكامل الذي تحتاجه لتكمل باقي يومها الشاق، ولم يتبقَّ سواها في المدرّج الذي خلا من جميع الطلبة إلّا من زميلٍ لها كان يصطنع الانهماك في لملمة أوراقه وكتبه في حين أنه كان يختلس النظر إليها فقد أحس بأنها ليست على ما يرام عندما لاحظ أنها تمسك رأسها بكفيْها تارةً أو تنكفئ للأمام تارةً أخرى أو تتذقّن على يديْها تارةً ثالثة، واستمر الزميل الوسيم في متابعتها عسى أن تحتاجه فيساعدها في أيّة لحظة، وبالفعل صدق حدسه عندما حاولت الوقوف ولكنها ترنّحت عندما زادت وطأة الدوار عليها فتداعت على مقعدها مرةً أخرى في ضعفٍ وعدم اتّزان، فتوجّه الزميل من فوْره إليها وسألها في تردّد :

- شكلِك تعبانة .. تحبّي أساعدِك ف حاجة؟

- آآآآه .. لو سمحت ممكن تجيب لي كوبّاية ميّه؟

- طبعاً طبعاً .. أنا معايا إزازة ميّه معدنيّة صغيّرة .. اتفضّلي أهِه.

- شكراً.

وأخرجت "بسمة" شريط أقراصٍ من علبة دواء واستخرجت منه قرصيْن وأودعتهما فمها الصغير وأغرقتهما بدفعةٍ من الماء حتى غاصا داخل جوْفها واستكملت حديثها مع زميلها بصوتٍ مرتعشٍ ضعيف ينم عن الوَهَن والذبول :

- متشكرة قوي .. أصل انا باستمرار ضغطي واطي .. وما فطرتش كمان النهار ده الصُبح.

- ألف سلامة عليكي .. طب ح اروح اجيب لِك سندوتشين بسرعة.

- لأ لأ .. سندوتشين إيه! .. ما فيش وقت .. يا دوبك نلحق سكشن التشريح.

- بس انتي شكلِك لسّه مش متظبّطة .. خليكي قاعدة شويّة احسن تدوخي تاني.

- لأ انا الحمد لله بقيت كويّسة .. عن إذنك.

وهبّت واقفةً بعد أن استجمعت قواها وحملت شنطتها وابتسمت لزميلها وأخذت في الابتعاد عنه وهو يشيّعها بعيْنيْه، ولكنها ما إن خطت بضعة خطوات حتى تعثّرت في مشيتها وقبل أن تقع كان زميلها قد لحقها وأمسك بها وأصّر على أن يقوم بتوصيلها لعيادة الكليّة؛ وهناك قام أحد الأطباء بالكشف عليها وأمر الممرّضة بأن تشرف على إعطاء "بسمة" محلول به بعض الحقن لرفع ضغطها المنهار، ولم يتركها الزميل بل قام بتسنيدها حتى غرفة المحاليل وساعدها على أن تستلقي على السرير وغطّاها في حنان وجلس بجوارها ليطمئن عليها، وبعد أن قامت الممرّضة بعملها وانصرفت تاركةً الزميليْن وحدهما تشجّع الزميل وقال وعيْناه تبوح بتعابيرٍ تفوق الكلام :

- حمد الله ع السلامة .. حالاً ح تبقي كويّسة إن شاء الله.

- أنا تعبتك معايَّ .. أنا آسفة.

- ما تقوليش كده .. إحنا زمايل.

- بس انا متهيّأ لي إني أوّل مرّة اشوفك.

- مع إني بقى واخِد بالي منِّك وباشوفِك كل يوم.

- نعم؟

- آآآآآ .. أصلي باحب اقعد ف آخر المدرّج فبابقى كاشف الدفعة كلّها .. وبعدين احنا ما بقى لناش ف الكليّة غير شهر ونُص بس.

- ما اتعرّفتش بيك.

- أنا يا ستّي اسمي "كريم".

- أهلاً وسهلاً .. وانا....

- "بسمة".

- الله! .. وعرفت منين؟

- سمعت واحدة صاحبتك كانت بتنادي عليكي.

- إمتى؟

- من كام أسبوع كده.

- .......!

- ويا ترى ساكنة فين يا "بسمة" .. علشان اوصّلِك بعد ما تخلّصي المحلول.

- لأ شكراً .. أنا ح اتّصل ببابا ييجي ياخدني .. كفاية خلّيتك ما حضرتش سكشن التشريح.

- ولا يهمِّك .. أنا ح ابقى اخد كرّاسة حد من زمايلنا اللي ف المدينة الجامعيّة وانقل منه محاضرة السكشن ده ومحاضرة سكشن الفسيولوجي اللي بعده كمان .. وح ابقى ادّيها لِك تنقليها أو اصوّرها لِك.

- ده انا كده تقِّلت عليك خالص .. معلهش.

- أبداً أبداً .. بس برضه ما قلتي ليش ساكنة فين؟ .. ولّا ده سر مش عايزة حد يعرفه؟

- لا سر ولا حاجة .. أنا ساكنة ف "الزمالك" .. وانت؟

- أنا ساكن ف المدينة الجامعيّة .. أصل انا مش م "القاهرة" .. أنا م "الزقازيق".

- ياه .. تلاقيك بتتعب قوي ف السفر.

- لا ما انا واخد على كده.

وتوقّف الحديث فجأة وكأن الكلام قد نفذ من قاموسهما فظلّا صامتيْن واجميْن وقد اكتفيا بأن يتبادلا النظرات من حينٍ لآخر حتى قطع الصمت رنين الهاتف المحمول الخاص "ببسمة" التي ردّت:

- آلو .. أيوه يا بابا .. إزايّك؟ .. عامل إيه؟ .. لأ ما فيش حاجة .. أصلي ادّيتك رنّة بس لمّا كنت عند الدكتور علشان تكلّمني لمّا تِفضى .. أبداً دوخت شويّة وعلّقوا لي محلول .. أنا كويّسة واللهِ .. ما انا اللي باكلّمك بنَفسي أهُه .. بس تعالى خُدني بقى علشان ما اركبش تاكسي لوحدي احسن ادوخ تاني .. على مهلك ما تستعجلش انا لسّه فاضل لي ساعة على بال المحلول ما يخلص .. ماشي .. لمّا تبقى ع البوّابة رن لي .. حاضر .. طيّب .. مع السلامة .. محمد رسول الله.

ونظرت "بسمة" "لكريم" واستكملت حديثها معه قائلةً :

- ده بابا .. أصلنا ما لناش غير بعض ف الدنيا كلّها.

- ربّنا ما يحرمكوا من بعض أبداً .. طب وماما فين؟

- الله يرحمها .. اتوفّت وهيَّ بتولدني .. حتى ما ليش خلان أو أعمام.

- عاملة زيّي .. أنا كمان مقطوع من شجرة ما فيش غير عمّي اللي ربّاني بعد ما ابويَّ وامّي ماتوا ف حادثة قطر .. وعمّتي التانية سافرت"إيطاليا" مع جوزها وأخبارها اتقطعت من زمان.

- البقيّة ف حياتك.

- حياتِك الباقية .. ويا ترى بابا بقى بيشتغل إيه؟

- بابا عنده مكتب محاسبة كبير قوي .. وانت عمّك بيشتغل إيه؟

- نجّار على قَدّه.

- بس أكيد راجل عظيم علشان يربّيك ويتكفّل بيك لغاية ما توصل كليّة الطب.

- الله يكرمه ربّاني واهتم بيَّ أكتر من عياله الاتنين اللي طلّعهم م الإعداديّة وشغّلهم معاه ف الورشة علشان ما كانش يقدر يغطّي مصاريف الدراسة بتاعتنا كلّنا.

- ربّنا يدّي له الصحّة.

- يا رب .. أقوم انا بسرعة اجيب لِك عصير .. زمان ريقِك نشف م المحلول.

- يا سيدي ما تتعبش نفسك.

- تعبِك راحة .. دقيقة وراجع .. آه قبل ما انسى .. إدّيني رقم تليفونِك.

- آسفة .. بس ما اتعوّدتش ادّي نمرة تليفوني لحد.

- بلاش .. إدّيني رقم باباكي .. أنا بس عايز ابقى اطمّن عليكي مش أكتر.

- طب ما دام انت دوغري كده انا ح اثق فيك وادّيك تليفوني : 0103363334

- خلاص كتبته .. ح ابقى اتّصل بيكي بعد صلاة العِشا كده.

- طب رِن لي علشان اسجّل نمرة تليفونك.

- آسف .. بس ما اتعوّدتش ادّي نمرة تليفوني لحد.

- ههههه .. لأ صحيح رِن لي.

- مش ح ينفع واللهِ .. أصلي ما عنديش محمول أساساً .. تقدري تقولي كده توفير .. ما هو انا مش ح اطلب من عمّي يجيب لي محمول كمان .. كفاية عليه مصاريف الكليّة والمدينة الجامعيّة والسفر .. برضه لازم يبقى عندي دم .. ولّا إيه؟ .. ده انا باشتغل ف الصيف أي حاجة علشان اشيل من عليه شويّة .. أروح بقى اجيب لِك العصير .. سلام.

- سلام.

ولأوّل مرّة يخفق قلب "بسمة" بشدّة فقد سحرها "كريم" بطيبته وحنانه وصراحته وأسلوبه البسيط الخالي من التكلّف والاصطناع اللذيْن يصبغان شباب هذه الأيّام المترفين الذين يتصنّعون الغِنى والرفاهية.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent